أشواق المغاربة في الحبّ النبوي الشريف (عبد الرحمن الشعيري منظور )
تميَز المغاربة منذ بزوغ نور فجر الإسلام على هذا البلد المبارك وتنسٌمهم عبير الإيمان الشجي، بمحبتهم العميقة لسيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، زاد من روحانيتها وشوقها قدوم السادة الأشراف آل بيت رسول الله للـــمغرب الأقصـى بقيادة المولى إدريس بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن سيدتنا فاطمة الزهراء وسيدنا علي بن أبي طالب عليهما السلام. ومن رحم هذه الوفادة الطيبة للعترة الشريفة وُلدت الشخصية المغربية الأصيلة المحبة للجناب النبوي المنيف، ولآل بيته وصحبه والمنافحة عن شرعه وسنته، وكيف يغفل المغاربة عن كنز محبته صلى الله عليه وسلم، وشرفهم الأسمى بانتسابهم للإسلام سُقي وغُرس واشتد عوده على يد ذريته التي عمَت المغرب بخيرها وفيضها دعوة ونورا، ازداد بهاءً وتألقاً بحفاوة استقبال الأمازيغ الأحرار وكرمهم، فهم الذين آووا ونصروا فحازوا شرف الإيمان الحق،كما ناله من قبلهم الأنصار الأولون رضي الله عنهم ” والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم” الأنفال:74.
فمن تجليات ومظاهر محبة المغاربة للرسول الأعظم مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولآله الأطهار، ما زخرت به عطاءات الفقهاء والعلماء، ونفائس صلوات وأذكار الأولياء والصلحاء من حظ وافر من التعلق والإقتداء بالهادي المحبوب سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما تحفل مختلف مناحي الحياة الاجتماعية للمغاربة سواء في الأفراح والأتراح وسائر المناسبات بدلالات وإشارات جميلة ملؤها الفرح والاحتفاء والتعظيم لسيد الكائنات وفخر البشرية مولانا محمد عليه السلام، ففي محبته والتعريف بشمائله الكاملة وسيرته العطرة وخصائصه الخلقية والخُلقية ألّف العلماء المغاربة الدرر والذخائر نذكر منها: كتاب”الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم ” للقاضي عياض السبتي رحمه الله، الذي تلقاه المغاربة وعموم المسلمين خاصتهم وعامتهم بالقبول الحسن مدارسة وتبركا بتلاوته لصلته وتعظيمه لمقام النبي عليه السلام الكريم عند الله عز وجل، كما ألّف الإمام السهيلي رحمه الله دفين مراكش في السيرة النبوية كتاب “روض الأُنف، في شرح السيرة النبوية لابن هشام” وغيرهما من الكتب القيمة المتيَمة بحب المصطفى عليه السلام وتوقيره في مختلف مجالات العلوم الإسلامية وبالأخص في الحديث الشريف والسيرة النبوية والتصوف مما يصعب جمعه وعدّه في هذا السياق، كما كان للمغاربة علو المنزلة في أدب الرحلة الحجازية التي كان قطب رحاها بعد ذكر حج بيت الله تعالى، زيارة مضجع النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وزيارة البقيع مرقد الكثير من آل البيت والصحب الكرام وغيرها من مشاهد الإسلام وآثاره، والتشويق لشد الرحال إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، ومن التحف المغربية في هذا المضمار “الرحلة العياشية” لأبي سالم العياشي رحمه الله و”الرحلة الناصرية الكبرى” لمحمد بن عبد السلام الناصري الدرعي. وللأثر الكبير والشوق العظيم الذي كان يسكن أفئدة المحبين لزيارة مضجع مولانا رسول الله فاضت عين المحبين بأشواق وأشعار وتراتيل تسيل لها دموع الحب ويهتزُ لها القلب والوجدان، خاصة ممن يحدوهم الشوق لزيارة البقاع المقدسة والروضة الشريفة، أو ممن منعهم عذر قلة الزاد وضيق ذات اليد، حتى نطق لسان حالهم على لسان الشيخ سيدي عبد الرحمن المجذوب رحمه الله ” الناس زارت محمد، وأنا سكن لي فقلبي”.
