استثمار الأموال في ضوء إعمال المقاصد القرآنيَّة_ ج1( البشير قصري).
مقدمة:
من الحقائق الأوليَّة أنّ الحياة متحركِّة متطوِّرة، دائمة الشباب، مستمرَّة النمو، تنتقل من طور إلى طور، ومن لون إلى لون، لا تعرف الوقوف ولا الركود، ولا تصاب بالهرم ولا التعطّل، فلا يسايرها في رحلتها الطويلة المتواصلة إلا دين حافل بالحركة والحيويَّة والنشاط.
وذلك شأن الإسلام، فإنه- وإن كان مؤسسا على عقائد ثابتة وحقائق خالدة- زاخر بالحياة ، حافل بالنشاط، له من الحيويَّة معين لا ينضب، ومادة لا تنفد، صالح لكل زمان ومكان، عنده لكل طور من أطوار الحياة، ولكل عهد من عهود التاريخ، ولكل مجتمع عصري من مجتمعات البشر، مدد لا يقصر عن الحاجة ، ولا يتأخر عن الأوان. فلا هو مساير مائع ككثير من الأديان المحرَّفة، ولا هو مراقب جامد ككثير من الفلسفات النظريَّة، إنه باختصار كما وصفه العلامة أبي الحسن الندوي:”الدين الحي للإنسان الحي الذي يشعر بشعوره، ويعترف بحاجاته، ويرشده في مشاكله، ويعارضه في اتجاهاته الفاسدة”.[1]
ولكن لنا أن نتساءل كيف يستطيع الإسلام أن يقوم بتلكم الوظيفة ويحقق ذلكم الهدف على اختلاف الأزمان والأمصار وتكاثر المعضلات والمشكلات وتصلب التحديات؟
والجواب: أن مرد ذلك إلى أمرين اثنين:لأمر الأول: الحيويَّة الكامنة في وضع الإسلام نفسه وصلاحيته للإرشاد في كل بيئة وفي كل عهد محيط، فقد خص الله محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة تستطيع أن تواجه كل ما يتجدد من أحداث، وتحل كل ما يعتري الحياة من مشكلات، ولعل الدراسة الشاملة للقرآن والسنة ومصادر الإسلام كافلة بالإقناع والإفحام.
االأمر الثاني: هو أن الله عز وجل تكفل بأن يمنح هذه الأمة رجالا أقوياء أتقياء علماء صلحاء مصلحين، يجددون فهم الدين ويعيدون للأمة شبابها ونشاطها.
إن المتدبر للآيات القرآنيَّة يجدها قد بينت مقاصد الشريعة في الحث على الكسب والإنتاج،ولم تتردد في جعل المال قوة يرتكز إليها المؤمن في دار الدنيا ليحقق غايات وأهداف الاستخلاف في الأرض.
ففي المعين القرآني وبيانه الهدي النبوي دلالات عظيمة وآيات حكيمة وسنن قويمة تبرهن وتبين أهميَّة الكسب الحلال في ترسيخ معنى الطاعة والاستخلاف، كما تؤكد على قيمة وخصوصيَّة الإنتاج والإبداع إن كانا منضبطين بربانيَّة الغاية و البواعث والأهداف، وتعزز صلاحيَّة النظريَّة الإسلاميَّة في الاقتصاد والمال لإنقاذ الأفراد والمجتمعات من التخبط السائد في منطلقات الحياة الماليَّة المعيشة، والحالة الاجتماعيَّة المنبثقة عنها، جراء عدم احترام ضوابط الشرع والغفلة عن مقاصده في المنح والمنع والتقديم والتأخير، وفي سياسة المال وتدبير الاقتصاد والأعمال، وقد شهد التاريخ نجاح التشريع المالي الإسلامي في إنقاذ البشريَّة من وهدة الفقر واستبداد الغنى وظلم الربا وجهل الإنتاج، وهو مرشح اليوم – بل المرشح الوحيد- ليوقف تغول المال وتسيده، ويعالج ما خلفه من أزمات ويـخمد ما أوقد من حروب وصراعات ويصحح مسار الإنسانيَّة إلى ما فيه صلاحها، فيصبح المال عامل بناء وتعاون، لا معول هدم ودمار، فلا قيام للعالم إلا بحسن تدبير المعاش والاكتساب وقد قيل:”إذا أسلم المال أسلم العالم كله”.
