أزمة النظام التعليمي المغربي( يحيى بوافي)
« ce n’est pas seulement l’intérêt qui fait s’entretuer les hommes. C’est aussi le /dogmatisme. Rien n’est aussi dangereux que la certitude d’avoir raison. »
F. Jacob, Le jeu des possible
قد تتشابه المظاهر وتتوحد إلى الدرجة التي تتماثل فيها، فيصعب على الملاحظ من أول وهلة تمييز الحقيقي من الزائف والجوهر من المظهر، والضروري من الجائز، تماما مثلما يبدو في حالة اجتماع حشد من الوحوش الكاسرة على جثة فريسة ، واجتماع نحل في خليتة أو نمل في قريته ، ففي الظاهر الأمر نفسه ما دام هناك كثرة العدد، و أفعال فردية، لكن فرق بين مقصد وغاية الفعل في الحالة الأولى ؛ حيث الموضوع معطى وما يتم القيام به هو المسارعة إلى القد منه و التلهّف لإشباع النهم الأناني، و النظر إلى من هم في الجوار لا يدرك فيهم إلا التهديد و الخطر ،و الضعف وحده هو من يهزم الرغبة في القضاء عليهم، وبين الفعل المشابه في الظاهر في الحالة الثانية ، حيت القصد بلوغ ما لم يقو الواحد على تحقيقه بمفرده، والغاية تحقيق مراد الذات في تقاطع مع المشترك الذي يتطلع له الجميع في شبه انصهار دون الإجهاز على ما يشكل فرادة الأنا ويجعلها تُقاربُ الاحتضار، بل التحرك إلى تغييرها بفعل ارتدادي من خلال الإسهام بنكران ذات في تغيير الواقع الحاضر الذي تنتمي إليه و تنغرس فيه، لتأمين امتدادها المستقبلي في أحسن صورة ممكنة عبر نقل الأحسن للخلف بتوسل استشراف خصوصيات آفاق الآتي و أسئلتها الملحة .
وحتى لا نلبس الحيوانات عنصر القصد التي هي منه براء ، نقول إن التماثل المظهري الخادع المومأ إليه سابقا و الذي يظهر ما لا يضمر ، أشبه ما يكون من جهة الاشتراك و الاختلاف ، بتجمهر أشرار ناهبين على إثر كارثة ، و نظيره لأخيار لا تحركهم سوى الرغبة في الإنقاذ ويحفزهم نبل شعور التعاطف و تقديم يد المساعدة .
إن المساحة الدلالية فيما بين هاتين الصورتين هي التي على أرض منها يتنزل حال الواقع المأزوم لنظامنا التعليمي، فمن الظاهر تبدو “الحركات”(بتسكين رائها يصير مدلولها أبلغ في التعبير عن هذا الواقع، ويتشبع بكامل حمولته المخزنية !) في غاية التماسك و التوحد، و أن المجتمع يشارك فيها عن بكرة أبيه، و بأن الكل قد هرع ليشارك بنصيبه، لكن ما إن تتفرس ، حتى تكشف أن حشد المساهمين في هذه البهرجة، لا يجمعهم إلا الحديث عن موضوع وحَّدت التعبيرعنه سلطة اللسان وعباراته المصكوكة و المألوفة ولو اتسعت جبة هذا الأخير بقدر التَّنافر في الدلالات الذي يعصف بأذهانهم بخصوص ما يتحدثون عنه، لكشفت العجب العجاب من صور التنازع والتناقض، فالأعين تتوحد في التحديق وفي ما فيه تحدق، لكن ما خلف الأعين الناظرة وما يوجه تحديقتها الله وحده يعلمه وأصحابها ،أما الخطابات فما كانت يوما إلا لكونها تواري وتضمر بقدر ما تفصح وتسفر ، والإنسان ما كان كذلك ، إلا لكونه دون غيره من الكائنات قادرعلى المواراة و الإخفاء ، وبيان جدلية التجلي والخفاء هذه يجد تجسيده في النقطتين التاليتين، واللتان ما هما إلا نقطتان من يم ،لأن من يتطلع للإمساك بالخيط الهادي إلى التحليل المبين في هذا المجال حاله، في واقع الأمر، كما كانت تقول الأعراب، كحال مبتغي الصيد في عريسة الأسد .