كما جادت قريحة المحبين المغاربة للجناب النبوي الشريف بمدائح وأشعار سارت بذكرها ركبان المؤمنين في سائر الأقطار، لما حفلت به من شوق ومدح وتوسل بخير الوجود والسبب في كل موجود، فبرز في هذا الباب صوفية المغرب بالعطاء الأوفى في ولههم بمدح الحبيب عليه السلام بقصائد شهيرة نيرة، وفي عشقهم لجلسات السماع الجماعي لقصائد “البردة” و “الهمزية” للإمام البوصيري رحمه الله، وبالأخص مع بزوغ هلال شهر الربيع الأول الأنور، كما تفتقت عن محبتهم العظيمة للنبي الكريم أذكار مباركة في الصلاة والثناء عليه بما هو أهله ،لا زال ذكرها جاريا إلى يوم الناس هذا، مثل “دلائل الخيرات” للإمام الجزولي رحمه الله، و”الصلاة المشيشية” للشيخ الشهيد عبد السلام بن مشيش رحمه الله.
وفي سياق الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف كانت مدينة سبتة من الحواضر الإسلامية الرائدة في ذلك على عهد إمارة العزفيين بها في النصف الأول من القرن السابع الهجري، كما حاز شرف السبق في التأصيل لذلك الإمام أبو العباس العزفي في كتابه” الدّر المنظم في مولد النبي المعظم” وهو بحسب العديد من المختصين أول من ألَف في الموالد، ومن تم صار الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف من العادات الجميلة للمغاربة التي يحفل بها شهر الربيع النبوي بكل مظاهر الجمال والفرح والحبور والاستبشار بالنبي الحبيب، وتتجلى في أبهى صورها إلى يومنا هذا في مجالس الصلاة على رسول الله عليه السلام، وفي دروس الشمائل المحمدية و السيرة النبوية ومجالس السماع بالمساجد والزوايا، وفي مواكب الفرح المحمدي بمختلف المدن المغربية، التي صارت تعرف مشاركة واسعة للصغار والكبار والشباب والنساء، مرددين أجمل المدائح والأناشيد في الشوارع والأزقة، مستمعين لطيب الكلم في سيرة خيرة الأنام عليه السلام، على الرغم من كل صنوف تضييق السلطات وتشويش بعض الجفاة هداهم الله تعالى. فقد كان بالأحرى على السلطة أن تنسجم مع شعاراتها الحقوقية المرفوعة، وأن تترك المجتمع يعبر عن فرحه وحبوره بمولد سيد الخلق في الشوارع والمسارح والملاعب الكبرى بكل أريحية كما هو الحال في العديد من دول العالم، لكن العقل المستبد لا يستكين له بال إلا بالتضييق والحصار على كل الفعاليات المجتمعية الحرة مادامت لا تذكره بالمجد والسؤدد في تلكم المناسبات المولودية العطرة، التي بقيت في حضن المجتمع المغربي -ولله الحمد- تلهج بالشكر لله عز وجل والثناء عليه على النعمة المسداة، والرحمة المهداة الشفيع المشفع في الموقف العظيم مولانا محمد صلى الله عليه وسلم، وديدن المغاربة المحبين الفرحين بمولد الحبيب ينطق بلسان حالهم أمام صنوف التشويش والتبديع، قول الشاعر المحب:
ألا يا محب المصطفى زد صبابة ++وضمخ لسان الذكر دأبا بطيبه
ولا تعبأن بالمبطليـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن فإنما++علامة حب الله حــــــــــــــب حبيبـــــــه
وقول المحب الشاعر:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه وتبت يداه في الجحيم مخلدا
آتى أنه في كل اثنين دائما يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي عاش عمره بأحمد مسرورا ومات موحدا.