ولقد جُربت العديد من النظريات التي وعدت ولكنها انتكست لعدم جديتها في المعطيات ولا
حتى في التنفيذ، فلا نجاعة في الوسائل أحيانا،ولا منفعة في الأهداف غالبا، لكن المشروع الرباني القرآني للتعامل مع المال كان واضحًا كل الوضوح في تناول كثير من القضايا الماليَّة والعديد من المسائل الاقتصاديَّة المتعلقة بالإنتاج والاستهلاك والاستثمار والتوزيع، وحماية المال العام، وحرمة المال الخاص.
إذن فالإشكال العلمي الذي يحاول هذا البحث معالجته هو: الكشف عن موقع المقاصد القرآنيَّة للتشريعات الماليَّة في ضبط وتوجيه عمليَّة استثمار الأموال.
وعنه تتفرع بعض الإشكالات الجزئيَّة_الخادمة له_ والتي يمكن إجمالها في التساؤلات التالية:
_ ما علاقة مقاصد القرآن بالتصرفات الماليَّة؟
_ ما هي الضوابط المقاصديَّة القادرة على ممارسة وظيفة التوجيه والتسديد والتطوير لحركيَّة المال؟
وهو ما سأعالجه بعد هذه المقدمة من خلال محورين: الأول يتطرق إلى مقاصد القرآن من تشريع الأحكام الماليَّة، والثاني يتناول استثمار الأموال على ضوء المقاصد القرآنيَّة أو ما يطلق عليه “تقصيد الاستثمار”، وصٌدِّر المحوران بمبحث تمهيدي لغرض تدقيق المفاهيم والمصطلحات، وذُيّلا بخاتمة.
المبحث التمهيدي: تحديد أهم مصطلحات البحث.
معنى إعمال المقاصد
“إعمال المقاصد” مركب إضافي، ولتحديد مفهومه ينبغي تعريف جزأيه. وهو ما سأحاوله بإيجاز كبير.
يتبين من خلال ما جاء في معاجم اللغة، أن “الإعمال” مصدر الفعل المتعدي “أعمل”، ويدور حول معاني ثلاثة، وهي التمكين، والمطاوعة، والقدرة على التوظيف.[2]
أما اصطلاحا فرغم كثرة تداوله عند الأصوليين والفقهاء في كتاباتهم فإنهم لم يهتموا بوضع تعريف له يبين حده، وهو ما حاول استدراكه أحد الباحثين المحدثين، فبعد أن قرر الدكتور عبد الكريم صغيري أنه في بحثه عن تعريف للإعمال لدى القدامى لم يظفر بشيء يذكر، وأشار إلى أن تداوله الكبير لدى السابقين يوحي بأصالة المصطلح ويهدي إلى ماهيته، بعد ذلك وضع له تعريفا كالآتي:”ومن هنا يمكن القول: إن مصطلح “الإعمال” هو القدرة على التوظيف، والتمكن من التنزيل والاستخدام، فالقياس مثلا دليل من الأدلة، لكن توظيفه واستخدامه في استثمار الأحكام يسمى “إعمالا”[3].
انطلاقا من استعمال الأصوليين والفقهاء لمفهوم “الإعمال” في كتبهم، ومن التعريف الذي صاغه الأستاذ صغيري، يمكن أن نعرف ” الإعمال” بأنه: القدرة على توظيف أمر ما، والتمكن من تطويعه واستعماله وحسن تطبيقه وتنزيله بما لا يخرجه عن حقيقته.
