إله الحرية(محمد مختار الشنقيطي)
إن لكل منظومةِ قيمٍ سياسيةٍ خلفيةً فلسفيةً تؤطرها، وتضفي عليها المعنى والمغزى الوجودي، وهي خلفية تتضمن رؤية للكون والإنسان أصلاً وغايةً ومآلاً، وهنا تقع السياسة على تخوم الأبدية، وتستمد جذورها وإطارها الأخلاقي من العقائد الغيبية. وقد لاحظ الفيلسوف السياسي الأميركي غلين تيندر أن “أغلب الأفكار السياسية -وربما كلها- تقوم على أساس مفهوم معين للطبيعة البشرية.” (تيندر، الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية، ص 18). ونصح تيندر كل باحث في الفكر السياسي بأن يبدأ بحثه بسؤالين، أولهما: “هل نحن [البشر] أشرار إلى حد عميق لا علاج له، أم أن الشر مجرد جانب سطحي يمكن إزالته عن شخصيتنا”؟ والثاني: “هل يزول الفرد كلية بالموت”؟ (ص 18) بمعنى: هل من وجود للحياة الأبدية؟
وتنبني كل الإجابات العملية على الرؤية الفلسفية التي ينطلق منها كل باحث في إجابة ذينك السؤالين. فموقفه من جوهرية الشر أو عرَضيته في النفس البشرية هو الذي يقوده إلى الجواب الملائم على السؤالين العمليين: “ما مدى الحرية الذي يجب أن يُمنَح للناس”؟ “وما هي درجة العنف اللازمة لإحداث التغيير”؟ (ص 18)، وموقفه من وجود الحياة الأبدية أو عدمها يقوده إلى الجواب الملائم على الأسئلة العملية في السياسة الأرضية، وهل هي وسيلة أم غاية: “فإذا كنتَ تعتقد أن الموت هو فناء تام، فإنك يجب أن تدعو الناس بطريقة ما -إذا استخدمنا كلمات نيتشه- إلى أن يكونوا (مخلصين للأرض)، وإذا لم تكن تعتقد أن الموت فناء، فإنك يجب أن تعتبر السياسات الدنيوية شيئا هاما [فقط] إلى الحد الذي تساعد فيه أو تعرقل الناس في تفسير علاقاتهم الأبدية.” (ص 19-20).
فكل نظرية في الفلسفة السياسية تستبطن فهما ضمنيا للطبيعة الإنسانية والمآل الإنساني. وقد انطلقت الفلسفة السياسية -بمختلف مدارسها- من افتراضات محددة عن الطبيعة الإنسانية، منها أن المجتمع بحاجة إلى ضوابط لسلوكه تمنعه من التظالم، وأن القادة السياسيين بحاجة إلى ضوابط لقرارتهم حتى لا يقعوا في أسْر الطغيان. وعبَّر عن ذلك جيمس ماديسون في الورقة الحادية والخمسين من الأوراق الفيدرالية، فقال: “لو كان الناس ملائكة لما كان وجود الحكومة ضرورياً. ولو حكَم الملائكة مجتمعاً بشريا لانتفت الحاجة إلى وجود كوابح خارجية أو داخلية على الحُكْم أصلاً.”
وانبثقتْ نظرية العقد الاجتماعي المعاصرة من افتراضات فلسفية عن الطبيعة البشرية، وافتراضات تاريخية عن أصل الاجتماع الإنساني في فجر التاريخ، فقد تأسس العقد الاجتماعي عند توماس هوبز على افتراض أن النفس البشرية شرِّيرة بطبيعتها، وأن حالة الطبيعة السابقة على الدولة حالة بائسة من الأنانية تتسم بأنها حالة “حرب من كل إنسان على كل إنسان آخر” (توماس هوبز، اللفياثان، ص 134). فمن دون دولة تكون “حياة الإنسان وحيدة بائسة بغيضة قاسية وقصيرة.” (ص 135). فالعقد الاجتماعي عند هوبز هو تسليم عامة الناس لمستبد متوحش ينفرد بالقرار السياسي، ويُخرج الناسَ من حالة البؤس والتوحش التي يعيشونها، بينما تأسس العقد الاجتماعي عند جان جاك روسو على أن النفس البشرية خيِّرة في جوهرها، بسبب “تلك البساطة السماوية والجليلة التي طبعها بها خالقها.” (روسو، خطاب في أصل التفاوت، ص 52).
وفي المفهوم الإسلامي تشتمل النفس البشرية على نوازع الخير والشر معا، وكلاهما جزء أصيل من تكوينها: “وهديناه النجدين.” (سورة البلد، الآية 10)، فهي كائن مركَّب لا يصلح اختزاله في بُعدٍ واحد. كما نجد في الإسلام ربطا وثيقا بين وظيفتيْ الإنسان الدنيوية والأخروية، وهما: عبادة الله والقيام بالقسط. فقد وردت العبادة في القرآن الكريم تعليلا للحكمة من الخلق: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون،” (سورة الذاريات، الآية 56). وورد القيام بالقسط تعليلا لإرسال الرسل وإنزال الكتب: “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.” (سورة الحديد، الآية 25). ووردت الغايتان متلازمتين أحيانا: “قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد” (سورة الأعراف، الآية 29).