ولمحبة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله الشرفاء في الحياة الاجتماعية للمغاربة حضور يعز نظيره، إذ ما زال معظم أهل المغرب يسمُون ابنهم البكر محمدا تيمنا بالاسم الشريف مع الحرص على تسييده تأدبا مع الجاه العظيم للحبيب المصطفى، وإذا رزقوا بتوأمين كان من عاداتهم أن يشرفانهما بحمل اسمي السبطين الأنورين الحسن والحسين عليها السلام، كما كان الاسم الشريف للسيدة فاطمة الزهراء وشخصيتها الطاهرة حاضرة في الوجدان العام للآباء والأمهات، ففي الغالب كانوا يسمُون كريمتهم الأولى باسم ” للا فاطمة الزهراء” التي لها عليها السلام لدى عموم المغاربة والأشراف منهم خاصة المكانة السامية العليَة في القلب والوجدان والمشاعر. كيف لا؟ وهي أم الأشراف الأخيار ومنبع عزهم الموصول بمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا الإثبات الصحيح استند ابن ضرير المراكشي في تأليف كتابه النفيس” إسماع الصم بإثبات الشرف من قبل الأم” ومما أخبرتني أمي الشريفة حفظها الله تعالى من ذكر أحوال الصالحات من المؤمنات والجدات في محبتهن للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، أن خيالهن المحب كان يعتبر أن قوس قزح بألوانه البهية إنما هو رمز لحزامها، وأن حبات فاكهة الرمان هي قطرات من دموعها وفي ذلك إشارات على المحبة المكنونة لأهل البيت لدى المغاربة التي وقَتهم بفضل الله تعالى وبجهود المصلحين من همزات الغلو الشيعي الرافضي.
ومن تجليات حب الرسول الأكرم عليه السلام في الحياة الاجتماعية المغربية، ما نشاهده في الأفراح والمناسبات السعيدة من ألوان مختلفة للصلاة على رسول الله بصيغة معروفة لدى الرجال” العاشقين في النبي صلوا عليه…” ولدى النساء” الصلاة والسلام على رسول الله، لا جاه إلا جاه سيدنا محمد، الله مع الجاه العالي” وعند قدوم شهر المولد الشريف تصدح المآذن والزوايا بقصائد دالة على الفرح والسرور يسميها أهل المغرب بالتبشير، وتقم النساء العجائز بتعليق أعلام بيضاء في شرفات المنازل، وترددن أهازيج خاصة تعددت بتعدد اللهجات المحلية بالبلد الحبيب، كما تتعاظم بمناسبة المولد الشريف سنة صلة الرحم وزيارة الوالدين وتجتمع الأسر على أطايب الطعام، مع تزيين العيال والأطفال بجميل اللباس المغربي الأصيل، ويكثر الناس من الصدقات والمكرمات تعظيما ومحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم القائل ” أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه، وأحبوني بحب الله، وأحبوا أهل بيتي بحبي” سنن الترمذي.
وللمغاربة أدب جمُ و عجيب في الصلاة على رسول الله فهي حاضرة معهم ترديدا وتبركا في سائر أحوالهم، فيرددونها في على سبيل الذكر عند فض الخصومات وتهدئة النفوس، ويؤكدون بها العهد والكلمة بقولهم بالدارجة “ما كتعود غير الصلاة على رسول الله” وتحضر في غيرها من المواطن تأسيا واقتفاء بسنة اندراجها في التشهد عند الصلاة، وحضورها بدءً وختاما في الدعاء عند الصالحين عملا بقول الله تعالى:” إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما” الأحزاب: 56 .
فهذا غيض من فيض من محبة المغاربة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، التي ستبقى أنوارها ساطعة جامعة لمعاني الحب والإتباع، ولحب الآل والصحب، لا تخرمها نوازع الغلو الشيعي الأخرق، ولا مضايق التدين الوهابي الأجوف، وستظل محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام هي العروة الوثقى للمؤمنين، ونور هذا الدين وبرهانه على العالمين مع كتاب الله المبين، وأختم بصلاة وسلام لأحد المحبين الكُمَل لرسول الله عليه الصلاة والسلام، المقتفين لأثره دعوة وجهادا ورحمة وعلما بالسند المتصل بأهل الله، ولا نزكي على الله أحدا ” اللهم صل وسلم تسليما كثيرا على محمد وآله وصحبه الذي جعلت طاعته من طاعتك، ومعصيته والتولي عنه كفرا، وبيعته من بيعتك، ومحبته من محبتك، عبدك ونبيك ورسولك ومصطفاك من خلقك، العروة الوثقى، وثوق كتابك الذي أنزلت، الحبل الممدود بينك وبين أحبابك وأصفيائك وأوليائك،سندا متصلا” الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، كتابالإحسان ، ج1 ،ص: 177.