ابن تيمية والسبكي وابن خلدون: رؤى إصلاحية(عبد الله الطحاوي)_1_
“أما سؤالكم عن الزمان فإن الزمان هو الناس”؛ بتلك العبارة كتب الأديب عبد الله بن المقفع (ت 142هـ/760م) رسالته في الإصلاح السياسي إلى الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (ت 158هـ/676م)، متحدثا عن أربعة أزمنة حضارية لن يخرج عنها مسار الدولة الإسلامية: الزمن الأول -وهو الأفضل- “ما اجتمع فيه صلاح الراعي والرعية”، ويليه في الأفضلية الزمن الثاني وهو “أن يصلح الإمام نفسه ويفسد الناس”، وبعدهما الزمان الثالث الذي يتميز بـ”صلاح الناس وفساد الوالي”، أما الزمان الرابع فإنه “شرُّ الزمان [وهو] ما اجتمع فيه فساد الوالي والرعية” معا.
ويبدو أن عددا من الفقهاء -خصوصا في العصور المتأخرة- انشغلوا بتقديم أفكار إصلاحية تقوم بالأمرين: إصلاح الراعي والرعية. وعبر استقراء لثلاثة كتب تمثل ركائز إصلاحية “للزمن الرابع” وظهر أصحابها في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي؛ سنقدم هنا بعض طرائق الإصلاح السياسي والمجتمعي التي حاول مقترحوها الاضطلاع بمهمة “إصلاح الراعي والرعية”.
ومما يجمع المؤلفين الثلاثة بلوغهم رتبة الإمامة في العلم الشرعي، وأن كلا منهم انشغل بتلمس مشاكل المجتمع دون أن يهمل العناية بدواليب السلطة (الإفتاء والحسبة والقضاء والوزارة.. إلخ)، واكتوى بمحنة السجن حين اتُّهم بالمس من مصالح السلطة. كما يشتركون في أنهم كتبوا رؤاهم الإصلاحية هذه وهم في الأربعينيات من أعمارهم!
ثم إنهم ينتمون إلى مجال جغرافي واسع يمثل قلب العالم الإسلامية: الشام ومصر والغرب الإسلامي، ويمثلون المذاهب الفقهية الكبرى السائدة آنذاك في هذا الفضاء الجغرافي: الحنابلة والشافعية والمالكية، وإن تباينت اختياراتهم المنهجية في الاعتقاد والسلوك بين مذاهب أهل الحديث والأشاعرة والمتصوفة، كما تعددت مناهجهم في تصور الإصلاح المنشود بين منهج نظري اتبعه شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م)، وآخر عملي انتهجه تاج الدين السبكي (ت 771هـ/1369م)، وثالث وصفي تأملي حضاري قدمه الفقيه القاضي والمؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م)!
إن هذه المشروعات الإصلاحية الثلاثة جمعت بينها ظروف معقدة جدا صاحبت العصر المملوكي الذي عانى من اضطراب شديد، وانقسام واسع لدولة الخلافة الجامعة، وحروب طاحنة شهدت أكثر من مئة حملة عسكرية كبيرة وصغيرة، قاتل فيها مئات آلاف المحاربين، وعرفت نزاعات فرقية شديدة، وشيوع أفكار عدّها الفقهاء كاسرة للعقيدة القويمة.
والحقيقة أن دولة المماليك -التي امتدت من سنة 648هـ/1250م إلى سنة 923هـ/1518م- خرجت من رحم انتصارات تاريخية لتحكم سلطنات عظيمة بمصر والشام والحجاز، وكل ما تملكه من مؤهلات هو البسالة العسكرية وقوة البأس، مستغلة حالة التراجع الاجتماعي الشديد؛ فكيف تصرف العلماء مع هذا التحدي؟ وكيف فكرت النخبة العلمائية في ذلك العصر؟ وما هي المناهج النظرية والعلمية التي طرحتها لتوظيف القوة المملوكية الصاعدة في الدفع باتجاه تحقيق الإصلاح الشامل؟
مقاربة تيمية
عرف السلطان الناصر محمد بن قلاوون (ت 741هـ/1340م) بكونه أحد رواد الإصلاح المؤسسي في العصر المملوكي، وفي عهده ظهر الكثير من الدواوين والمؤسسات التعليمية والصحية. وينبهنا ابن كثير (ت 776هـ/1374م) -في كتابه ‘البداية والنهاية‘- إلى أن عالما مجتهدا كبيرا ساهم في دفع قلاوون باتجاه الإصلاح وتبني بعض المواقف الأخلاقية في عصره، ويضرب مثالا على ذلك بإبطاله شراء المناصب بالرشوة (كانوا يسمونه ‘البرطلة‘) و”كان سبب ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيمية”.
