ارتكاس الاجتماعي في عالم بدون بوصلة (عبد السلام ديرار)
كل قارئ متفحص للتاريخ الاجتماعي للمجتمعات الغربية، خلال العقود الأربعة الأخيرة، يكشف أن “التاتشرية – الريغانية”،بكل انقلاباتها على “قيم” النموذج الاجتماعي الذي كان قائما منذ عقود، لم تكن إلا إعلانا واضحا و صريحا على سيرورة ارتكاس شامل، سيكتسح كل المجتمعات الغربية (كما ستكون له ارتداداته و انعكاساته على مستوى المعمور ككل، ضمن الارتباطات التي تحكم المجتمعات الإنسانية على الأرض)، ارتكاس يمسّ البؤري في هذه المجتمعات، و الذي هو “الاجتماعي” فيها، أي طبيعة علاقة الإنسان بالإنسان، و المواقع من الخيرات و الموارد، و موازين القوى…
ففي بريطانيا اليوم، يكشف Marc Roche أن كل مظاهر فقدان الأرستقراطية [القديمة] للتأثير المؤسساتي خادعة: دائرة أصدقاء الملكة و الأمير وليام تبقى مكونة أساسا من أرستقراطيين مرتبطين منذ عهود بالأسرة الملكية، و ممثل الملكة في كل واحدة من المقاطعات هو دائما مشهود تقليديا لدوق (Duc)، كونت (Conte) أو بارون (Baronnet) محلي. و لورد ساليزبوري هو من نسب قادم من أعماق العصور، هو الذي كُلّف مثلا بتنظيم الاستعراض البحري للثالث من يونيو 2012 . و الجيش يبقى موسوما ببُنُوَّته مع الأرستقراطية، و الضباط الذين يحملون أسماء موسعة (à rallonge) يتم تعيينهم بالفيالق ذات الامتيازات و الهيبة، بعكس رماة القنابل و خيّالة الحرس الملكي ([1]).
ويذهب المؤرخ البريطاني المعاصر David Cannadine أبعد من ذلك، بكشفه أن التصنيف بناء على الاسم و الدم، اليوم ببريطانيا، هو أكثر من السابق، واقعي/ فعلي، و أنه في عالم بدون بوصلات، حيث تهاوت اليقينيات و الاستقرار الاقتصادي، باتت القيم المرتبطة بالنّبالة (نظام “الأمر”، سلطة الشرف و “التقاليد العريقة”)،المتكررة من جيل لآخر، تصلح كمرجعيات ([2]). و بالنسبة لهذا الخبير في المجتمع البريطاني العالي، تبقى الأرستقراطية، الرمز بامتياز، لمجتمع طبقي أكثر وضوحا ببريطانيا، كما على مستوى القارة الأوربية، بطقوسه و عاداته ([3])، و أن هناك ببريطانيا تصنيفا طبقيا خفيّا و لا محدودا، يستبطنه كل واحد منذ طفولته و من الصعب الخروج منه نفسيا، ففكرة الطبقة هنا غاضبة! (indieuse) ([4]).
وبالنسبة للارتفاع الصاروخي لأثمان العقار بلندن اليوم، يكشف Marc Roche أنه في مصلحة رباعي الملاكين الدائمين المشكلين من دوقWestminster و كونت Cadogan و بارونة Walden و فيكونتي Portman، الذين يملكون وحدهم 250 هكتارا بأحسن أحياء لندن، و ترتفع ثروتهم إلى 7,350مليار جنيه إسترليني (145,9 مليار دولار). و قانون 1993 الذي ألغى بعض الامتيازات الدنيوية لم يلتفت إلى هذا الأمر ([5]). ثم إن دوق Buccleuch هو أكبر ملاك خاص بأوربا ب 100000 هكتار، خلق مجمعا يشمل شركة للبيع بالمراسلة و مركزا تجاريا و غابات و معملا للصناعة الغذائية ([6]).
و حتى إرادة القوة الهائلة كالولايات المتحدة الأمريكية، يمكنها أن تتعثر على المشرحة (to stumble on the morgue)! مشرحة الأرستقراطية القديمة. فواشنطن أرادت شراء الأرض التي بنيت عليها سفارتها بلندن بSquare Grosvenor، في ملكية دوق Westminster، و أجاب “نعمته”!(his Grace) بأنه لا يرى مانعا، شرط إعادة الممتلكات المنزوعة من أسرته خلال الثورة الأمريكية بين 1775 و 1783، و هي الأراضي التي بنيت عليها مدينة ميامي. فما كان على سفارة أمريكا إلا أن رحلت إلى جنوب La Tamise ([7]).
