أضواء على النقابات المهنية في حضارة الإسلام(مختار خواجة)_2_
تجربة ذاتية
جاء تطور النقابات والجماعات الحرفية في الحضارة الإسلامية ضمن سياق مركّب اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا؛ أما كونها نشأت من تأثيرات رومانية/بيزنطية أو فارسية، أو تأسست بجهود من التنظيمات السياسية الشيعية الإسماعيلية وخاصة القرامطة منها؛ فتلك دعوى ذهب إليها مستشرقون مثل لويس ماسينيون (ت 1382هـ/1962م) وبرنارد لويس (ت 1439هـ/2018م)، مفترضين ارتباط النقابات بالمرتكزات الفكرية والدينية التي تبنتها الحركة القرمطية، وأيضا بالظروف الاقتصادية المضطربة التي وظفتها لتجنيد القوى العاملة، لكنهما لم يقدما أدلة مقنعة تدعم تلك الآراء.
وقد عُرضت وجهات النظر الاستشراقية هذه بوضوح في المقالات التي نشرها الدكتور عبد العزيز الدُّوري (ت 1431هـ/2010م)، سواء تلك التي ترجمها للمستشرق برنارد لويس (أربعة مقالات بعنوان: “النقابات الإسلامية”؛ نُشرت في مجلة “الرسالة” المصرية ضمن أعداد: 355-356-357-362)؛ أو تلك التي كتبها هو ولخص فيها ما سبقه من طرح في هذا المجال (مقالان بعنوان: “الأصناف والحِرف الإسلامية”؛ نُشرا في مجلة “الرسالة” المصرية ضمن العددين: 983-984).
لقد قدّم الدوري -في مقاليْه- استدراكات عامة على تلك المقولات الاستشراقية الإطلاقية، لكنها لم تكن -رغم أهميتها- كافية في تعميق الاشتباك معها وبيان غلبة الادعاءات فيها على البينات، وهو ما سنحاول هنا تقديم مقاربة تاريخية فيه نعتقد أنها تتضمن قيمة مضافة في نقاش هذه القضية الجدلية.
فإذا كانت دعوى ماسينيون -كما ينقل عنه برنارد لويس في مقاله الأول- قائمة على أن “الحركة الإسماعيلية هي التي أوجدت الطوائف (= النقابات) الإسلامية وأعطتها ميزتها الخاصة التي حافظت عليها حتى الآن”؛ فإنه من الجلي أن علاقة بعض الحِرَفيين بالدعوة الإسماعيلية -وخاصة فرعها القرمطي- اتسمت بالفردية ولم تأخذ صيغة جماعية واضحة الملامح تؤهلها لإنشاء كيانات نقابية بالحجم والتعقيد المعروف تاريخيا، لاسيما أن هؤلاء الأفراد كانوا يعيشون في مناطق “السواد” شديدة الهامشية جنوبي من العراق.
ولعل أفضل وسيلة لدحض الفكرة الاستشراقية القائلة بالتأثير الروماني/البيزنطي أو الفارسي والأصل القرمطي أو الإسماعيلي لتعليل نشأة النقابات الحرفية والمهنية في الإسلام؛ هو وضع ظاهرة النقابات المهنية في سياقها التاريخي برصد تمظهراتها المختلفة اجتماعيا ومعرفيا وحِرَفيا، وبيان محطات تطورها المجتمعي وتنقُّلها بين القبيلة والدولة والمجتمع المدني (المعرفي والصناعي).
ذلك أن العودة إلى تطور تاريخ مصطلح “النقيب/النقابة” -وكذا نظائره المختلفة مثل العريف/العِرافة والشيخ والرئيس والمقدَّم- تظهر أن فكرة وجود رؤساء أو مشرفين على تجمعات وفئات مجتمعية -يرعون مصالحها ويسوّون نزاعاتها ويمثلونها أمام الآخرين- فكرة قديمة سبقت وجود تنظيمات الحركة الإسماعيلية الشيعية.
فقد كان معروفا مثلا في لغة العرب أن “النقباء جمع نقيب، وهو كالعريف على القوم المقدَّم عليهم، الذي يتعرّف أخبارَهم وينقِّب عن أحوالهم، أي يفتش” عنها؛ وفقا للإمام اللغوي جمال الدين ابن منظور الأنصاري (ت 711هـ/1311م) في معجمه ‘لسان العرب‘.
وتعود التطبيقات الأولى لهذه الفكرة إلى العهد المكي من تاريخ الإسلام، كما هو معروف في أحداث السيرة النبوية من قصة نقباء “بيعة العقبة” الثانية سنة 13ق.هـ/622هـ، الذين “هم اثنا عشر نقيبا رأْسُهم أسعد بن زرارة (ت 1هـ/622م)..، (فقد) نقَّب النبيُّ ﷺ أسعدَ على النقباء”؛ طبقا للذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘.