ابن تيمية والسبكي وابن خلدون: رؤى إصلاحية(عبد الله الطحاوي)_2_
برنامج عملي
ألّف ابن تيمية الشامي كتابه عن إصلاح الراعي والرعية في القاهرة، بينما صنّف تاج الدين السبكي المصري كتابه ‘معيد النعم ومبيد النقم‘ في دمشق؛ والأخير هو الكتاب الثاني الذي يمثل الحلقة الأبرز ضمن حلقات المشروع الفقهي لإصلاح الدولة والمجتمع في العصر المملوكي خلال القرن الثامن الهجري.
يختلف ‘معيد النعم‘ عن كتاب ابن تيمية اختلافَ المؤلَّف العملي عن صنوه النظري، وإن كان المؤلِّفان يتحدثان من أرضية مشتركة قوامها استقلالية العلماء عن تأثير الأمراء؛ فكتاب ابن تيمية أُلِّف على غرار مصنفات السياسة الشرعية التي تتعرض عادة للوظائف السياسية العامة للدولة، ولا تهتم كثيرا بالمجتمع وما يعج به من مرافق ومِهَن، أما كتاب تاج الدين السبكي فهو كتاب تطبيقي يبحث أسباب انحراف الدولة في القطاعين العام والخاص، برصده للعيوب الوظائفية والإنتاجية السائدة فيهما وتقديم رؤى وبرامج لمعالجتها.
وبالتالي فهذا الكتاب درس في السياسة العملية والبرامجية التي تُقدمها في عصرنا اليوم مراكز الخبرة وبيوت الاستشارة لصنّاع القرار. وهو يقدم لنا قراءة عميقة لطبيعة المجتمع المملوكي في مصر والشام والحجاز، عبر رصده لـ113 وظيفة وحرفة هي قوام حياة هذا المجتمع في تلك اللحظة التاريخية، ويمكن تصنيفها ما بين وظائف إدارية، وأخرى علمائية، وثالثة مرتبطة بالحِرَف والصناعات والتجار وأصحاب رؤوس الأموال.
وقد خاطب السبكي في كل ذلك السلطانَ ونائبه ومساعديهما وقادة الجيوش، والعلماء في المساجد والمتصوفة في الزوايا، وصولا إلى أصحاب المهن المختلفة وحتى الشحاذين في الطرقات. وبالتالي؛ فالكتاب مصدر غني بالمعطيات التي تخدم أعمال المؤرخين والباحثين الاجتماعيين، وكل المعنيين بنظام الدولة والمجتمع حينها، وبكيفية عمل الوظائف القيادية والإدارية في الدولة ونظيرتها الخدمية في المجتمع. ومن المهم أن نلحظ أن الكتاب يندرج ضمن مجال السياسة الشرعية التطبيقية، وهو مجال لا يتلفت إليه الباحثون كثيرا.
استخدم المؤلف مفهوما شرعيا تزكويا وهو خُلُق “الشكر” ليكون خيطا ناظما لملامح منهجه في الإصلاح السياسي والمجتمعي والاقتصادي، رغم أن الكتابة عن “الشكر” مشهورة في كتب الرقائق والتصوف. وما كتبه السبكي عن الشكر في المدخل النظري للكتاب -وفي الخاتمة عن منحة المحنة- مقتبس من كتاب ‘إحياء علوم الدين‘ للغزالي (ت 505هـ/1111م) الذي تأثر هو أيضا بنفس المعالجة للشكر التي قدمها أبو طالب المكي (ت 386هـ/997م)؛ حسب ابن تيمية. والجديد في معالجة السبكي لشكر الله هو أنه جعله مدخلا للحديث عن ترميم الواقع.
تزكوي وسياسي
واللافت أن هذا الانزياح الدلالي في حركة المفاهيم -الذي أجراه السبكي في توظيف مفهوم “الشكر” التزكوي في الحقل السياسي والمجتمعي- كان سمة لذلك العصر. فظهور مصطلح “نائب الفاعل” في الدراسات النحوية -على يد الإمام النحوي ابن مالك الجياني (ت 672هـ/1271م)- كان انزياحا دلاليا آخر، قادما هذه المرة من حقل السياسة ليواكب فيما يبدو تضخم سلطات “نائب السلطان”.
وكذلك مصطلح “السلطان المختصر” الذي أطلِق على “نائب السلطان” ذي الصلاحيات الواسعة، واستقاه معجم اللغة السياسية حينها من حقل التأليف العلمي وخاصة الفقهي. وهذا الاتساع في صلاحيات “نائب السلطان” هو الذي جعل السبكي -وكذلك ابن تيمية- يفرد له الكثير من التفصيلات في الحديث عن الولايات والصلاحيات، لا سيما إذا عرفنا أن الكثير من السلاطين تولوا الحكم وهم دون سن البلوغ فكان نوابهم هم المتصرفين، وقد شجعهم السبكي على ذلك ليكونوا في المكان الذي يدير منه السلطان الحكم فيباشروا شؤون الرعية.افتتح السبكي كتابه بـ”سؤال” وجهه إليه سائل يطلبا منه –وهو الفقيه القاضي- إخباره عن “طريق لمن سُلب نعمة دينية أو دنيوية إذا سلكها عادت إليه ورُدّت عليه”؛ فأجابه بأن عليه ثلاثة أمور: أن يعرف السبب الحقيقي الذي أدى إلى ذهاب النعمة؛ وأن يتوب من الذنب الذي تسبب له في فقدان نعمته؛ ثم أن يعترف بما في محنة فقدانه النعمة من فوائد ليرضى.
لم تقنع هذه الإجابة السائلَ فطلب من السبكي “شرحا مُبِينا مختصرا”، فرأى أن يضع كتابا في جوابه مقتصرا فيه على “النعم الدنيوية إذ كانت محط غرض السائل”. لكن السبكي قرر أن ينقل السؤال من حالة الفرد إلى وضعية الدولة والمجتمع، فوسّع من دلالة السؤال عن كيفية استعادة الفرد المصالح الضائعة عليه، إلى كيف تعود الأمة -بكافة نُظُمها- وحكامها إلى النعم والتمكينات التي فقدتها بسبب الانحرافات السلطوية والاجتماعية؟
وقد استخدم السبكي فكرة “الشكر” هنا للقيام بعدة أمور، في مقدمتها أن تصبح ممارسة الوظيفة والمهنة على الوجه الأمثل دينا يُتقرب به إلى الله، باعتبارها شكرا لنعمه على صاحب الوظيفة أو الصنعة، وهذا يرفع من مستوى الاحتراف والإنتاجية بإتقان العمل. وقد كان من دأب ذلك العصر أن الصناعات يتم تلقيها بالسند عن معلميها مثلها في ذلك مثل العلوم الشرعية.