اللغة العربية وسؤال الحضارة:(رجاء بنحيدا)
” إن الناس يبنون حضارة عصرهم ، وفق ” عالم اللغة ” وذلك ، لأنهم لا يحيون في نطاق عالم الموجودات، والأشياء التي تحيط بهم، ولا في نطاق الحضارة المادية ، والحياة الاقتصادية فقط ، وإنما هم خاضعون لعالم اللغة ، التي هي وسيلة تعبيرهم ، لأن الواقع يرتكز ، لا شعوريا، على العادات اللغوية للجماعة ” أحمد أبو زيد حضارة اللغة عالم الفكر ( الكويت ) أبريل ١٩٧١ ص12-
ولئن كان الواقع الحضاري لأي أمة مرتبطا بواقعه اللغوي وتحديدا بلغته الأصلية ، فهذا يستلزم حرصا شديدا على اللغة وخاصة إذا كانت هذه اللغة مستهدفة بالتصادمات والصراعات …بينها وبين اللغة الأم وباقي اللغات ..
قبل الخوض. في غمار الحديث عن اللغة العربية سأقف عند عبارة “سؤال الحضارة ؟” هو سؤال ذو بعد شمولي ، مرتبط بمستويات مختلفة سياسية اقتصادية اجتماعية ثقافية ، وهو أيضاً سؤال محمل بشحنة قيمية من حيث دلالاتها ورمزيتها ، من حيث ارتباطها ” بمشروعية التنافس والاستحقاق في صناعة الذات والتاريخ ”
وفي هذا السياق ومن هذا المنطلق ، كنت أتساءل، هل حقاً لغتنا الراقية عاجزة على أن تساير وتواكب هذا التقدم العلمي التكنولوجي ، وأن تنخرط في مخاض الحداثة التقنية التكنولوجية الاقتصادية ؟
مما لا شك فيه أن اللغة العربية لغة أبانت على تفوقها وتميزها ، مادامت لغة مطواعة تتماهى مع كل المتغيرات في مختلف العصور ،فإذا كانت هي لغة القصيدة ، فهي نفسها ذات اللغة التي خاطبنا بها الرسول عليه والسلام ، وهي نفسها ذات اللغة التي نزل بها القرآن الكريم ، وهي بالتأكيد نفس اللغة التي استعملها العرب إبان العصر الذهبي للحضارة الإسلامية في شتى الفنون من فيزياء وكيمياء وطب وفلسفة .وهي نفسها اللغة التي نتواصل ونكتب بها اليوم .
وهي اللغة ذاتها التي أثارت إعجاب كبار علماء اللغات من المستشرقين فاعتنوا بدراستها ،فنجد نودلكه يظهر دهشته من وفرة مفرداتها قائلا : ” إنه لابد أن يزداد تعجب المرء من وفرة مفردات العربية ،خاصة وأنه يرمز للفرق الدقيق في المعنى بكلمة خاصة ” ” نودلكه : اللغات السامية ، تخطيط عام ،ص 82
وهذا إرنست رينان يصرح منبهرا في كتابه ” تاريخ اللغات السامية “” ومن يوم أن ظهرت لنا وهي في حلة الكمال، إلى درجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر، حتى إنها لم يعرف لها – في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة ، فلانكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لاتبارى ، ولانعلم شبيها لهذه اللغة ، هي لغة ظهرت للباحثين من غير تدرج ، وبقيت حافظة لكيانها من غير شائبة ” محمد الخضر حسين ” دراسات في العربية وتاريخها دار المكتب الإسلامي 1960 ج ١ ط١ص 19
إنها اللغة العربية لغة علم ، ولغة العلوم الإنسانية ، والعلوم الرياضية والطبيعية والعلوم التطبيقية ، وكيف إلا تكون كذلك ، وفي والقرآن الكريم دعوة صريحة إلى الأخذ بأسباب العلم والمثابرة العلمية .
كيف ألا تكون كذلك ، وقد امتلك العربي قبل الإسلام معرفة علمية اشتملت على جملة واسعة من الحقائق العلمية ذات الصلة بالطبيعة والفلك والحساب والأنواء والطب والعقاقير
وكيف ألا تكون كذلك ، وقد تم استحداث المصطلح العلي العربي والمرادف للمصطلح الأجنبي ، عن طريق وضع قواعد النحث والاشتقاق والنقل والتعريب وغير ذلك .
وكيف ألا تكون كذلك وهي الغنية بعدد كلماته التي تصل إلى ١٢ مليون و٣٠٠ ألف كلمة .
هكذا هي لغتنا ، لغة ثراء ورقي وحياة،لغة كمال إن صح القول ، وهذا يؤكد أن التحدي الذي يواجهها اليوم ويواجه المدافعين عنها هو كيفية تطويرها حتى تساير الركب العالمي في جل الأبحاث ، ولم لا أن نجعلها لغة الحياة العامة ، لغة المؤسسات الرسمية وفي مختلف المرافق الإدارية أما المكابرة والامتناع عن التطوير والتطويع بدعوى حمايتها فهو تصنيم وتقديس إلى حد الهدم والتجميد .
