أزمة كرونا وسؤال الهوية(محمد نافع العشيري)
طرحت أزمة كرونا مجموعة من الأسئلة الفلسفية من قبيل سؤال الأخلاق وسؤال الحرية وسؤال الهوية. وقد كان هذا الأخير في صلب هذه الأسئلة، لأن تداعيات الأزمة مسّته بشكل مباشر، خاصة “الهوية الجغرافية والوطنية “؛ إذ عمدت الكثير من الدول، منذ الأيام الأولى للأزمة، إلى إغلاق حدودها البرية والجوية والبحرية. وفي خضم التدابير المتخذة، تم إعادة طرح سؤال الهوية والعودة إلى الذات لمواجهة الجائحة. وقد شملت هذه الدعوة دولا أوربية حداثية كانت تعتقد أن القطيعة مع الماضي هو قدرها. وقد اتخذت هذه العودة صيغا متعددة، من بينها الصيغة الفلسفية حيث تم الرجوع إلى التراث الفلسفي لفهم الأزمة/ الظاهرة؛ فهذا الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري يدعو في عز أزمة كورونا إلى قراءة أعمال الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين الذي عاش في القرن السادس عشر، والذي اشتهر بتأملاته الشخصية والتزامه العزلة. كما تم استعادة الحدث التاريخي؛ حيث نبش الكثير من المؤرخين في تاريخ الأوبئة التي عرفها العالم والسبل التي كان البشر يواجهون بها الجائحة، خاصة الطاعون والانفلوانزا والجدري والحصبة والتيفوس والكوليرا. وحظي الخطاب الأدبي بمكانة مهمة في خطاب العودة، حيث تم النبش في الذاكرة الشعرية والسردية والمسرحية لأهم الأعمال الأدبية التي تنتمي إلى “أدب الأوبئة”؛ كقصيدة “الكوليرا” لنازك الملائكة، وقصيدة “معسكر الكوليرا” للشاعر الانجليزي روديارد كبلنج، ورواية” دفتر أحوال عام الطاعون” للانجليزي دانييل ديفو، ورواية”الطاعون” للفرنسي ألبير كامو، ورواية “فارس شاحب” للأمريكية كاترين آن بورتر، ورواية “العمى” للبرتغالي لخوسي ساراماغو، ورواية “ايبولا76” للسوداني لأمير تاج السر، ورواية “الحب في زمن الكوليرا” للكولمبي غابرييل غارسيا ماركيز، ورواية “حرب الكلب الثانية” للفلسطيني إبراهيم صنع الله… وقد شكلت هذه العودة وسيلة للبحث في هذه السرديات الكبرى عن سبل مواجهة الأزمة، وطمأنة الرأي العام بمنطق انسني مفاده:” لقد حصل هذا من قبل، واستطاع الإنسان أن يتغلب عليه، فلا داعي للقلق. فالجائحة زائلة والإنسان باق، بالإضافة إلى الرسائل الضمنية التي تحملها هذه الأعمال الأدبية والتي تجمع على أن التعاون والتضامن ونكران الذات هي مفاتيح التغلب على هذه الأزمة.
ومن بين صيغ العودة، الصيغة اللسانية؛ حيث كان الرجوع إلى اللغة مسكن الكائن ومأواه كما يقول هيدغر، هامة على مستوى رتق الشروخ الوجدانية التي أحدثها التعدد اللغوي غير المعقلن، فهيمنة اللغات الوطنية والمحلية في الوسائط الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي، واختفت أو تكاد البرامج ونشرات الأخبار باللغات الأجنبية. ويمكن الإشارة في سياقنا المغربي إلى العودة القوية للغة العربية والأمازيغية إلى قنواتنا التلفزية ويكفي الإحالة إلى تصريحات وزارة الصحة في شخص السيد محمد اليوبي لتأكيد الأمر؛ إذ يعرض الحصيلة اليومية التي ينتظرها كل المغاربة بلغة عربية فصيحة في إشارة إلى المظلة اللغوية التي تجمعنا كمغاربة برغم اختلاف لغاتنا ولهجاتنا ومنوعاتنا.
