أزمة كرونا وبنية العقل الغربي (محمد نافع العشيري)
لا يختلف اثنان في أن أزمة “كوفيد19”) الاسم الرسمي لجائحة كرونا(، ليست أزمة عابرة، بل هي أزمة ستحدث، بلا أدنى شك، تحولات عالمية كبيرة؛ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا وفلسفيا.
ولعل أهم الارتدادات السياسية للأزمة ستتعلق على المستوى الدولي بمستقبل الاتحاد الأوروبي والصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، والتحالفات الجيوستراتيجية الجديدة، وصفقة القرن… كما ستتعلق على المستوى الاقليمي بمستقبل الحروب في سوريا واليمن وليبيا… أما على المستوى الاقتصادي فان تداعيات الأزمة بدأت تظهر منذ الأيام الأولى، والتي تمثلت في انهيار البورصات وأسعار النفط، و إفلاس العديد من الشركات، و ارتفاع نسبة البطالة و المطالبين بالتعويض عن فقدان الشغل، وتراجع نسب النمو والناتج الداخلي الخام… لكن ما يُهمّنا في هذه المقالة هو الصدمة التي أحدثتها الأزمة في العقل الغربي، وارتفاع دعوات إلى وقفة تأمل في بنيته التي تشكلت بعد عصر النهضة وما لحقته من تحولات قامت على ركائز أهمها العقلانية كمرجع علمي وفلسفي، واللبرالية كنظام حياة، و الرأسمالية كنظام اقتصادي.
إن الانتشار الكبير للفيروس في الدول الغربية بصفة عامة، يذكر بقصة ذلك القائد الاسباني الذي كان يعيش حياة مترفة في إحدى الفيلات إبان الحرب الأهلية الاسبانية. فعندما حذره مرافقوه من اقتراب العدو، نظر إلى الأثاث الثمين والهندسة الجميلة للفيلا والمناظر الخلابة التي تحيط بها، فأخذت بلبه، وطلب منهم البقاء لليلة أخرى، وأخبرهم أنه يستبعد وصول أعدائهم قريبا. لكن لم يكد ينتهي الليل حتى حاصرته القوات المعادية، وقتلته شر قتلة.
هل يخفى وجه الشبه بين قصة هذا القائد وما حدث في الكثير من الدول الأوربية والأميركية؟
تكشف المقارنة بين ما حدث في الصين، بؤرة الوباء، من احتواء سريع للمرض وبين الوضع الأوروبي الذي تعامل باستهتار كبير مع هذه الجائحةPandemic ، أعطاب كبرى جعلت الباحثين يضعون علامات استفهام كبرى حول هذا التأخر. كما جعلت بعض الدول و المؤسسات تتبادل الاتهامات بعد أن تفاجأت بحجم الخطر المحدق بها والضحايا الذين خلفتهم الجائحة، كما هو حال ايطاليا مع دول الاتحاد الأوروبي، وموقف ترامب من منظمة الصحة العالمية والصين…
لكننا نرى أن هذا التراخي هو نتيجة طبيعية لبنية العقل الغربي الحديث، و تجلياته المفهومية، خاصة مفهوم الحداثة الذي أله العقل واعتبره صمام أمان أمام كل المخاطر التي يمكن أن تواجه البشرية مستقبلا.
لقد بدأت النزعة العقلانية، كما هو معروف، عند فلاسفة اليونان خاصة سقراط الذي أحدث قطيعة مع نزق كبير آلهة الإغريق زيوس، حيث حلت القاعدة Nomos محل المشيئة الإلهية. كما أحدثت حواراته قطيعة مع الحقائق المطلقة، وفتحت المجال للنقد والمساءلة. و كذا أرسطو الذي وضع اليد على مبادئ العقل، وأسس المنطق الذي سيعتبر الآلة الوحيدة المنتجة للمعرفة العلمية الحقيقية. وقد انتقلت هذه النزعة العقلانية إلى أوروبا إبان عصر النهضة، وخاصة مع فلاسفة ورياضيين أمثال ديكارت وسبينوزا وليبنيز… وهذا الاتجاه يرى عموما أن كل معرفة يجب أن تعتمد على قوى الإنسان المعرفية الطبيعية من حس وتجربة ومحاكمة عقلية، وحدها دون غيرها، في اكتساب معرفة بالكون ككل وكأجزاء، لا بل لتشييد رؤية للعالم يكون فيها من التماسك والانسجام ما يلبي طموح العقل إلى إضفاء الوحدة والنظام على شتات الظواهر، ويرضي نزوعه الملح والدائم إلى طلب اليقين.