ويُعتقد أن ابن تيمية كتب رسالة إصلاحية مهمة لهذا السلطان لعلها كتابه المعنون بـ‘السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية‘، لما رأى أن الأوضاع في زمنه تندرج ضمن “الزمن الرابع” لدى ابن المقفع؛ فقد حاول هذا الفقيه أن يقوم بالدورين: إصلاح السلطة وتنوير المجتمع، فكتب باختصار عن فكرة وصفها بأنها “لا يستغني عنها الراعي والرعية”، معللا ذلك بأنه “لما تغير الإمام والرعية كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه”.
إن فكرة هذا الكتاب ذكية جدا وتذكّرنا -على نحو مابمساهمة الإمام الجويني(ت 478هـ/1089م) في المشروع الإصلاحي للدولة السلجوقية؛ فهي تنظّر لكيفية تقنين وضع القوة والشجاعة المتمثلة في الطبقة الحاكمة الجديدة (المماليك)، وفي نفس الوقت يتم توجيهها نحو الإصلاح. وتحقيق الأمرين معناه القبول بالواقع المملوكي وأصحابه ذوي الأمجاد العسكرية، طالما أن هذا الواقع سيعمل على إصلاح نفسه وإصلاح المجتمع، وسيرضى بأن يكون العلماء شركاء في السلطة ما دام “أولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء”.
ومن هنا نفهم سر التسمية “إصلاح الراعي والرعية” التي هي إعادة صياغة واضحة لعبارة ابن المقفع “صلاح الراعي والرعية”، فمن الخطورة الشديدة -وفقا لرؤية ابن تيمية- ترك تلك القوة الكبيرة تتفلت من قواعد الدين لأنه “إن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس”.
مبدئيا يدرك ابن تيمية أنه لا مجال للحديث في هذا الكتاب عن شرعية قرشية، أو حتى عن شرط الحرية المعتاد تأكيده في الفقه السياسي الإسلامي، كما أن الظرف لا يسمح بمناقشة مشروعية المماليك بإعادة ما فعله العز بن عبد السلام (ت 660هـ/1262م)، حينما أشرف على بيع أمرائهم غير مؤهلين شرعا للحكم لكونهم “مماليك” واقعين في الاسترقاق!
فقد تخطت الظروف ذلك الموقف لأن المماليك صاروا يحكمون بشرعية انتصار “عين جالوت” العظيم عام 658هـ/1260م الذي كسر مدَّ التتار الجارف، والخليفة القرشي العباسي –الذي تُشَرْعَنُ به ممارسات السلاطين- موجود في القاهرة، وهو نفسه يصف السلطان المملوكي بـ”السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين”!!
تصور شامل
يتحدث كتاب ‘إصلاح الراعي والرعية‘ عن أهمية التدبير الأمثل لشؤون الولايات ومؤسسات السلطة العامة، وأهمها: السلطان ونائبه (مؤسسة الرئاسة)، وإمارة الجند (مؤسسة الجيش)، والقضاء والحسبة (السلطة القضائية)، وولاية الأموال (وزارة المالية). وإذا كانت السلطة العليا نالت استثناء بحكم الأمر الواقع، فإنه يمكن قبول ذلك بشرط تبني معايير جديدة في الولايات الأقل شأنا.
ومن هنا تحدث ابن تيمية في كتابه عن نحو تسع ولايات كبرى تخص كيان الدولة، وتقريبا 17 من ولايات المجتمع، وأوجب على السلطان البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار: من الأمراء، والقضاة، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر، وولاة الأموال: من الوزراء، والكتّاب (= المحاسبون)، والشادّين (= المفتشون)، وسُعَاة (= جُباة) الخراج والصدقات.
كما طالب هذا الإمام بأن توَّسد أمور الولايات بعيدا عن الولاء الرحمي مثل القرابة أو “ولاء العتاقة” ويقصد به المماليك، وكذلك تجاوز الولاء القُطري والمذهبي والطُّرُقي الصوفي، وكذلك الانحياز العرقي “فإن الرجل لحبه لولده أو لعتيقه (= مملوكه سابقا) قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته”.