وأما المقاصد فهي جمع مقصَد_ بفتح ما قبل آخره_ إذا أردت المصدر بمعنى القصد، وإذا أردت المكان بمعنى جهة القصد فيكسر ما قبل آخره (مقصِد). وبالرجوع إلى معاجم اللغة نجد أن دلالة “القصد” تدور حول: التوجه، والعزم، والعدل، والاستقامة.[4]
وفي الاصطلاح فقد تعددت التعاريف –ولم تختلف كثيرا ، سوى ما كان في الإجمال والتفصيل- وكلها عائدة إلى أن “المقاصد” هي المعاني والحكم والغايات التي انطوت عليها الشريعة عند كل حكم من أحكامها، وأكتفي بالإشارة إلى تعريفين اثنين، الأول للأستاذ علال الفاسي حيث قال:” المراد بمقاصد الشريعة: الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها”[5]، والثاني للشيخ عبد الله بن بيه إذ يقول:” مقاصد الشريعة: هي المعاني المفهومة من خطاب الشارع ابتداء، وكذلك المرامي والمَرَامِزُ والحِكم المستنبطة من الخطاب، وما في معناه؛ من سكوت بمختلف دلالاته، مدركة للعقول البشريَّة، متضمّنة لمصالح العباد، معلومة في التفصيل أو في الجملة”[6].
وهكذا يمكن القول بأن “إعمال المقاصد” هو: “القدرة على توظيف المقاصد، واستعمالها في فهم النصوص، والاستعانة بها في معرفة الواقع، واستخدامها في تنزيل الأحكام على الوقائع”. فهو إذن عمليَّة طويلة المدى، عظيمة الأثر تقوم على استصحاب المقاصد مذ تلقي النصوص وفهمها، مرورا بتقدير الواقع وتقييمه، وصولا إلى التفاعل معه بالحكمة المطلوبة أثناء التنزيل.
وهنا تبرز الحاجة الملحة إلى إعمال المقاصد وتفعيلها، إذ أعطى للمقاصد مفهوما عمليا يخرجها من بطون الكتب، وينزلها من أبراجها الدلاليَّة، لتلامس هموم وقضايا الناس، ذلك أن حاجة الأمة اليوم لتفعيل المقاصد، تضاهي حاجتها لدراستها.
- معنى استثمار الأموال
أبدأ بتعريف المال لغة: “المال في اللغة هو كل ما يتمول ويعده الإنسان مالا، والسبب في تسمية ما تتموله النفس مالا هو الميل إليه أي الرغبة فيه والحاجة إليه، أو من ميله إلى الإنسان أي الخضوع له بالملك والحبس والحيازة”[7]. فنجد في المصباح المنير(مادة مال): المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى من الأعيان، وكان المال في أكثر كلام العرب يطلق على الإبل لأنها كانت أكثر أموالهم.
وأما في الاصطلاح الفقهي فالمال “هو كل يمكن حيازته ويمكن الانتفاع به على وجه شرعي”[8] وهذا التعريف لم يبتعد كثيرا عن المعاني اللغويَّة السالفة الذكر. وتجدر الإشارة هنا إلى الأهميَّة الكبرى التي يكتسيها المال في شريعة الإسلام، فمن نظر إلى القرآن مستهديا وجد ما لا يسعه حد ولا يحصره عد من الآيات-فضلا عن الأحاديث النبويَّة- التي تثبت قيمة المال ومكانته، وقد عبر عن ذلك الطاهر ابن عاشور بقوله: “وإذا استقرينا أدلة الشريعة من القرآن والسنة الدالة على العنايَّة بمال الأمة وثروتها، والمشيرة إلى أن به قوام أعمالها وقضاء نوائبها، نجد من ذلك أدلة كثيرة تفيدنا كثرتها يقينا بأن للمال في نظر الشريعة حظا لا يستهان به”[9]
أما مصطلح الاستثمار فيعد من المصطلحات الأكثر انتشارا في عالم المال والأعمال، وذلك لكونه أبرز الوسائل المتاحة لنماء المال وتداوله. فالاستثمار مأخوذ من الثمر وهو الزيادة، قال صاحب اللسان: “الثمر حمل الشجر وأنواع المال والولد ثمرة القلب، وأثمر الشجر خرج ثمره، يقال ثمر الله مالك أي كثره، أثمر الرجل كثر ماله”[10]، وبوضوح أكبر، وبألفاظ حديثة قيل: “الاستثمار استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأوليَّة، وإما بطريق غير مباشر كشراء السهم والسندات”[11]. والاستثمار في الشرع لا يخرج عن المعنى اللغوي السابق، فهو مساو له تماما ومتفق معه وبهذا قطع الدكتور فريد واصل[12].
ومما سبق يمكن القول إن استثمار الأموال يعني من الناحية الشرعيَّة استخدام المال قصد نمائه وزيادته وإحيائه فيما أحله الله بكل الوسائل المشروعة.