ولم تكن العقلانية القديمة تعارض الدين أو تواجهه، بل كانت تسعى إلى الموافقة بين الحكمة والشريعة؛ نجد هذا عند مدرسة الإسكندرية؛ حيث كانت محاولة التوفيق بين تراث العهد القديم والنزوع العقلي للحضارة اليونانية، وكذا عند فلاسفة العصور الوسطى، خاصة القديس أوغسطين، الذي سعى إلى التوفيق بين تعاليم المسيحية والفلسفة الأرسطية، كما نجد ذلك عند الفلاسفة المسلمين وعلى رأسهم ابن رشد. ولم يبتعد فلاسفة النهضة كثيرا عن هذا الأمر، حيث لم يكن تمردهم على الدين كدين كما يتصور البعض، بل على الكنيسة وفهمها للدين وتطبيقاتها له. فقد كان كل من جليليو ومونتني ونيوتن وايمانويل كانط مسيحيين متدينين، كما حاول البعض تقديم رؤى جديدة للدين كما فعل جون لوك وفولتير في كتيبه “حول التسامح”.
لكن هذا لم يمنع وجود تيار راديكالي سيجد تطبيقاته في بداية القرن العشرين، خاصة مع التيار العدمي الإلحادي الذي قادة الفيلسوف نيتشه والقائم على موت الإله وولادة الإنسان الأعلى Superman، وكذا مع الفلسفة الماركسية التي اعتبرت الدين زفرة عالم بلا معنى و أفيون الشعوب، بالإضافة إلى الفلسفة الوجودية ذات المنحى العدمي.
أما على المستوى التطبيقي للعقلانية، فقد كان العلم الحديث من أهم تجلياتها، حيث أطلقت يده دون قيود بحثا عن الحقيقية العلمية و لا شيء غيرها. وقد كانت الحقائق العلمية وسيلة لإعادة النظر في الكثير من المفاهيم بما ذلك مفهوم الإنسانية، خاصة بعد نظرية داروين التي أرجعت الإنسان إلى أصله الحيواني، وجعلت الفارق بينه وبين الحيوان فارقا في الدرجة لا في النوع، كما ساوت العلوم المعرفية بين الدماغ وبين الآلة، التي أصبحت قادرة على محاكاة عمل الدماغ والتفوق عليه أحيانا، مما فتح المجال للانسلاخ من كل غائية أخلاقية أو حضارية. بل أصبحت هذه الأخلاق نفسها هي نتاج انتقاء طبيعي تم من خلال آلاف الأجيال. فلا عجب أن يتجه العلم في أكثر تطبيقاته، كما يقول الفيلسوف طه عبد الرحمان، إلى إشباع هذه الرغبات الحيوانية، جنسا بلا حدود، وفتكا بدون رحمة. لكن الخطير في هذه النزعة العقلانية العلمية هي عدم القدرة على تقديم بدائل؛ اذ هدمت الميتافيزيقا، في مقابل التبشير بالكشف عن كل الحقائق مستقبلا، مسنودة بالمنجز المبهر في عدد من المجالات.
لقد بشرت الحداثة بالسيطرة على الطبيعة والتحكم في الرياح بواسطة الرياح كما يقول الفيلسوف آلان، و أسلمت نفسها للعقل، ووثقت ثقة عمياء في مؤسساته ومختبراته العلمية. فهذا الكائن الخارق الذي سبر أغوار الفضاء وفك الجينوم وبنى الواقع الافتراضي و استبدل الذكاء الإنساني بالذكاء الاصطناعي، واستطاع تخرين الموارد في محطات ضخمة Bigdata، وحول العالم إلى ذاهل أو مصفق لانجازاته، بما في ذلك فلاسفة كبار من طينة الفيلسوف الفرنسي “لوك فري” الذي تحول في كتاباته الأخيرة إلى مجرد مشهر لانجازات الذكاء الاصطناعي ومؤسسات فايسبوك وغوغل وأمازون… هذا العقل لا يمكنه أن يعجزه فيروس تاجي عليل يزحف لمدة تعادل الأربعة عشر يوما ليبني أعشاشه. لكن أزمة كرونا هددت هذه الوثوقيات الكبرى فوقف العقل عاجزا، و ظلت المؤسسات والمختبرات العلمية تتخبط في تصريحاتها و توقعاتها التي تذهب إلى أن الزمن الكافي لاكتشاف لقاح فعّال يتراوح بين السنة والسبع سنوات، وسقط السوبرمان النتشوي، وعاد الكثيرون إلى طرح أسئلة الوجود الكبرى والبحث عن الملجأ الروحي الذي يمكن أن يخفف من وطأة الخوف من الإصابة بالمرض، أو يشد عضد الذين جرهم الفيروس المجهري إلى غرف الإنعاش و العناية المركزة، والاحتماء بقيم الماضي النبيلة الداعية إلى التضامن والأخوة والتعاون والتكافل.