الفئوية القاتلة والمسؤولية العائمة
الكل يردد أن قضية التعليم هي قضية أمة ومجتمع برمته، وأنه لا مجال للمزايدة فيها وبها، وأن الكل معني بها، وبغض النظر عما إذا كانت وصفةُ التوافق هي الأنفع في هذا الباب، و عن الحدود التي ينبغي أن يقف عندها مداه، أهي تغطيته للثوابت والغايات ، أم امتداده ليشمل الوسائل والأبعاد الإجرائية، فإن ما يحظى باتفاق الكل هو أن الفاعلين الأوائل في هذا المجال هم نساء ورجال التعليم على اختلاف أدوارهم و تباين مواقعهم، و خاصة من يضطلعون بمهمة التدريس منهم، لكن هل هذه الفئة لها الحد الأدنى من التجانس الذي يفرضه الدور السوسيومهني، والذي لا يعوق بأي حال غنى الاختلافات ولا يلغي خصوبتها ؟
من أول وهلة يبدو أن الفئوية هي العائق الأبرز الذي يفتح اللَّحد لكل تطلعات الإصلاح في هذا القطاع ، اعتبارا لكون التجانس، بالمعنى السابق، هو الكفيل بضمان رهان رابح، على قطاع لا يمكن أن يصل إلى تحقيق أهدافه من دون تعبئة ممارسيه، لكن كيف السبيل إلى التعبئة، في ظل تشردم و فئوية قاتلة، حيث توجه الإرساليات وكل فئة فرعية داخل الفئة الأوسع، تفككها بسننها الخاص، و حيث كل يغني على ليلاه، وكيف بتعبئة مدرسين هم عاجزون حتى عن تعبئة أنفسهم كمدرسين، بل صارت الفئوية تنخرهم ، والصراع الكامن بينهم، لا يفصح عن ذاته إلا من خلال مطالب التنسيقيات، التي تصاغ في الغالب بدلالة وضعيات الفئات الأخرى،حيث لا يتجاوز المنظور المتحكم في صياغتها القفا الأقرب إليه ! وحتى داخل الفئة الواحدة تجد ما لا حصر له من التمييزات فهؤلاء سبق لهم، وأولئك لم يسبق لهم …. ، والموحد دائما هو النهم في تحقيق المطالب وإعمال لآلية المماثلة والمقايسة حتى عندما لا تتوفر شروطها ، فالمهم هو الغاية، وللأسف فإن هذه الدعوى طالت حتى النصوص القانونية المنظمة، في صورة عمليات تتميم وتعديلات ومواد مكررة، و هي نتيجة كانت حتمية لشكل التعاطي مع المطالب التي غالبا ما تتحكم في الاستجابة لها النظرة القطاعية الضيقة ورديفاتها من حزبية و……، فكان أن تمخض جبل المطالب فأنجب جردان الشعور بالضيم والغبن والحقد الداخلي والسلبية التي تأتي قضما على آخر ما في الحافزية، وما جاورها دلاليا، من جذرية سيادة الاتكالية والبعد الانتظاري، ولعل الملاحظ النزيه لا يمكنه سوى إقامة نوع من التناظر بين حال التعليم و حال رجالاته، فلما كان التماسك خاصيتهم وديدنهم، ولما كان الإطار النقابي لا يحمل من المسميات والصفات سوى ” التعليم ” كان حال التعليم من جهة الأداء والنتائج يحمل على الأمل والطمأنينة النسبية، لكن حين طفقت معاول الفئوية في تشطير هذا الدال وتمزيقه، تحول الجسد التعليمي إلى فيالق فئوية صغرى، تناست ما يخلق تكاملها ووحدتها مع الفئات الأخرى، منزوية في ركنها الخاص، مُمعنة في تدبيج ما يميزها ويبعدها، لا ما يصنع تلاقحها ويقربها من غيرها، بل حتى داخل الفئة الواحدة – خاصة فئة المدرسين باعتبارها الأكثر كما و الأضخم عددا – تناسلت التنسيقيات كالطاعون أو بالأحرى كالخلايا المسرطنة التي صارت تنال شيئا فشيئا من مناعة الجسد التعليميي، ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا هذا تحاملا أو تشفيا، بل مرارة مبعثها الغيرة على مجتمع عبر الغيرة على ما يشغل موقع القلب منه.
