ابن حزم: شخصية اسثنائية ومشروع نهضوي(عبد القدوس الهاشمي)_1_
شروق من الغرب
قبل ساعة من شروق شمس نهار آخر يوم برمضان سنة 384هـ/995م؛ شهدت قرطبة ميلاد “شمس العلوم” علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (ت 456هـ/1065م) القائل: أنا الشمس في جوّ العلوم منيرةً ** ولكنّ عيبي أن مطلعي الغرب!
كانت طفولته عيدًا ممتدًا؛ فقد نشأ في بيت وزارة وفضل، فوالده أحمد بن سعيد “الوزير المُعَقَّل في زمانه الراجح في ميزانه” -كما يصفه ابن بسام الشنتريني (ت 542هـ/1147م) في كتابه ‘الذخيرة‘ نقلا عن ابن حيان الأندلسي (ت 469هـ/1077م)- كان مشهورًا بالفضل والأدب، ووزيرا عظيم الجاه في بلاط مدبِّر الخلافة الأموية بالأندلس المنصور بن أبي عامر (ت 382هـ/993م).
ولا نعرف عن أمِّه كبير شيء، فلم يحدثنا أبو محمد عنها، ومردُ ذلك في تقديرنا ما باح لنا به -في ‘طوق الحمامة‘- متحدثا عن “غيرة شديدة طُبعتُ عليها”. وكذلك كان الحال مع زوجته وأخواته، فلم نقف في كتبه على ذكر لهنّ. وهذه من عجائب المفارقات عند أبي محمد الذي نشأ -حسبما يقوله- في حجور النساء مكتفيًا بمجالسهنّ عن مجالس الرجال، حتى فار شبابه ونبت شعر وجهه فصحب أبناء جنسه.
أما نسبه فيخبرنا ابن حزم أنه من سلالة فارسيّة، بيد أن ابن حيان لم يقنع بما أخبر به أبو محمد عن نفسه؛ فقال -فيما نقله عنه الشنتريني المتقدم- إنه “كان من غرائبه انتماؤه لفارس واتّباع أهل بيته له في ذلك بعد حقبة من الدهر..، فقد عهده الناس خامل الأبوّة مولّد الأرومة (= الأصل) من عَجَم لَبْلَة (= مدينة كانت تابعة لإشبيلية).. فكيف ينتقل من رابية لَبْلَة إلى قلعة إصْطَخْر بفارس؟!”.
ولكن الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- والمقّري التلمساني (ت 1041هـ/م) -في ‘نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب‘- أثبتا له النسب الفارسي، ولم يرفعا رأسًا بما قاله ابن حيان!
تلمذة مبكرة
نشأ أبو محمد في قرطبة وهي آنذاك عاصمة الدنيا في الترف والتحضّر، كما كانت حينها “أكثر بلاد الأندلس كُتبًا، وأهلها أشد الناس اعتناء بخزائن الكتب، وصار ذلك عندهم من آلات التعيُّن (= الوجاهة) والرياسة”؛ كما يقول المقري.
فأقبل ابن حزم على تحصيل العلوم والمعارف يدفع نهمته للعلم بالمطالعة، ودع عنك ما يقوله الناس من أنه لم يطلب العلم إلا بعد السادسة والعشرين، فهذا وهْمٌ واضح يدل عليه قول الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- إنه تتلمذ على الإمام المحدِّث أبي عمر ابن الجَسور الأموي (ت 401هـ/1011م)، ويعزو إلى ابن حزم قولَه عنه: “هو أول شيخ سمعتُ عليه قبل [سنة] الأربعمئة”، فهذا نص صريح منه على أنه تتلمذ على الشيوخ حتى قبل بلوغه السادسة عشرة!
ثم إن جمعه لكافة فنون العلوم التي تقدم فيها أهل الأندلس قاطبة لا يتأتّى معه تصديق هذه الرواية الغريبة عن بدايته الدراسية المتأخرة، على أن أبواب المعرفة ليست محصورة على رواية الحديث ودراسة الفقه، وخاصة في بلاد الأندلس التي كان أهلها يقدمون حفظ القرآن والشعر وإتقان معارف اللغة على الفنون الأخرى.
ولم يكن ابن حزم في ذلك بِدْعًا من أبناء وطنه؛ فقد أخبرنا بنفسه أنه تلقى بداية المعارف الإسلامية الأولى من جواري قصر والده الوزير، وفي ذلك يقول: “وهنّ علمنني القرآن، وروّيْنني كثيرا من الأشعار، ودرّبْنني في الخط”. وفي هذا النص تجد نافذةً تُطلُّ منها على حالة أهل الأندلس الثقافية، وترى شيوع الثقافة داخل الدور وبين ربات الخدور!
كان أبو محمد منجمَ مواهب وروضة علوم؛ ولعل خير من عبّر عن سعة معارفه هو تلميذه النابغة القاضي والمؤرخ صاعد الأندلسي (ت 462هـ/1070م) الذي قال في تاريخه حسبما نقله عنه الذهبي في ‘السِّيَر‘: “كان ابن حزم أجمعَ أهلِ الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعَهم معرفة، مع توسّعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسِّيَر والأخبار…، أخبرني ابنه الفضل (ت 479هـ/1086م) أنه اجتمع عنده بخط أبيه.. من تواليفه أربعمئة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة”!!
ومع مآخذ ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) على ابن حزم؛ فإنه يشهد له -في ‘مجموع الفتاوى‘- بأن “له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدفعه إلا مكابِر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره”!!
كما نعته الإمام الذهبي بأوصاف عديدة جامعة بينها أنه “الإمام الأوحد، البحر، ذو الفنون والمعارف.. الفقيه، الحافظ، المتكلم، الأديب، الوزير…، كان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والمِلَل والنِّحَل، والعربية والآداب والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة.. والسُّؤْدد والثروة وكثرة الكتب”.
وقد علق عبد الواحد المراكشي (ت 647هـ/1249م) -في كتابه ‘المُعْجِب‘- على كلام صاعد هذا بعد أن عزا مضمونه إلى “غير واحد من علماء الأندلس”؛ فقال عن حجم تصانيف ابن حزم: “وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله، إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ/م)، فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفًا”.
ويضيف المراكشي: “ولأبي محمد بن حزم هذا منصب وافر من علم النحو واللغة وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة”؛ ولعل براعته في الخطابة كانت من “بركات” صحبته للنساء، فقد ذكر رئيس وزراء بريطانيا بينجامين دزرائيلي (ت 1298هـ/1881م) -في مذكراته- أنه سُئل عن سرِّ فصاحته وبراعته في الخطابة، فقال لسائله: عليكَ بصحبة النساء!