وحتى من الناحية الاقتصاديَّة لم يخرج التعريف عما ذكر، فالاستثمار عند الاقتصاديين يعني:”امتلاك وشراء مواد الإنتاج وتكوين رؤوس الأموال، لأن المقصود هو الزيادة في حجم رصيد رأس المال أو تحصيل الربح”[13].
المحور الأول: مقاصد القرآن من تشريع الأحكام الماليَّة.
المبحث الأول: علاقات استثمار الأموال بمقاصد الشريعة.
بالنظر المستبصر في كتاب الله عز وجل وسنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، يتضح أن العلاقة بين التصرفات الماليَّة عموما، والاستثمار خصوصا، والمقاصد الشرعيَّة يمكن وسمها بعلاقة الفرع بأصله والمسألة بقاعدتها، وإلى هذا خلص أحد المقاصديين المغاربة وهو الدكتور محماد بن محمد رفيع إذ يقول: “وعليه يمكن أن نقرر أن ارتباط البحث العلمي في الاقتصاد الإسلامي بمقاصد الشريعة ارتباط الجزئي بكليه والفرع بأصله والمسألة بقاعدتها”[14]. وبيان ذلك في ما يلي:
أولا: استثمار الأموال وسيلة الإعمار في الأرض.
فالإعمار في الأرض مقصد من مقاصد الشريعة الإسلاميَّة، قال الله تعالى: (هو الذي أنشأكم في الارض واستعمركم فيها)هود الآيَّة 61، وعمارة الأرض مفهوم شامل للعمارة المعنويَّة (دعوة وعدل وأمن وسلام و…) وللعمارة الماديَّة (زراعة وصناعة وتجارة …) وهذه الأخيرة لا تكون إلا بمال ينمو ويثمر واقتصاد يتطور ويتقدم.
ثانيا: استثمار الأموال وسيلة لتحقيق مقصد حفظ المال.
من المعلوم أن المال من الضروريات الخمس التي جاء الشرع لحفظها من جهة الوجود ومن جهة العدم، والشأن المالي محور نشاط الاقتصاد الإسلامي، وهكذا “تنزرع القضيَّة الماليَّة في صميم الكليات الكبرى للشريعة كما تنزرع في فروعها وجزئياته”[15]، فالنشاط الاستثماري بمختلف عملياته إنما يمثل الوسيلة الإجرائيَّة لتحقيق أوجه الحفظ للقضيَّة الماليَّة.
ثالثا: استثمار الأموال وسيلة لتحقيق مقصد حفظ النوع الإنساني.
بدون الإنسان لا يتصور تطبيق دين ولا تنفيذ أحكام، فالحفاظ على استمرار الوجود الإنساني ضرورة ومطلب شرعي، ولا بقاء للإنسان من غير مال يوفر به ضروراته وحاجاته ويؤمن به عيشه على هذه البسيطة، فالمال هو الطعام وهو الشراب وهو الكساء وهو المسكن، وهو الدواء، وهو مهر الزوجة، وهو آلة الزرع والحصاد وآلة الدفاع على الدين والنفس والوطن…والنشاط الاستثماري يخدم هذا المقصد العظيم، ألا وهو حفظ حياة الإنسان ونشاطه وقدرته على الإعمار. وأشير إلى التنبيه الذي أورده الدكتور رفيع حينما قال: “فليس المقصود الحفاظ على الإنسان حيا، بل الحفاظ عليه حيا فاعلا”[16] ليس الحرص حياة أي حياة، وإنما الحياة الطيبة التي تؤتي أكلها كالشجرة الطيبة كل حين إعمارا للبلاد وإسعادا للعباد.
إن طبيعة هذه العلاقة (أصل وفرع-وسيلة وغاية-جزء وكل) تجعل إبرام العقود الماليَّة من حيث الصحة والفساد راجعا إلى مدى تحقيق وتأمين المقاصد الشرعيَّة، وفي هذا الصدد يقول ابن عاشور :”وعلى رعي مقاصد الشريعة من التصرفات الماليَّة تجري أحكام الصحة والفساد في جميع العقود في التملكات والمكتسبات”[17].
المبحث الثاني: مقاصد استثمار الأموال .