بنى ابن تيمية كتابه هذا على آيتين من القرآن الكريم، هما قوله تعالى: ﴿إنّ اللهَ يأمرُكم أن تؤدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها﴾ وهي تخص الراعي (الحاكم)، وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرسولَ وأولي الأمرِ منكم﴾، وهي تخص الرعية (الشعب). وحاول –بتنظير اتّسم بالواقعية الشديدة- أن يفض نزاعا كبيرا بين قيمتيْ “القوة” و”الأمانة” عبر هاتين الآيتين.
لقد كان يدرك أن اللحظة المثالية هي تلك التي تسيّر فيها الدولة بالحاكم “القوي الأمين”، ولكن “اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل”، وهو إشكال يمس المشروعية السياسية داخل العصر المملوكي بالذات. فالكثير من المماليك حديث عهد بإسلام، وبعضهم مطعون فيه أخلاقيا؛ فهم قد “جمعوا بين الحق والباطل، وضموا الجيد إلى الرديء”، كما يصفهم تقي الدين المقريزي (ت 845هـ/1441م). وقد جيء بهم رقيقا من أصقاع الأرض، فأقاموا دولتهم بالسيوف والرماح، وأهم ما كانوا يستندون إليه هو قوتهم وبأسهم.
مرونة تطبيقية
كان السؤال المطروح أمامه هو: أين يمكن توظيف كل قيمة في موضعها؟ فقرر أنه في ولاية الحرب وقيادة الجيوش إذا حدث تعارض بين القوي الفاجر والأمين الضعيف، فإنه يقدم “الرجل القوي الشجاع وإن كان فيه فجور”، لكن الأمر مختلف في ولايات الأموال فـ”إذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قُدِّم الأمين”. وفي ولاية القضاء -وهي ولاية بينية- تحرّج ابن تيمية من أن يطبّق عليها معيار القوة، فقال إنه “يقدَّم الأكفأ إن كان القضاء يحتاج إلى قوة وإعانة للقاضي أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع”.
والحقيقة أن ابن تيمية يفتح الباب أمام المرونة في تطبيق تلك القيم، حيث يقول “يجب.. السعي في إصلاح الأحوال حتى يكمل في الناس ما لا بد لهم منه من أمور الولايات والإمارات ونحوها”. كما يطرح حلا إصلاحيا خلّاقا بدعوته إلى تعويض نقص القيم في الأفراد باستكمالها في المؤسسات، فإذا لم يوجد الفرد “القوي الأمين” فإنه يمكن توظيف شخصيات كل منها يجمع جانبا من هاتين القيمتين لتتحققا بـ”تعدد المُوَلَّى إذا لم تقع الكفاية بواحد تامّ”.
اللافت أن ابن تيمية كان يحاول -بذكائه المعهود- توريط مؤسسة القوة بتحميلها القيام مباشرة بالواجبات الدينية لـ”إصلاح دين الخَلْق”؛ حيث ألزم مؤسسة الجيش المملوكية -وهي مؤسسة الحكم الفعلية- بأن ترعى فريضتيْ “الصلاة والجهاد”، لأنه “كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم: هم أمراء الحرب”.
ثم بين الإمام أن رعاية الصلاة تقود إلى أمرين: صيانة ثاني أركان الدين، وفي نفس الوقت تجسيد قيمة خُلقية قد يقود التحلي بها إلى إصلاح المؤسسة نفسها “إذا أقام المتولي عمادَ الدين؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات”.
وبالتالي؛ فإن ابن تيمية -في خطته النظرية لإصلاح الدولة المملوكية والمجتمع الذي كانت تحكمه- كان يتحرك ضمن شرط الواقع، ليس بهدف الوقوع فيه بل للنهوض به؛ فهو يقبل به لكي يمارس ضغطا عليه يتجه به نحو الإصلاح. وقد لاحظ الشيخ محمد أبو زهرة (ت 1394هـ/1974م) أن هذا النهج من التفكير في رعاية المصالح الشرعية كان سمة لذلك العصر، سواء أكان عند ابن تيمية أو في رؤية معاصره نجم الدين الطوفي الحنبلي (ت 716هـ/1316م) المتعلقة بتوسيع حجية المصلحة في التشريع الإسلامي.