أهمية التأويل في البناء الحضاري(لطيفة يوسفي)_2_
الثاني : تطبيقات حضارية للتأويل الصحيح
القضية الأولى : التأويل الصحيح وأثره العقائدي
التأويل الذي دخل الأصول من العقائد، وأصول الديانات، وصفات الله، وغير ذلك، وأسهم في نشوء علم الكلام، انقسم العلماء فيه على ثلاثة مذاهب،” أحدها: أنه لا مدخل للتأويل فيها، بل تجري على ظاهرها، ولا يؤول شيء منها، وهم المشبهة.
والثاني: أن لها تأويلا، ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل، لقوله ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾[1] قال ابن برهان : وهذا قول السلف.
والثالث : أنها مؤولة، وأولوها، قال والأول باطل والآخران منقولان عن الصحابة، فنقل الإمساك عن أم سلمة رضي الله عنها، لأنها سئلت عن الاستواء، فقالت الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وكذلك سئل عنه مالك، فأجاب بما قالت أم سلمة إلا أنه زاد فيه أن من عاد إلى هذا السؤال أضرب عنقه. وكذلك سئل عنه سفيان الثوري، فقال أفهم من قوله ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾[2] ما أفهم من قوله ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ﴾[3] ونقل التأويل عن علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم. وقال: وهو المختار عندنا.”[4]
فالظاهرية تمسكت بظاهر النص وحرفية الكتاب والسنة دون تأويل شيء من نصوصهما،وذلك أن ” أصحاب الظاهر والحنابلة ينظرون إلى الرأي باعتباره غير ملائم للإيمان المستقر بعد إعماله في الناحية الاعتقادية حينما دخل في نزاع الطوائف والفرق وانعكست عليه ظلال قائمة.”[5] فيقول الشاطبي ” ومثاله في ملة الإسلام مذاهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب ـ المنزه عن النقائص ـ، من العين، واليد، والرجل، والوجه، والمحسوسات، والجهة…وغير ذلك من الثابت للمحدثات.”[6] فوقعوا في ” التجسيم الصريح ومخالفة آي التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة لأن معقولية الجسم تقتضي النقص والافتقار.”[7]
وبيانه أن المحظور هو حملها على المحسوسات، وهو اللازم من حملها على الظاهر والحقيقة، أما إثباتها مع تنزيه الله تعالى عن ظواهرها وحقائقها اللغوية المعروفة فهو حق، وهو مذهب جماهير سلف الأمة الصالح رضوان الله عليهم. فتغليب ” آيات السلوب في التنزيه المطلق التي هي أكثر موارد وأوضح دلالة أولى من التعلق بظواهر هذه التي لنا عنها غنية وجمع بين الدليلين بتأويلهم ثم يفرون من شناعة ذلك بقولهم جسم لا كالأجسام. وليس ذلك بدافع عنهم لأنه قول متناقض وجمع بين نفي وإثبات إن كانا لمعقولية واحدة من الجسم، وإن خالفوا بينهما ونفوا المعقولية المتعارفة فقد وافقونا في التنزيه ولم يبق إلا جعلهم لفظ الجسم اسما من أسمائه.”[8]
يقول ابن رشد : مبينا أن الأحاديث ” التي يقتضي ظاهرها التشبيه مخافة أن يتحدث بها فيكثر التحدث بها وتشيع في الناس فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها. وسبيلها إذا صحت الروايات بها- أن تتأول على ما يصح مما ينتفي به التشبيه عن الله عز وجل بشيء من خلقه، كما يصنع بما جاء في القرآن مما يقتضي ظاهره التشبيه، وهو كثير، كالإتيان في قوله عز وجل ﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ﴾،[9]والمجيء في قوله عز وجل﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾[10] والاستواء في قوله﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾.[11] وكما يفعل أيضا بما جاء من ذلك في السنن المتواترة، كالضحك، والتنزيل، وشبه ذلك مما لم يكره روايتها لتواتر الآثار بها، لأن سبيلها كلها في اقتضاء ظاهرها التشبيه وإمكان تأويلها على ما ينتفي به تشبيه الله عز وجل بشيء من خلقه سواء. وأبعدها كلها من التشبيه ما جاء من أن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ، لأن العرش مخلوق خلق من خلق الله عز وجل، فلا يستحيل عليه الحركة والاهتزاز، وإضافته إلى الله تعالى إنما هي بمعنى التشريف له، كما يقال: بيت الله وحرمه، لا بمعنى أنه يحل فيه وموضع لاستقراره، إذ ليس في مكان ولا مستقرا بمكان، فقد كان قبل أن يخلق المكان، فلا يلحقه عز وجل باهتزاز عرشه ما يلحق من اهتز عرشه من المخلوقين وهو جالس عليه من تحركه بحركته، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.”[12]
وهناك من نفى التشبيه فحمل صفات الله تعالى على المجاز بما يعرف بـ ” التأويل المجازي “[13] وهم المعتزلة، ومثاله قوله تعالى﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَلِمَاخَلَقْتُبِيَدَي﴾.[14]
حملت هذه الآية على المجاز بمقتضى التنزيه المطلق فقالت المعتزلة” إنه ممن يتعالى عن الجوارح، وفي هذه الآية وجوه :
أولها : أن يكون جاريا مجرى لما خلقت أنا، وذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم : هذا ما كسبت يداك ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة.
