أضواء على النقابات المهنية في حضارة الإسلام(مختار خواجة)_4_
نقلة فنية
أما في القطاع الاقتصادي؛ فنجد في العصر الأموي الأول ظهورا لمصطلح “عريف السوق” كما سيأتي، ثم فتحت الدولة العباسية -في مطلع حكمها- البابَ أمام التشكُّل الطبيعي للنقابات الحرفية حين مَنحتْ أهلَ كل حرفة حيزا مكانيا تتجاور فيه دكاكينهم، بما يعطيهم فرصة التداول اليومي في شؤون المهنة ومصالحها وتنظيم علاقتها بالمجتمع والسلطة!
فالمؤرخ ابن عذاري المراكشي (ت 695هـ/1295م) يخبرنا -في ‘البيان المُغْرِب‘- أن والي الغرب الإسلامي للعباسيين يزيد بن حاتم المهلبي (ت 170هـ/786م) كان “حسن السيرة فقدم أفريقية (= تونس) وأصلحها، ورتب أسوار القيروان، وجعل كل صناعة في مكانها” من أسواق المدينة سنة 155هـ/773م.
ويأخذ الأمرُ هنا دلالتَه الخاصة من أن المعتاد آنذاك في التسميات الرسمية أن تُقْرَن الوظيفة الإشرافية الحكومية بلفظ “صاحب” لا بلفظ “عريف”، كما في “صاحب الشرطة” (مدير الأمن)، و”صاحب الخبر” (موظف الاستخبارات عميلا أو مديرا)، و”صاحب العذاب” (جلّاد السجن).
وعلى مستوى التنظيم المجتمعي؛ كان أول تجمع نقابي ذا هوية عربية وصريحا في نزعته النقابية بتسميته رسميا بـ”النقابة”، فظهرت -منذ القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي- كيانات مجتمعية عامة أخذت بها النقابة القبلية بُعدا أكثر مؤسسية، كما في “نقابة الأنصار” الجامعة لبطونهم.
فنحن نجد أول ذكر لهذه النقابة عند المؤرخ ابن يونس الصدفي المصري (ت 347هـ/958م)، وذلك في ترجمته للعالم والشاعر سعيد بن كثير الأنصاري (ت 226هـ/841م) الذي قال إنه “كان ممن يلي «نقابة الأنصار» والقَسْم عليهم”، أي أنه يوزّع عليهم مخصصاتهم المالية الحكومية.
وفي القرن نفسه ظهرت “نقابة الهاشميين” التي كانت بذرتها الأولى مع تأسيس مجلس “نقباء بني العباس” الذي تولى ترتيبات ثورتهم على الأمويين، لكنه سرعان ما انسلخ مِن بُعده التنظيمي السياسي الجامع ليكون مجرد رابطة اجتماعية للهاشميين، ثم انفصلت إلى فرعين منذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي جراء الانقسام السياسي المريع بين المكونين الكبيرين البيت الهاشمي، فأصبحت كتب التاريخ تتحدث عن “نقابة العباسيين” و”نقابة الطالبيين” أو “نقابة العلويين” أو “نقابة الأشراف”.
ورغم العداء الشديد الذي اصطبغت به العلاقة بين العباسيين وإخوانهم العلويين جراء صراعهم على عرش الخلافة؛ فإن الأمر استقر على تجاور المؤسستين منذ بدايات القرن الرابع الهجري/الـ10م، كما تفيدنا بذلك ترجمة المؤرخ ابن أيبك الصفدي (ت 764هـ/1363م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- لمحمد بن أحمد بن عبد الصمد الهاشمي المعروف بابن طُومَار (ت 320هـ/922م)، والذي “ولي نقابة العباسيين والطالبيين جميعاً أيام المقتدر (ت 320هـ/922م)”.
ومن حينها “لم تزل نقابة الطالبيين تساهمهم الخلافة العباسية في المناصب، وتزاحمهم في كواكب المواكب بالمناكب، وتُشْرِكهم في كل عقد وحل”؛ طبقا للصفدي في ‘أعيان العصر‘. وكان لكل من النقابتين فروع في عدد من حواضر المشرق الإسلامي تتبع للنقابة المركزية في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، والتي أطلِق على من يتولى منصبها الجامع لقب “نقيب النقباء”، وكان يعينه الخليفة العباسي.
ومن أشهر من تولى هذا المنصب: محمد بن أبي تمام علي بن الحسن الزَّيْنَبي (ت 426هـ/1036م)، وكذلك ولده المحدِّث المشهور طِرَاد الزَّيْنَبي (ت 491هـ/1098م). ويبدو أن هذه النقابة اشتهرت لاحقا في دولة المماليك -وما بعدها من عهود- بـ”نقابة الأشراف”.