آليات التقريب التداولي وتقريب المنطق عند الغزالي(الدكتور أحمد الفراك)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه..أما بعد
يظل الغزالي واحدا من أهم الفلاسفة الذين عَبَرَت تجربتهم الفلسفية تخوم التقليد، فعَبَّرَت عن تقلب دائم في المواقف المعرفية والوجودية، وحيوية فكرية عكست ذكاء وتطلعا مستمرا للتجديد وللتعالي في بحثها عن الحقيقة، وعلى خلاف عدد من الفلاسفة الذين حبسوا أنفسهم في الجولان فيما تركه غيرهم من مساحات ومقولات فلسفية مكررة، حرص الغزالي على أن تكون له طريقته في التصوف كما في التفلسف وفي الجواب على الفلاسفة ممن تقدموه ومناقشتهم، فكان بحق رمزا للإحياء الفلسفي رغم ما قيل عن تصديه للفلسفة ورده على المتفلسفة في كتابه “تهافت الفلاسفة”، فهو في هذا الكتاب لم يفعل شيئا أكثر من إعلائه من شأن التفلسف بشروطه في دفاعه عن نظرية طور ما وراء العقل..فقام حربا على مبتذلات الفكر الفلسفي وسطحيات الفكر الديني كما يقول أبو يعرب المرزوقي في كتابه” وحدة الفكرين”.
وفي علاقته بعلم الآلة أو المنطق، سعى الغزالي إلى استدخال هذا العلم العقلي وتقريبه وترصيفه في دائرة العلوم الإسلامية وتوظيفه بمنهجية مثمرة، على اعتبار أنه من علوم الوسائل التي لا يستغنى عنها، غايته البحث في ترتيب الحدود وتركيب الأدلة، ولا تأثير له في “فساد العقائد” كما ادعى بعضهم، ومن هنا اشتدت وطأته على من أنكر شرعية هذا العلم فاعتبره علما “غير شرعي” أو “علما “دخيلا”، فارتقى الغزالي بدفاعه عن “المنطق” ليجعل منه “القسطاس المستقيم”، الذي يقع به التمييز بين الصدق والكذب في الأقوال، وهي من متطلبات العلم النظري..وكان من حسنات الغزالي في جهده التقريبي لعلم المنطق، سعيه لتأصيله من خلال فهمه لآي الذكر الحكيم، فجعل يستخرج من القرآن الكريم ما يراه مناسبا لتقرير شرعية المنطق والنظر ..فجاء في كتابه “المنقذ من الضلال” و”محك النظر” و”معيار العلم” و”أساس القياس” وكتابه المشهور في الأصول بـ “المستصفى” باستثمار متقدم لأدوات هذا العلم ومقدماته بما منح كتابته رصانة وتماسكا ميزها عن كتابات غيره ممن ناهضوا المنطق وحاربوه..
لقد تمكن الغزالي كما يقول أستاذنا الفيلسوف طه عبد الرحمن في كتابه ” تجديد المنهج”، من التقريب العقدي للمنطق تقريبا بناه: “على “التشغيل”، توسل في ذلك بآليات ثلاث: أولاها، التحييد العلمي الذي قضت به قاعدة الاختيار، فرفع عن المنطق تهمة الإضرار بالعقيدة، وزيف اعتراضات ودعاوي المنكرين؛ والثاني، التأسيس القرآني الذي اقتضته قاعدة الائتمار، فجعل للاستدلالات المنطقية أصولا راسخة في الوحي وراجعة إلى العهود الأولى من نزول الرسائل الإلهية، والثالث، التأسيس الفقهي في تحقيق لمناط الحكم، وأرجع ما سواها من طرق تنقيح الحكم إلى التوقيف من الشارع”.
في هذا الكتاب الذي نسعد بتقديمه في مركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجة لواحد من خيرة أساتذة الفلسفة بالجامعة المغربية؛ الدكتور أحمد الفراك، وأحد الباحثين الشباب المميزين في مركز ابن غازي بدراساته المعمقة في المنطق وفلسفة الدين والابستمولوجية وفلسفة البيئة والمشترك الإنساني وفلسفة الأخلاق.
لقد حاول الأستاذ أحمد الفراك العودة للغزالي ولجهوده التقريبية لعلم المنطق، مدافعا عن صورة الغزالي وفلسفته، محاولا -وقد نجح في ذلك بكل تأكيد- إعادة الاعتبار لجهوده التأصيلية والتأسيسية لنموذج بناء العقل المسلم والمعرفة الإسلامية في تحيزها لمقولاتها ومبادئها(وهذا سر تماسكها وانسجامها)، وأيضا في قدرتها على الانفتاح والتكيف(وهذا سر حياتها وامتدادها).
لقد نجح الأستاذ أحمد الفراك -وكان موفقا- في تتبع الخيط الذي بدأه أستاذه الكبير الفيلسوف طه عبد الرحمن في دراسته لتجربة التقريب عند كل من الغزالي وابن حزم وابن تيمية وغيرهم، ولم يقف عند نتائج وخلاصات أستاذه بل تجاوز ذلك إلى إعادة فحص نصوص الغزالي وتقليبها وإعادة اكتشافها من جديد، فمتن “حجة الإسلام” لا ينضب، وكلما راجعه الباحث إلا وظفر منه بجديد، وذلك بسبب طبيعته الاكتنازية والمكثفة، والتي تجعل منه متنا حيا -بلغته الجميلة والأنيقة- على الدوام وصالحا لأن يُستمد منه في كل زمان ومكان، كيف لا وهو الذي يتعلم منه الباحث النظر والتفتيش مثلما يتعلم منه منهج الشك العلمي والمنهجي فيما يتناوله من موضوعات، وذلك قبل أن يبشر ديكارت بمذهبه الشكي في الفلسفة الحديثة..
هذا البحث الذي بين أيدينا اليوم فتح من خلاله الدكتور أحمد الفراك الباب من جديد لاكتشاف الغزالي من زوايا معرفية ومنطقية مختلفة، هذا النص يبعث فينا الرغبة الشديدة لنعود لنصوص الغزالي فنقرأها على ضوء مستجدات العصر في ميادين المنهج والمعرفة والنقد..فهي ما تزال عصية على التلاشي أو الاستسلام لغطاء الزمن والأحداث..فلقد عاش الغزالي التفلسف مثلما عاش التصوف..فهو حين يكتب إنما يكتب عن تجربته وعن ذاته وعن صراعاته وتطلعاته عن إخفاقاته ونجاحاته..
لقد كان الغزالي صاحب قضية في اعتقادنا، وهو ما يدركه جيدا أستاذنا الدكتور أحمد الفراك، فهناك ما يبرر تشغيل المنطق عند الغزالي في مشروعه الإصلاحي، فالرجل من جهة خاض معركة فكرية واجه فيها خطرا داهما هو خطر الإسماعيلية الشيعية بالدرجة الأولى، فالتمس في الآلة المنطقية سلاحه لنقد تلبيساتهم وتلفيقاتهم السياسية والدينية..
كما أن أزمة معرفية كانت تطل بعنقها على ساحة الفكر الإسلامي من خلال كثرة الفرق الكلامية التي ضجت بها الساحة في زمنه، فاستدعت البحث عن آلة ومنهاج لقياس معقولية أفكارهم ودعاويهم، فتبين له من خلال استدعاء علم المنطق كيف أن المصطلحات تعيش فوضى عارمة لا يضبطها قياس ولا حد، وأن الاستدلالات تغلب عليها السفسطة، فكان أن اختار المنطق “مفتاحا للعلوم” “ومعيارا للفهوم” جعل منه مقدمة لكافة المعارف المعتبرة حتى تنضبط لنسق معياري وعلمي..
في الختام، نسأل الله تعالى أن يجزي خيرا الباحث الدكتور أحمد الفراك على مساهماته وجهوده القيمة في إحياء الدرس الفلسفي العربي على أسس متبصرة، كما نرجو أن ينفع الله بعمله هذا طلاب العلم والباحثين في الدراسات الفلسفية والمنطقية والشرعية، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..