و بالرجوع إلى أعمال الصحفي و الكاتب البريطاني الشهير Philip Beresford، المعروف على مدى سنين (قبل أن يتقاعد في يناير 2016) بنشره سنويا، كل شهر يناير لما يعرف ب “ترتيب الألف ثروة الأضخم ببريطانيا ” لصحيفة Synday Times([8])، يصدم القارئ بحجم الأرستقراطية القديمة بين أغنى أثرياء بريطانيا، و حجم ثرواتهم التي تحيل إلى الماضي، لا إلى النموذج الاجتماعي المعلن و “قيمه” أو على الأصح شعاراته.
و أما بالنسبة لفرنسا (أرض الثورة البورجوازية الشهيرة)، و “القطع” الجذري مع النموذج الاجتماعي القديم، المعلن، و الممجّد عالميا، في الفن و العلم و الفلسفة! و الذي ترسخ في كتب التاريخ (عبر العالم) كأبرز حدث في التاريخ المعاصر، فإن عالم الاجتماع Michel Pinçon المشهور/ المغتال رمزيا، باقتفائه اثر “الثروة” و “الأيادي” التي تحتكرها، و علاقة أصحابها بالسلطة، و البنيات الاجتماعية المجالية لأصحابها …، يكشف أن الأسر الكبيرة الأرستقراطية ما تزال حاضرة بكل ثقلها بفرنسا، و أن هذه الأسر الأرستقراطية و الأخرى البورجوازية تفضل ال “فيما بينها” (l’entre – soi)، وتعشق الحياة فيما بينها، في مجالات خارج المشترك، و التي تتصورها و تشكّلها على صورتها، و سواء بالأحياء الراقية أو ذات الأعراف!، لباريس (غربها)، أو الأحياء نفسها بمدن الأقاليم، فالقصر أو البيت العائلي الكبير، مع الأراضي التي تحيط به تستمر في أن تكون موضوع إرث تتوارثه الأجيال، و تحتل به هذه الأسر موقعا لا مثيل له، إلا عند قادمين جدد اغْتَنَوا بالأعمال أو بالإعلام و الذين يسجلون نجاحهم بالانضمام إلى هذا العالم المغلق الذي يجسد القوة و العظمة ([9])، و في كل كتاب من كتب Michel Pinçon هذا، أو التي بالاشتراك مع زوجته (Monique Pinçon charlot) أو الجماعية، يقف القارئ مشدوها أمام أشكال الاستمرارية للقديم (المعلن نهايته منذ زمن!) في النسيج الاجتماعي لأرض الـثورة الـبورجوازية الشهيرة ، و عـاصمة الشـعار (البورجوازي) الشهير (حرية، مساواة، أخوة)، بكل بنياته (القديم) و طقوسه و طابوهاته و شكل السلطة فيه، و التي تتخذ شكل سلطان، على النمط القديم ([10]).
و في آخر كتاب ل Pinçon و زوجته ([11])، و بعد ثمان سنوات من كتاب ” رئيس الأغنياء” ([12]) (يقصدان ساركوزي)،يكشفان اليوم عما يسميّانه بكل وضوح ب”الانحراف الأوليغارشي للسلطة بفرنسا”، و أبعد من الاحتقار الاجتماعي الذي تنم عنه تعابير الرئيس (Macron): “الذين ليسوا شيئا”!!، يوثّق الباحثان واقع مشروع سياسي لللامساواة عميقا. فبعيدا عن كون الرئيس كان مرشحاً خارج النسق، فهو طفل “السراي” (serail)!، ثم جعله (adoubé) من طرف الأقوياء، مموّلا من طرف الواهبين الأسخياء… هذا الرئيس المنتخب بشكل سيء، ضاعف الهدايا للأكثر غنى عبر إجراءات تكلف مالا مجنونا (Pognon de dingue)، تدفع فاتورته الطبقات الشعبية من رصيد الخوصصة أو تدهور الخدمات الاجتماعية، ومن المسوّق سياسة إيكولوجية. و بترتيبهما للوقائع و مسحهما لمجالات السلطة، يكشف الباحثان عن كون الذي يجري في اللحظة الراهنة هو حرب للطبقات، من القلب!!، لما يشبه أكثر فأكثر ملكية رئاسية (monarchie présidentielle)([13]).