ومن يدعي أن اللغة العربية قاصرة أمام تحديات مجتمع المعرفة ، وتقنية المعلومات ، فهو لم ولن يستوعب أن المشكل الأساس يكمن في المشاريع الإصلاحية المبرمجة التي تسعى إلى تطوير اللغة ، يكمن في طريقة تدبير هذه المشاريع وفي خلل وضع سياسة لغوية واضحة في مجال إصلاح الأداء اللغوي…
هو خلل نؤدي ضريبته اليوم أمام صعوبة مواكبة هذه التطورات، باستراتيجية لغوية محددة ومعلنة … خلل يتفاقم يوما بعد بوم ونحن نشاهد هذا السجال الحاد بين أزعومتين تحاولان الإجهاز على لغتنا ووطنيتنا وعروبتنا.
الأزعومة الأولى تهتف بتخلف اللغة العربية وعجزها عن مجاراة و مواكبة اللغات العالمية في الاصطلاح والتعبير ” فهي لغة لاتملك منطقا للتعامل كما أشار إلى ذلك والعالم الأمريكي ” لافين ” كتابه ” الفكر العربي the Arabe mind-حين انتهى ألى القول : ” إن علينا عندما نتعامل أو نتحدث مع العربي بالصبر ، علينا أن نستمع ، وعقب أن بنتهي العربي من كلامه أن نعيد تركيب ماقاله لنستطيع أن نفهم ماقال ” ص194
هو ادعاء فيه نوع من التحيز والتشويه.، غرضهم واضح وحججهم ضعيفة لا ترقى إلى المنطق هي أزعومة تضاهي تلك التي تنادي بالتخلص منها في الإدارة والتدريس والاستعاضة عنها بالعامية أو اللغات الأجنبية ..
الأطروحة الثانية ترى أن لغتنا ضعيفة عقيمة لن تستطيع مواكبة مجال العلوم والتقنيات ..فهي لا تليق بالتكوين العلمي وغير جاهزة لاستخدامها في التلقين .
هكذا هي الحروب المعلنة وغير المعلنة على لغتنا التي تعرف مأزق الإطاحة بها والهجوم عليها من طرف اللغات الأجنبية ومن طرف اللهجات العامية التي تحاول اكتساح مجالها الحيوي وقلبها النابض وهو موطن المؤسسات التعليمية في سبيل وضع نهاية لها على حسب مزاعمهم .
أي مأزق هذا ، ولغتنا تشهد انفصاما بين أدوات المنظومة التربوية وشروط النهضة الحضارية !
أي مأزق هذا ، ولغتنا تشهد حملات كيد منظمة مستمرة ومتعددة المصادر ، تهدف إلى نبذها وإحلال اللغات الأجنبية والعامية محلها!
أي مأزق هذا ، ونحن نعيش تسيبا لغويا في غياب قرار سياسي واضح وصريح !
أي مأزق هذا ، وبعض الأصوات تنتصر للعامية على اللغة الفصيحة !”وأي عامية وهي غير موحدة ولا موحدة ، وإنما هي لهجات محلية محكية ، لا يكاد يحصيها عد ، تتغير وتتبدل من قطر إلى آخر ، بل من مدينة إلى مدينة، ومن وقت لآخر ” الأفغاني : من حاضر اللغة العربيةص 129
وهل بهذه العامية نرتقي إلى سلم الحضارة أم سنهوي إلى درك الانحطاط والتشتت!
طبعا لا مسلك إلى الحضارة قي غياب لغة عربية فصيحة.
إن ما تحتاجه لغتنا العربية اليوم ، هو ذاك التدبير العصري المتين للتخطيط اللغوي ، بإنشاء مجمع لغوي حقيقي ومفعل و موحد، وسَنِّ سياسات لغوية وطنية تُنَاسِب حاجات التنمية الاجتماعية، والتقدم العلمي والمعرفي، وتصون كيان الثقافة العربية من التبديد كما تحصن اللغة العربية وتفرضها إلى جانب اللغات الأخرى في المحافل والملتقيات الدولية والجهوية . ومع إقامة وأكادِيميات خاصة، وأقسام للغة العربية في كل الجامعات، والتعريب الجزئي للتعليم والإدارة.
اما ما نحتاجه نحن اليوم ، هو أن نفتخر ونتباهى بلغتنا في كل المحافل واللقاءات حتى بستمر هذا الاعتناء والاهتمام بلغة أحبّها الله ورسوله ” إن من أحب الله أحبه رسوله المصطفى ، ومن أحب النبي العربي أحب العرب ، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي نزل بها أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ، ومن أحب العربية عني بها، وثابر عليها، وصرف همته إليها ” فقه اللغة وسر العربية ص 2
ربما بهذا الاعتناء والحب للغتنا نستطيع الانطلاق من جديد ، لتصبح هي أداتنا للتحرر والتحدي .
تحد ٍ يجعل حجم القواميس والمجامع يستوعب كل الألفاظ الممكنة المتواضع عليها حتى لا تصبح نَشازا ، وتُعطى لها حق الإقامة وشرعية التداول فتحصل الكلمة العربية على حرية الانتقال والتجوال وحق المواكبة وحق الاعتراف ؟!
حق ممارسة لغة حديثة ، في الأدب والفكر والصحافة تواكب التحول الثقافي وتفصل بين البعد الديني للعربية وبعدها البشري في سبيل وحدة لغوية تجمع كل المجتمعات العربية.