أما العودة المهمة في سياق الأزمة فكانت هي العودة إلى القيم الدينية، على اعتبار أن الجائحة أحدثت صدمات نفسية كالخوف والجزع والرهاب والعصاب…، فكان لابد من البحث عن قيم من جنسها أو قريبة منها وأقصد القيم الروحية.
وكان لابد على الحضارة الإسلامية، لأنها حضارة قيم روحية بالدرجة الأولى وحضارة معاندة للحضارة الأوربية المادية، أن تتصدر المشهد وتقدح قيمها، فتمت العودة إلى أصول هذه الحضارة وتراثها للبحث عن العلاجات الضرورية للأعطاب النفسية والاجتماعية التي خلفتها الجائحة. وهو تراث، كما هو معروف، غني بالقيم الروحية الداعية إلى الصبر والعزلة والرضا والزهد والقناعة والتضامن والتضحية في سبيل الجماعة…
ويكشف التحليل الذي قدمه كل من “صمويل هنتنجتون” في كتابه” صدام الحضارات” و”فرانسيس فوكوياما” في كتابه” نهاية التاريخ” لطبيعة الصدام بين الحضارتين الغربية والإسلامية عن نظرة مختزلة وتجزيئية مقلوبة، إذ ركزت فقط على قيم الحرية والديمقراطية الغربية في مقابل القمع والاستبداد الإسلامي الشرقي.
لكن المتأمل في الفروق بين منظومة القيم الأخلاقية التي تحملها الحضارة الإسلامية و منظومة القيم الأخلاقية للحضارة الغربية، أن هناك فروقا جوهرية لا تقبل المصالحة بينهما؛ إذ يتعدى الفرق المضامين إلى الشكل؛ فهما يختلفان في صيغ المرجعيات وخصائصها. فبينما تستند المنظومة العربية الإسلامية إلى نصوص مرجعية هي القرآن والسنة، وكل الاجتهادات التي ارتكزت على هذه المرجعيات، نجد أن مرجعيات القيم في الحضارة الغربية تمتاح من منظومة القيم الغربية ومرجعية الحداثة ذات النزعة الأصولية اليونانية، المتمثلة أساسا في العقلانية والحرية والعلمانية والرأسمالية، لكنها قيم أصبحت تقف في السنوات الأخيرة على أرض هشة أساسها الوحيد هو هذا العقل الجمعي الذي يتحول باستمرار تحت ضغط اللبرالية الجديدة التي أصبحت تسير بالقيم الأوربية إلى الهاوية تشبه تلك الهاوية التي ساق إليها عازف الناي فئران هاملن في القصة المعروفة في التراث الألماني” بقصة الفئران و عازف الناي”. أما مضامين قيمهما، فبالرغم من أوجه الاشتراك الكثيرة بينهما إلا أن قيم الغربية أصبحت تسير شيئا فشيئا نحو الفردانية والعزلة والأنانية، مع ما يشكل ذلك من انعكاسات خطيرة على بنية الفرد النفسية والذهنية والسلوكية، وكذا على بنية المجتمع التي تتجه كل يوم نحو التفكك.
ففي مقابل العقلانية المجردة التي تتعامل، منا يقول الفيلسوف طه عبد الرحمان مع كل الأشياء باعتبارها ظاهرة وهي:” كل ما يظهر للعيان محددا في الزمان والمكان، وحاملا لأوصاف تقوم بينها علاقات موضوعية كما في نزول المطر… “، تقوم منظومة القيم الإسلامية على الإيمان والروحانية والعقلانية المؤيدة التي تتجاوز النظر الملكي إلى النظر الملكوتي، وهو نظر يرتقي بالأشياء من رتبة الظواهر إلى رتبة الآيات:”والآية هي الظاهرة منظورا إليها من جهة المعنى، الذي يزدوج بأوصافها الخارجية، دالا على الحكمة من وجودها، وهذا المعنى هو عبارة عن قيمة ينبغي لمن يدركها العمل بمقتضاها كما هو معنى الحياة الذي تشير إليه ظاهرة نزول المطر… “وان كانت العقلانية المجردة نفسها لا تخلو من إيمان، كما يقول الفيلسوف طه عبد الرحمان؛ إذ إن الصلة بين الفكر والإيمان أعقد من أن يبث فيها إيجابا أو سلبا بإطلاق. كما أن الفكر لا يستقل بالعقل، بل أيضا يشاركه الإيمان فيه.
