أضواء على النقابات المهنية في حضارة الإسلام(مختار خواجة)_1_
الحقُّ في التنظيم والتسيير الذاتي عرفٌ عربي أقرَّه الإسلام وقوّاه، فالمجتمع الحضاري الإسلامي ليس مجتمع أفراد وفردانية وإنما مجتمع جماعة وتناصر؛ إذْ ينضوي المسلم تحت أطُرٍ ذاتية التدبير من الشبكات الاجتماعية والمعرفية والمهنية التراحمية، جذرُها القديم هو العائلة والقبيلة، وتجلياتها الحضارية لا تنتهي متعديةً العلاقات الرحمية إلى الأخويات والمذاهب والطوائف والطُّرق والحِرَف والتجمعات السياسية والتربوية.
كانت تلك الأوعية الاجتماعية تعمل شبكاتِ دعمٍ وحمايةٍ ووسطاءَ بين المجتمع والسلطة، تختلف مسمياتها من زمن إلى زمن ومن جغرافيا إلى أخرى، ولكن جوهرها واحد. ففي اللحظة التي وطئ فيها النبي ﷺ ترابَ طيبة، بل قُبيلها بأشهر؛ تحركت تلك الفعاليات الاجتماعية إلى أقصى دلالتها، فعرف المجتمع المدني مصطلح “النقيب” العشائري الذي يمثّل التجمع الأهلي أمام النبي ﷺ بوصفه “إمامَ الأمَّة والمنفردَ بالرئاسة الدينية والدنيوية” وفق تعبير الإمام الباجي (ت 474هـ/1081م) في كتابه ‘المنتقَى‘.
ثم كانت -كما سنرى- “نقابة” أهل الصُّفّة الذين هم مجموعة من الصحابة الكرام كانوا فقراء بلا عوائل أو قبائل في مجتمع المدينة، ومع جريان الزمن ظهرت النقابات المناقبية مثل “نقابة الأنصار”، بل إن بعضها كان عبارة عن تنظيمات ثورية سرية كـ”نقابة العباسيين” بصيغتها الأولى، كما عمل بعضها جماعة ضغط سياسية مثل “نقابة العلويين”. وكانت تلك النقابات المجتمعية تقوم إلى جانب ذلك بدور الرعاية والدفاع عن مصالح أعضائها، بالإضافة إلى الدور التفاوضي مع السلطات.
وفي الدولة الأموية؛ ظهرت بدايات النقابات المهنية حين انتقل مصطلح “العريف” (اجتماعيا ورسميا) من حيزه القبلي المحض ليدخل الدوائر ذات التماس بين المجتمع والسلطة، فنطالع حينها مثلا توظيفا طريفا لهذا المصطلح في قطاع كشؤون المساجد وهو “عريف المؤذنين”، وفي ميدان الأدب ظهر فعلا أيامَها كذلك “عريف الشعراء”، كما اقتُرِحت فكرة تأسيس اتحاد لكُتّاب النثر الفني العربي.
ثم تطورت الأوضاع ليأخذ دور “العريف” في هذا العصر وضعه المؤسسي الواضح، والذي سيطبع لاحقا حياة النقابات بمختلف أنواعها على النحو الشامل والمستوعِب الذي يحكيه هذا المقال، مفنِّدا الأطروحات الاستشراقية التي تربط نشأة النقابات المهنية بالحركات السرية الهدّامة.
كان من سمات النقابات والتجمعات الأخوية أنها ذات مرونة حركية ووظيفية؛ فهي عند الحاجة الشخصية وعاءٌ اجتماعي تكافلي، وهي ساعة المظالم السلطوية تجمُّعٌ احتجاجي ثوري، وهي في مواجهة الغزاة كتيبة نضالية جهادية، وفي أوقات المجاعات والأزمات جبهة إسناد وإنقاذ للمجتمع بكل فئاته.
وهي -في جميع الأوقات- معهد تعليمي لأصول وآداب المهنة، ومؤسسة رقابية وقضائية تقوّم سلوك أعضائها وتؤدب المقصِّر منهم، وقد واكبتها في كل ذلك جهود تشريعية فقهية أطّرت الممارسات المهنية بما يحفظ جودتها ومصالح منتجيها ومستهلكيها، كما نظَّرت لمنح التعاضد النقابي مكانة تضاهي التكافل القرابي إن لم تتغلب عليه، وقدم فقهاء الإسلام في ذلك أفكارا كانت سابقة لعصرها فأسست لأول مدونة قانونية نقابية ومهنية.
وإلى جانب ذلك كله؛ فقد أخذت النقابات المهنية على عاتقها مزْج روح التجمع المهني بالنوازع العاطفية والدينية، من خلال إجلال كبراء الصناعة، وتسلُّم منتسبيها أسرار النقابة بـ”السند” المهني و”الإجازة” الحِرفية، في محاكاة ذات دلالة واضحة لتقاليد الجماعات المعرفية في تلقيها “صناعات” العلوم بالأسانيد والإجازات العلمية والشرعية، وهي محاولة لترقية تلك المهن لتكون مجتمعيا في مستوى “شرعية” النقابات العلمية الفقهية والحديثية.
ولأن النقابات المهنية في أغلبها هي تجمعات من أجل المعاش والنفع العام؛ فهي لم تعرف أي تميز على أساس الدين أو الطبقة أو حتى الجنس، بل كان بابها مفتوحا للجميع انتسابا وانتخابا، وظل شرطها مهنيا خالصا يخص الصلاحية والكفاءة فقط، وهو ما يعني أن غير المسلمين كان من الشائع منحهم حق العضوية في النقابات المهنية بل ورئاسة ما كان منها ذا مكانة خطيرة ومرموقة كنقابة الأطباء؛ كما سنرى في هذا المقال الذي يروي قصة النقابات المهنية في الحضارة الإسلامية وأسبقيتها لأبرز التقاليد النقابية السائدة في عصرنا.