لكن الافتراضات الخيالية حول بداية الاجتماع السياسي في فجر التاريخ لا أهمية لها كثيرا من المنظور الإسلامي الذي يهمنا هنا. فالقيم السياسية الإسلامية تتأسس على أن الخالق هو الذي حدد للإنسان الأول مكانته ووظيفته على الأرض، وزوده بالهداية لشؤون حياته الفردية والجماعية. وإذا كان لا بد من تأصيل لبدء الحياة السياسية على الأرض فلسفيا، فإن الأصل الإسلامي لذلك يتلخص في مبدأيْ التكريم والاستخلاف.
أما مبدأ التكريم فيقضي بأن الإنسان يحتل أعلى السلَّم بين المخلوقات شرفا ونبلا، بحكم صلة العبودية الاختيارية التي تربطه بالخالق: “ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا.” (سورة الإسراء، الآية 70). كما يقتضي مبدأ التكريم أن ما سوى الإنسان من مخلوقات أرضية خادمة له ومسخَّرة: “وسَخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه.” (سورة الجاثية، الآية 13). وطبقا لمبدأ التكريم فإن الإنسان غاية بالمقارنة مع ما سواه من مخلوقات. ويتفرع عن ذلك منعُ استعمال الإنسان وسيلةً، وحق الإنسان في استعمال المخلوقات الأخرى وسائل، لتحقيق مصالحه وإثراء ذاته، ضمن الحدود الأخلاقية والتشريعية التي رسمها الخالق له.
وأما مبدأ الاستخلاف فيضع الإنسان موضع النائب عن الخالق سبحانه في تدبير الشأن الأرضي، بما يرعى صلاح الإنسان نفسه والخليقة المحيطة به، ويسهّل عليه القيام بوظيفة العبودية الاختيارية لخالقه. وللاستخلاف مدلول سياسي وهو أن الإنسان كائن سياسي بفطرته، وهذا أمرٌ أدركه ابن خلدون فلاحظ أن “الإنسان رئيسٌ بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خُلق له.” (ابن خلدون، المقدمة، 185). فالأصل في الإنسان أنه قائدٌ لا مَقُودٌ، وسيِّدٌ لا مَسُودٌ، مما يعني أن إنسانية الإنسان تتنافى مع أي قهْر ديني أو سياسي.
ويتفرع من مبدأ الاستخلاف تمتع الإنسان بحقوق فطرية لا تقبل التنازل عنها، منها حق الحياة، وحق الحرية، وحق التملك، وحفظ الكرامة. كما يترتب على مبدأ التكريم منع امتهان كرامة الإنسان، أو انتهاك إنسانيته بأي طريقة تحط من مكانته الخاصة التي منحه الخالق إياها. ومن دون هذه الحقوق والموانع لا يتحقق مراد الخالق من هذا المخلوق العجيب. فما يُعدُّ لدى بعض فلاسفة الغرب حقوقا إنسانية طبيعية، هو في الإسلام حقوق إنسانية ذات مصدر إلهي مقدس. ولذلك لا يملك الإنسان التنازل عنها، ولا سلْبَها غيرَه من بني الإنسان. وهي في الحالتين حقوق غير تعاقدية، بل هي سابقة على التعاقد بين الناس ومتعالية عليه بحكم مصدرها الإلهي.
بل إن بعض التجارب السياسية الغربية التي لم تتأسس على مناكفة الدين -مثل الثورة الأميركية- دمجت بين مفهوم الحق الطبيعي والحق الإلهي، وقد نصت ديباجة إعلان الاستقلال الأميركي على أن البشر “مَنَحهم خالقهم حقوقا لا تقبل التنازل عنها، منها حق الحياة، والحرية، والسعي إلى السعادة.” وبذلك اقتربت رؤية الثوار الأميركيين كثيرا من المفهوم الإسلامي للحقوق السياسية، باعتبارها منحة من الله، لا منحة من الطبيعة.
فقد ساد التلاحم بين الدين والحرية في الثورة الأميركية، وقد لاحظ ذلك أحد أهم مؤرخي الأديان الأميركيين، وهو توماسْ كِيدْ. ففي كتابه (ربُّ الحرية: تاريخٌ دينيٌّ للثورة الأميركية) أوضح هذا البحاثة الأميركي كيف كان الثوار الأميركيون يرون “التمرد على الطغاة طاعة لله” (ص 5) وكيف أن “الدين -قبل الثورة وبعدها- وفَّر المبادئ الأخلاقية والسياسية للثوار، وصاغ الأمة الأميركية الجديدة” (ص 6). وهذا بخلاف التجربة البائسة والأليمة للثورة الفرنسية التي قامت على انشطار الذات الفرنسية بسبب تحيز الكنيسة الكاثولية للاستبداد. وهي التجربة الانشطارية التي ورِثها الترك والعرب في خواتيم القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين، وتشرَّبها العلمانيون الأتراك والعرب، ولا تزال آثارها المدمرة تفعل فعْلها في مجتمعاتنا إلى اليوم.