وتنتصب الديانية في مقابل العلمانية، التي رفعت إلى مرتبة الكونية، بالرغم من أنها لا تشكل سوى مقال بشري لمقام تاريخي عاشته أوروبا خلال العصور الوسطى، وتم فرضه بالقوة على العالم، وهو نظام لم يكن ليحفظ بالضـرورة المساواة بين الأديان ويكفل حرية العبادة، كما يشهد على ذلك واقع الحال.
وتتصادم قيم القناعة ونبذ الإسراف والتواضع والمحوية والإيثار مع قيم الفلسفة الغربية خاصة مفهوم الاعتراف بالذات مع هيجل، والذي ذهب به فرنسيس فوكوياما مذهبا بعيدا؛ حيث صعده إلى أقنوم الأقانيم. “فقد انتزع من الأفلاطونية الترسيمة التبسيطية التي أتى بها مؤسس العقلانية الإغريقية أفلاطون، ليصور من خلالها صراع الميول والقيم في ذات الفرد الإنساني واختار جانب الميول، أو ما كان أطلق عليه أفلاطون اسم التيموس thimos)(. وهو هذا الجزء الراغب من النفس والطامح إلى تأكيد الذات، وانتزاع اعتراف الآخرين بها.كما تتعارض مع قيم الرأسمالية الاستهلاكية.
وتتعارض فلسفة الحرية الإسلامية المشروطة مع الحرية الغربية المطلقة والمنفلتة. لهذا لا نعجب إذا صدحت حناجر في الغرب، منادية بصدام الحضارات، باعتبار أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة الوحيدة القادرة على مواجهة القيم الحضارية الغربية وتهديدها، بعد أن أصبحت حضارات كبرى كالحضارة الهندية واليابانية والصينية والروسية تسير كل يوم للاندغام في منظومة القيم الغربية، باعتبارها نهاية التاريخ أو الإنسان الأخير بتعبير فرنسيس فوكوياما. وبناء عليه يمكن تحديد الفرق بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية في قيمتين أساسيتين متعارضتين هما؛ القيم المادية والقيم الروحية.
ولم تكن هذه القيم المادية وليدة التحولات الكبرى التي عرفتها أوروبا في القرون الأخيرة منذ الثورة الصناعية ونشأة الرأسمالية والحركات التوسعية وصولا إلى التعولم المعاصر، بل هي متجذرة في أصول هذه الثقافة، وخاصة في مرجعيتها اليونانية التي كانت قيمة السعادة مركزها كما يرى محمد عابد الجابري. ويلخص أرسطو الغاية التي يعيش الناس من أجلها هي: “السعادة والأجزاء التي تتألف منها”وحدد أجزاءها في:”كرم الحسب، وكثرة الإخوان، وجودة الأصدقاء، والثراء، وصلاح الأولاد، وكثرة الأبناء، والشيخوخة الصالحة، ثم فضائل الجسد مثل الصحة، والجمال، والقوة، وجزالة البدن، والكفاءة للمباريات الرياضية، وحسن السمعة، والشرف، وسعادة الجد والفضيلة”.
وبالرغم من أن المسيحية قد حاولت تغيير نسق القيم بالدفع بالقيم الروحية إلى الواجهة، لكنها وبحكم غلوها وانحرافها لم تستطع أن تحافظ عليها فتساقطت أمام ضربات فلسفة عصر الأنوار والثورة الفرنسية.