كما عادت أزمة كرونا لتسائل اللبرالية المطلقة التي حالت دون الامتثال السريع للشعوب الأوربية، على خلاف الصينيين، لمطالب التباعد الاجتماعيSocial distancing و الحجر Quarentine والعزل Isolation لكنها اضطرت، تحت هول أرقام الإصابات و الوفيات، إلى الإذعان لتعاليم الدولة الصارم لفرض حالة الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي واغلاق الحدود… والمعلوم أن الحرية، وهي قدرة الفرد على اتخاذ القرارات أو تحديد وجهة نظره دون أي شروط أو قيود من أحد، كانت موضوع تأمل فلسفي من اليونان إلى اليوم، لكن التنظير الحقيقي لها بدأ مع فلاسفة عصـر الأنوار. فقد كتب ديدرو:” ان الحرية هبة من السماء، ولدى كل فرد من النوع نفسه الحق في أن يستمتع بها كما يستمتع باستخدام العقل”. ولهذا ارتبط مفهوم الحرية في أوروبا أساسا بمفهوم الدين؛ حيث كان يقصد بها أولا حرية العقل الذي يرفض أن يتقيد بأوامر الدين ونواهيه.
أما التجسيد الحقيقي لها فقد أعقب الثورة الفرنسية التي رفعت ثلاثية الحرية والأخوة والمساواة، ومن ثم أصبحت الحرية، وخاصة الحريات الفردية، انجيل الحداثة، يتوسع كلما وجد إلى ذلك سبيلا. وقد قامت هذه الحرية في وجه كل ما من شأنه أن يحد من حركتها؛ من أديان سماوية، وقوانين وضعية، وأعراف اجتماعية، وقيم أخلاقية… لتشمل حرية المعتقد وحرية الفكر وحرية الجنس.. الخ
لقد صاحب تحرير العقل في الحضارة الأوربية تحرير الجسد من الالتزامات الدينية والأخلاقية التي كانت تضعها الكنيسة وأخذت هذه الحرية سندا فلسفيا وعلميا. فهذا الفيلسوف الألماني نيتشه يبشر باله جديد على صورة الألماني البربري الوثني خاصة في كتابه” هكذا تكلم زرادشت” بعد أن قتل الإله القديم رمزيا في كتاب “موت الله”؛ حيث يعلن أن الإله الجديد أو “الإنسان الفائق” هو إنسان مقبل على متع الجسد بكل قوته. ويعلنها صراحة:” لن أسلك سبيلكم يا هؤلاء الذين يمقتون الجسد. طريقكم ليس بمعراج إلى الإنسان الفائق”.
وقد كان السبيل إلى هذا المعراج، هو تخطي الإنسان لذاته. ليس تفوق فرد على آخرين من جنسه، محققا من الكمال ما لا يستطيعون، و إنما تفوق جنس على جنس غيره أشبه بتفوق الإله على الإنسان. ولن يتأتي في نظر نيتشه تحقيق ذلك إلا بهدم كل القيم الأخلاقية المعتبرة)القيم المسيحية (وإبداع قيم جديدة غير مسبوقة، تقوم أساسا على قلب القيم:” فما كان يعد سلبيا، يصير معدودا في القيم الايجابية، والعكس بالعكس” وبما أن القيم المسيحية السائدة كانت تحتقر الحياة وتزدريها وتزهد فيها، فان القيم الجديدة لا بد أن تقوم على نقيضها؛ فتحتفي بالحياة و ترغب فيها. والحال أنه حيثما توجد الحياة، فثمة إرادة قوة. ويترتب على هذه الإرادة الجمع بين الأضداد مثل التقابل بين الخير والشر، والتقابل بين اللذة والألم، والتقابل بين السعادة والشقاء، والتقابل بين الإيمان والإلحاد، والتقابل بين الصدق والكذب، والتقابل بين العدل والظلم، والتقابل بين المرض والصحة، والتقابل بين الحياة والموت، والتقابل بين الذات والعالم، والتقابل بين العقل والحمق. ولما صارت القيم الأخلاقية مجرد تجليات لإرادة القوة كان لزاما عليها أن تنضبط لقانون الحتمية الذي تسعى المعرفة والعلم الى اكتشاف قوانينه.
أما الكاتب الفرنسـي ألفونس فرانسوا الماركيز دو ساد صاحب كتاب” الفلسفة في المخدع” فقد كان أكثر تطرفا؛ اذ أخذت فلسفته صبغة جنسية كلية، تقوم على مبدأين هما “السدومية” و” زنا المحارم” ماتحة من نفس المنبع الذي سيغترف منه رايش لاحقا، وهو مبدأ الطبيعية وقد سعى “دو ساد” إلى إزالة كل القيود والموانع التي تقف في وجه الاستمتاع الجنسي، بل تعداها إلى تعذيب الآخر لتحقيق هذه المتعة)من هنا جاء مصطلح السادية( ظانا منه أنه بذلك يحقق متعته هو أيضا، بل تعدى ذلك إلى الزج بنفسه في المخاطر والمهالك، واشتهاء لقاء الموت، ليظفر بلذته الكبرى.