ثانيها : أن يكون معنى اليد النعمة، ولا إشكال في أن من محتملات لفظة اليد النعمة.
فأما الوجه في تثنيتها، فقد قيل فيه إن المراد نعمة الدنيا ونعمة الآخرة.
ثالثها : أن يكون معنى اليد هنا القدرة، وذلك من محتملات اللفظ أيضا.”[15]
وبين الوقوف على الظاهر الحرفي والمغالاة العقلية جاء أبو الحسن الأشعري 260/ 324 هـ[16] “ـ تاريخيا إن لم يكن شخصيا ـ وكأنه ثار على مذهب المعتزلة لينشئ مذهبا ” وسطا ” يريد إقامة ” التوازن ” بين الطرفين : بين التنزيه الذي يقتضيه ” العقل ” لمواجهة أصحاب الاثنين والقائلين بالتثليث والمجسمة بمختلف أصنافها، وبين كثير من آيات القرآن التي لا يستقيم إيمان الجمهور ولا تتوطد العقيدة في نفوسهم إلا بأخذها على ظاهرها، من جهة، وبين حرية الله وقدرته المطلقتين وبين درجة ما من الحرية والقدرة لابد من نسبتهما للإنسان لجعله ” يكسب ” أعماله ويتحمل مسؤوليتها، من جهة أخرى. إنها فكرة ” الكسب ” التي جعلها أبو الحسن الأشعري بديلا لحرية الإرادة و” خلق الأفعال.”[17]
يقول ابن خلدون مؤكدا ذلك ” قام الشيخ أبو الحسن الأشعري إمام المتكلمين فتوسط ين الطرق ونفى التشبيه وأثبت الصفات المعنوية وقصر التنزيه على ما قصره عليه السلف. وشهدت له الأدلة المخصصة لعمومه فأثبت الصفات الأربع المعنوية والسمع والبصر والكلام القائم بالنفس بطريق النقل والعقل. ورد على المبتدعة في ذلك كله وتكلم معهم فيما مهدوه لهذه البدع من القول بالصلاح والأصلح والتحسين والتقبيح وكمل العقائد في البعثة وأحوال الجنة والنار والثواب والعقاب. وألحق بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئد من بدعة الإمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان”.[18]
فمنهج الأشاعرة هو المنهج الأصلح في خلق عقيدة وسطية واضحة جامعة بين النقل والعقل جمعا وسطا، وقادرة على بناء إنسان العقيدة السليمة الخالية من الأوهام والتخبطات في الرؤى والأحكام العقدية.فمما لاشك فيه ” أن الأشعري جاء بقول توسط فيه بين أقوال المعتزلة وأقوال أهل السنة.”[19]
فالأقرب والأسلم الجمع بين المنقول والمعقول باعتبار كل واحد منهما أصلا مهما يحدد مفهوم التأويل الصحيح الذي يتوجب العمل به بالبرهان العقلي في معرفة الحق من النص الشرعي بناءا على أن المعرفة العقلية الحقة لا تكذب بالشرع. إذ أن العلوم كلها ” داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الأمور تدل على أن فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتسعا بالغا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم إلا باستماع فنون كثيرة ولا بد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولا ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر.”[20]
فالعقيدة الصحيحة هي ” الفكرة الدافعة للتحضر “[21] ومن شأنها كذلك أن ” تبسط للمسلم مجالا عريضا للنظر والبحث والتقصي، إذ تجعل كل مظاهر الوجود والحياة موضوعا عليه أن يتجه إليه بالنظر ليستمد منه ما يعينه على القيام بمهمة الخلافة الموصولة على نحو أو آخر بتلك المظاهر كلها. فعالم الغيب مبسوط للنظر بغاية التمثل الاعتقادي لوجود الله وصفاته، ولحياة المآل وأحكامها، والإيمان بهذه المعتقدات في جملتها لا يكون إيمانا كاملا في الاعتبار الإسلامي إلا حينما يستقر في النفس بناء على النظر المؤدي إلى الاقتناع الذاتي.وعالم الشهادة المادي مبسوط للنظر لتكون فيه الدلالة على عالم الغيب ليعلم به، ولتتم باكتشاف قوانينه السلطنة عليه وتسخيره لإنجاز الخلافة. وعالم الحياة الإنسانية مبسوط للنظر اعتبارا بما كان منها ماضيا، وترشيدا وتسديدا لما هو منها حاضر ومستقبل.”[22]
إن هذا التأويل العقدي يؤطر للانتفاع بالكون في إطار من العقيدة، بأن ” يوجه فيما تقتضيه تعاليمها، وما ترسمه من غايات وأهداف. فإذا كانت مرافق الكون هي من خلق الله تعالى ومن نعمه على عباده، وإذا كان الإنسان في التحضر الإسلامي مكلفا بأن ينجز التحضر لغاية أن يحقق غاية عقدية هي غاية الخلافة، فإنه يكون من المطلوب منه أن يوجه مناشطه الانتفاعية بالكون في الوجهة التي تتلاءم مع تلك المقدمة وهذه الغاية.”[23]وهذا ما ذهب إليه فخر الرازي في تأويله قوله تعالى ﴿قالَ رَبُّنَاالَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾[24] بأن كل شيء خلق على هيئة قانونية يكون نفعه بحسبها.إذ يقول : “فثبت أنه سبحانه هو الذي خلق كل الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها.”[25](يتبع)