كما أن الإشارة إلى هذا الحال تحذيرا من سوء المآل، لا يعني تحميل رجال التعليم المسؤولية، لأن حالا كهذا ما هو إلى إفراز لواقع أعم و كما قال أول من تصدى لمعالجة مشكلة التعليم، ونأى بنفسه عن الإسهام في البهرجة الرسمية حولها؛المرحوم محمد عابد الجابري :” إن كثيرا من رجال الدولة “صانعي القرار” إما يتخوفون من رجل التعليم وإما يحتقرونه. وهذه الظاهرة تعكس غياب الديموقراطية، أقصد بالخصوص غياب العقلية الديموقراطية، وليس مراسيمها وفولكلورها، ومن نتائج غياب الديموقراطية القرارات الارتجالية التي تصدر لتمس التعليم وسيره أو وضعية رجل التعليم و مسيرته. “(فكر ونقد ع23) ، فهذه الفئوية بما هي عرض للتردي، ما كانت لتكون لولا التردي، الذي طبع الواقع الحزبي،و بالنتيجة الواقع النقابي، اعتبارا للخصوصية المغربية، التي تجعل الثاني شاشة عليها ينعكس كل ما يعتمل ويمور في الأول، واعتبارا للمكانة التي يشغلها رجال التعليم في الأداء الوظيفي لكليهما، و اعتبارا كذلك لكون اليد الخفية التي تسللت عبر ظلام مصلحتها، هي التي أمعنت و تفننت منذ السبعينات في تحريك النصل القاطع للأواصر في هذا القطاع، متجاهلة أنها بإضعافه إنما تضعف المجتمع بأكمله وتزرع أسباب الوهن حتى في تربة حقوله المستقبلية .
هكذا صار التعليم أزمة بأنغام متنافرة، ومأساة بألوان قزحية منشطرة ، كل منظور يعزف نغمه النشاز وإلى جانب هذه الفئوية هناك فئوية أخرى وثيقة الصلة بالأولى وتشكل الحبل السري المغذي لها ، هي تلك الخاصة بمميزات المدخلات إلى مهنة التدريس ، و التي تطبع حتى خصائص المخرجات و ترهن مستقبلها ، و هي التي توقف عندها المجلس الأعلى للتعليم في تقريره السنوي لسنة 2008 ، حول ” حالة منظومة التربية و التكوين و آفاقها “، خاصة في الجزء الرابع منه المعنون بـ”هيئة و مهنة التدريس ” حيث جاء فيه :” …أدت الاختيارات التي تم تبنيها بالنسبة للمستوى الدراسي المطلوب من أجل الولوج إلى المهنة ، إلى انخفاض في تجانس مواصفات هيئة التدريس ، مما أدى إلى مشكلة إضافية على مستوى تدبير المسارات . و ملاءمتها مع الحاجيات الحقيقية. “و قد كان أبرز رهان للإجابة على هذه الإشكالية هو إحداث المراكز الجهوية لمهن التربية و التكوين ، التي ولدت هي ذاتها حاملة لنفس العاهة ،فكان الرهان خاسرا من البداية ؛ بحيث يسم الهيئة المضطلعة بالتكوين فيها لا تجانس صارخ، إذ تضم كل الفئات بدءا مدرسي التعليم الابتدائي وصولا إلى التعليم العالي ، فكانت كـ ” الهيولى ” من غير صورة وقابلة لكل الصور.
