إشكالية الوعي أو الجهل المركب عند النخبة(محمد الغرضوف)
إذا كان غياب الوعي عند العامة من الإشكاليات المركزية التي تحول دون تقدم الأمة ونهوضها فإن الوعي المغشوش عند النخبة أو ما يمكن تسميته بالجهل المركب هو أكبر مشكل وأعظم طامة قد تصيب مجتمعا أو أمة. فالمفروض أصالة في النخبة المثقفة قيادة مجتمعاتها إلى تحقيق الوعي المنشود الممهد للنهضة الحضارية والشهود الحضاري؛ لأن الإنسان هو مركز العملية التنموية كما هو معلوم في أي مشروع حضاري حقيقي.
والنخبة عندما تعيش “أوهاما” من برجها المتعالي وتحصرها في أدوار ثقافية وإيديولوجية ضيقة؛ فإنها تفوت على الأمة –بسبب تفرقها وتصارعها وبعدها عن الواقع- فرصا حقيقية من أجل الإقلاع الحضاري. ولهذا كان الرهان على المثقف بحسب قطاعات اجتماعية عديدة رهانا خاسرا، فراحت تجرب طريقا آخر عنوانه الأساس طريق الثورة. والحقيقة أن الثورة السياسية أو الاجتماعية التي لا تسبقها ثورة معرفية وثقافية هي ثورة موءودة من الأساس أو أنها تؤدي إلى مستقبل مجهول بلا مواربة.
يمكن القول في هذا السياق أن “هذا النقد للمثقف يدور، في مجمله، على العوائق الأساسية التي تمسك بخناق المثقفين، وتمنع المفكرين من تجديد عالم المفهوم، بأداة من أدواته الفعالة، أو على صعيد من أصعدته المركبة، أو في بعد من أبعاده المتعددة. والعوائق، تتجسد في أوهام خمسة [بحسب علي حرب] يرتبط كل وهم منها بمفهوم من المفاهيم المتداولة في خطابات المثقفين العرب على وجه الخصوص: الأول هو الوهم الثقافي ويرتبط بمفهوم النخبة. والثاني هو الوهم الإيديولوجي ويرتبط بمفهوم الحرية. والثالث هو الوهم الإناسي ويرتبط بمفهوم الهوية. والرابع هو الوهم الماورائي ويرتبط بمفهوم المطابقة. والخامس هو الوهم الحداثي ويرتبط بمفهوم التنوير”[1].
هذه الأوهام باعتبارها عوامل ذاتية تهم النخب المثقفة، إلى جانب عوامل موضوعية تهم الوضع الاجتماعي والسياسي للمجتمع؛ هي التي أدت إلى ما يمكن تسميته بأزمة المثقف اللاعضوي. ف”المثقف كائن يحيا وسط الأزمة. فهو بصفته يهتم بشؤون الحقيقة والحرية والعدالة، وسواها من القيم العامة، ينتعش بإثارة الفضائح والمشكلات، ويتعيش من الكلام على الانتهاك الذي تتعرض له الحقوق والحريات. هذا دأبه منذ تكون نمطه وتشكل مفهومه: من فولتير الذي كان يقول: أخالفك الرأي ولكني أقاتل دفاعا عن حريتك في التعبير عن رأيك، إلى سارتر الذي كان يتصرف بوصفه الشاهد على واقع عصره أو الناطق بهموم مجتمعه؛ أو من محمد عبده وسواه من دعاة الإصلاح والتجديد في عصر النهضة”[2].
“ولكن الأمور لم تعد على ما كانت عليه: فالمثقف الذي يحسن صنع الأزمات وفبركة المشكلات، بات هو نفسه في أزمة، بعد أن تكشفت المبادئ والنظريات عن عوراتها، في واجهة الانهيارات والتحولات التي يشهدها العالم، على غير صعيد، في الوقائع والأفكار، أو في النظم والمؤسسات، وهذا ما جعل المثقف يفقد مصداقيته ويعرى من أسلحته. هذا ما يحدث الآن: فالقيم التي دافع عنها المثقفون تنهار تحت مطرقة الوقائع الغضبي، الهازئة من سذاجة الشعارات والمشروعات، الثائرة على عجز البرامج وقصور النظريات”[3].
فمن تحليل الأزمة إلى اعتباره موضوع الأزمة؛ يعيش مثقف اليوم محنته، والتي مهدت لواقع اليوم أن يجعل من خط حركة المجتمع تفاعلا بعيدا عن خط حركة المثقف، والذي غدا دوره هامشيا إلا إذا دخل غمار المعترك السياسي نسبيا، فالمجتمع اليوم لم تعد تحركه الأفكار كما كان يتصور المفكر مالك بن نبي[4] بقدر ما أصبحت تحركه هواجس المستقبل ذات الأبعاد الاقتصادية بالدرجة الأولى[5].
[1] حرب، علي. أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب/ بيروت- لبنان، ط 3، 2004م، ص:27
[2] م س، ص: 39.
[3] نفسه.
[4] ن: كتابه: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، تر: بسام بركة وأحمد شعبو، إشراف وتقديم: عمر مسقاوي، دار الفكر، دمشق- سورية، ط 1، 1408ه/ 1988م، ص: 111 وما بعدها عندما تحدث عن ديناميكية المجتمع على أساس الأفكار وغيرها من مباحث الكتاب.
[5] ولهذا فالثورات التي اصطلح على تسميتها بالربيع العربي أكبر دليل على اختلاف الإيقاع الحركي بين النخبة المثقفة وبين الشعب.