كما كانت الانطلاقة الأولى للماركسية انطلاقة محررة للجنس وثائرة على التقاليد بما في ذلك الأسرة، التي اعتبرت من مخلفات البرجوازية، ووسيلة لاستغلال المرأة، قبل أن تحد من غلوائها، بعد ظهور سلبيات هذا التوجه.
ولم يصل تأثير أحد في الدفع بالحرية الجنسية مثلما بلغه عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد، بسبب استناد الكثير من نتائجه على نتائج البحث العلمي المخبري، المرجع المقدس للعقلانية الغربية.
فقد أرجع سيغموند فرويد حياة الإنسان النفسية الأولى إلى “عقدة أوديبوس”وهي أزمة نفسية يكابدها الطفل في لاشعوره، وقد تمتد آثارها إلى سن البلوغ. وهي بنية كونية تتحدد بها نفسية الإنسان. وحاصل هذه العقدة قائم على الاشتهاء الجنسي للأم والكراهية المطلقة للأب والغيرة منه؛ لأنه يمنع تحقيق هذه الشهوة أو ينافس الطفل فيها. هذا يعني أن الفورة الجنسية ملازمة للإنسان، لكنها تختلف باختلاف مراحل حياته؛ المرحلة الشفوية والمرحلة الشرجية والمرحلة القضيبية والمرحلة التناسلية. ولا يتخلص الطفل في نظر فرويد من عقدة أوديبوس إلا بمركب آخر هو مركب الخصاء، الذي يدفعه إلى اشتهاء امرأة أخرى بدل أمه، تجبنا للآلام المصاحبة للفقد، وحفاظا على عضوه من الجب، كما فقدته أمه أو أخته قبل ذلك. كما يساعده على استضمار المحرمات الخارجية التي تتحول إلى منبه داخلي، وهو ما يدخل الطفل عالم الأخلاق أو ما يسميه فرويد بالأنا الأعلى، وترافق هذه المرحلة من الصـراع بين الغرائز المتدفقة)الهو( والأخلاق الملجمة)الأنا الأعلى(تشكل الذات أو الأنا، وهي تكون سوية إذا استطاعت محو الفترة الأوديبيسية، وتكون غير سوية إذا تعذر عليها ذلك، فتنشأ أمراض عصابية كالخُواف والهُراع والوسوسة…
لقد تمثلت جدة فرويد في موضوع الجنس في توسيع الغُلمة) الدافع الجنسي( لتشمل كل أطوار الإنسان بدءا من طفولته إلى شيخوخته، وتوسيعه مناطق التشبيق لتشمل كل مواطن الجسم، وتوسيع أهدف الغلمة لتشمل الإشباع المادي والإشباع المعنوي كالأدب والفن والعلم، وتعميم الغلمة الذكورية حيثما تجلت”الواحدية الجنسية” وقد لزم عن كل هذا إرجاع كل السلوكات الإنسانية إلى الجنس، وتفسير كل الأمراض النفسية والعصبية إلى الكبت الجنسي، و إلغاء الفروق الجنسية بين الرجل والمرأة. ومن ثم كانت الدعوة إلى الحرية الجنسية والمثلية والسحاقية، باعتبارها دواء كل هذه الأدواء، عنوان المرحلة التي وجدت سندها العلمي في أعمال فرويد.
فكيف يمكن صد هذا المارد الذي تحول جسده إلى اله، وتحييزه في مكان ضيق باسم الحجر الصحي، وكيف يمكن كبح شهوته الجنسية وقد تحولت من غريزة طبيعية إلى جُناس)على وزن “فُعالٌ” الدالة على المرض( وهوس يشبه هوس بطل”لوليتا” لفلادمير بوناكوف؟ وكيف يمكن تقييد حركة أحفاد كولومبوس و ماركو بولو وردهم إلى قمقمهم وهم الذين أقسموا على قتل كل من يحررهم من سجنهم؟ فلا عجب بعد هذا أن نرى تأخر الحجر وسرعة تخفيف الإجراءات وخروج المتظاهرين إلى الشوارع بدون أدنى وسائل الوقاية مطالبين برفع القيود عن حركتهم، كما حصل في الولايات المتحدة الأمريكية التي تسجل كل يوم أرقاما قياسية في عدد الإصابات و الوفيات.