إن القرارات التي تنزل على الرؤوس من عل، هي التي تجعل رجال التعليم ،يحجمون، و يزداد أحجامهم حدة مع تواليها و مبادرتهم خمودا، إلى أن ينحصر كل واحد في شرنقته الخاصة ، مترقبا ومراقبا الوضع من منظور فئته، لتتكرس بذلك الفئوية التي هي الأخت الرضيعة للانتظارية، هذه الأخيرة التي لا تنحصر في المدرسين فحسب، بل تشمل حتى من يفترض فيهم أنهم “منظرون” و “باحثون”، فترى القوم لا تتحرك لهم رغبة في التأليف أو البحث، إلا إن أزفت ساعة اتساع قاعدة الزبناء عند موسم الامتحانات المهنية و المباريات، وهي تأليفات تأتي على مقاس ما هو مطلوب،كما ينتظر حشدهم صاما آذانه، حتى يؤدن فيهم فتقوم القومة وتراهم يهيلون على الواقع التعليمي من تراب التنظيرات المنقولة على تسرع وعجلة، حتى تتعسر عملية التشخيص، فما بالك بتقديم وصفات العلاج، فلا ندري عما نتحدث ونمسخ موضوعنا، وتمر العاصفة بعد حين ونعيد الكرة، ونظل نتسلى بالنَّط بين “الموديلات ” من “بيداغوجيا الأهداف ” إلى “بيداغوجيا الكفايات”، مصورين الثانية خصما للأولى تارة، و طورا منافحين على أنها نسلها الصالح النافع، و منهما إلى “بيداغوجيا الملكات ” والله يعلم والأدمغة الجامحة في جنوحها لأشباه منظرينا تعلم عند أي حد سنقف.
و حصيلة كل هذا الإمعان في الفرقة و اللبس في الرؤية، أن توزع دم المسؤولية في هذا القطاع بين الفئات، بالرغم مما تردده الألسن من ربط المسؤولية بالمحاسبة، والتدبير بالنتائج، فأول خطوة هو أن تتعين مواقع المسؤولية وألا تظل عائمة، إذ صارت أشبه ما تكون بنظيرتها في عرف الأقوام البدائية، هي في كل مكان وليست في أي مكان، وفي كل مرة يتطهر القوم من”الشر” بطقوس تقديم القربان: لطم على الخدود، وعض للبنان حسرة، وانتقاء قربان في خاتمة المطاف، و في جل الحالات يكون الأقرب لأداء هذه الوظيفة هو رجل التعليم ، خالدين إلى أسهل الحلول مكتفين بالشجرة، غافلين عن الغابة .
منذ الاستقلال، ونحن نحتفظ بالقبعات الحمر في هذا القطاع ، ونخلف موعدنا مع الثورة ، و في كل هبة نسير على السطح سؤالا و جوابا ، فلا نحصد سوى نقع الأفراس الزائفة ،و في كل مرة يتعالى الصياح بالشعارات فلا نتحسس في النهاية إلا صداها وهو يتلاشى مبتعدا عنا، فحكايتنا معه كحكاية الناسك مع الجرة، والنسك هنا ليس بمعنى الورع والتقوى الأقرب إلى معناه البروتستانتي، بل فقط بمعنى السلبية والزهد في الفعل، نضع جرة التعليم ،المملوءة بما ورثناه عن أسلافنا في غير تجانس مع ما ورثنا إياه الاستعمار، معلقة فوق رؤوسنا، لتتحرك عند كل موسم الألسن لائكة الخطب والشعارات، بينما ما في جوف الجرة متروك لحاله يزداد ركودا وفسادا مع توالي السنين، ونحن ندبج الخطط ونلقي الخطب، إلى أن يأتي يوم يحتد فيه الزعيق وتتنافس التلويحات في الإشارة إلى ناحية النجاة، فنكسّر الجُرة وعندها لن تسلم الجَرة ، إذ سيتذوق الكل غصبا ما في داخلها ، لكن هيهات بعد أن يكون قد صار سما زعافا !