مقاصد استثمار الأموال هي نفسها مقاصد الأموال، لأن المال لم يطلب لذاته، وإنما لتنميته والمحافظة عليه وتوظيفه لما يفيد الفرد والجماعة في الجانبين المادي والمعنوي. لذلك سأتطرق إلى ما استقراه من القرآن العلماء والباحثون من مقاصد كليَّة للتشريعات الماليَّة.
وأبدأ بصاحب الكليات الأساسيَّة للشريعة الإسلاميَّة الدكتور أحمد الريسوني –اقتصر على استنباطها من القرآن الكريم- إذ جعل من الكليات التشريعيَّة أساسا صاغه كالآتي :”التصرف في الأموال منوط بالحق والعدل”[18]، وأشار إلى أن مرجح التحريم –وما سوى المحرم هنا مباح- في الأموال والتصرفات الماليَّة أمران هما:
تحريم كسب الأموال وتداولها بالباطل، أي بغير وجه حق واستحقاق.
تحريم صرفها واستعمالها واستهلاكها فيما لا نفع فيه ولا طائل تحته أو فيما فيه ضرر أو فساد[19].
ويلخص المغزى العام، والكلمة الفصل في القضيَّة الماليَّة بمقولة تنطوي على الكثير من الحكم النفسيَّة التربويَّة، والأبعاد الاجتماعيَّة الاقتصاديَّة، وهذا نصها: “فالمغزى العام هو أن الإنسان أوتي الأموال والخيرات لينفقها لا ليمسكها، وليستعملها فيما ينفع غيره، لا ليكون هو عبدا لها مستعمَلا في جمعها وحراستها. بل إن ملكيَّة الإنسان للأموال، إنما هي ملكيَّة حق الاستعمال”[20]. ولا يخفى على قارئ لكتاب الله، فضلا عن دارسِه ومتدبره أن ما انتهى إليه الدكتور الريسوني هو منطوق العديد من الآيات القرآنيَّة، منها :(وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) الحديد الأيَّة7، وقوله عز وجل في سورة النور(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) الآيَّة 33.
إذن هذا العلامة المقاصدي يجعل لنا قاعدة أو كليَّة ضابطة وموجها للاشتغال على الأموال استثمارا، وطبعا يتفرع عن ذلك من القواعد الشيء الكثير.
وبعده أنتقل إلى مقاصدي آخر وهو الدكتور محماد رفيع في كتابه النظر المقاصدي رؤيَّة تنزيليَّة، حيث نجده يركز على ثلاثة مقاصد كليَّة أصليَّة ينبغي أن توجه المشاريع الاقتصاديَّة والاستثماريَّة، وهي كما يلي[21]:
أولها: القصد الأصلي من خلق الكون أن يكون ظرفا حياتيا لوجود الخلق من الجن والإنس، والمشاريع الاقتصاديَّة العامة التي تجري في هذا الفضاء المسخَّر ينبغي أن تتوافق مع هذا القصد الكبير، حتى لا تفضي إلى اختلالات كونيَّة وبيئيَّة.
ثانيها: القصد الأصلي من خلق الإنسان العبوديَّة لله وحده، فالإنسان من هذه الزاويَّة المقاصديَّة درة الوجود، وحوله يدور، وهو عروسه ومعناه ومغزاه، ما خٌلق ليكون عجلة من عجلات الاقتصاد، ولا عاملا من عوامل الإنتاج، ولا دابة تأكل وتتمتع بلا هدف، وباستبطان هذه الخلفيَّة الفلسفيَّة المقاصديَّة ترقى المشاريع الاستثماريَّة إلى تحقيق الحاجيات الماديَّة المعاشيَّة، والمطالب الإيمانيَّة الأخرويَّة.
ثالثها: المقصد الأصلي من المال يتمثل في تأمين بقاء حياة الإنسان في حده الأدنى، والوسيلة لذلك توظيف القضيَّة الماليَّة والحركة الاستثماريَّة لتلبيَّة الحاجات الضروريَّة لحياة الإنسان على سبيل الوجوب الشرعي.
وهكذا حين تشق العمليَّة الاستثماريَّة طريقها في سياق القصدين الكبيرين من خلق الكون والإنسان، يكون المال والاقتصاد وسيلة لإنتاج مادة الحياة ولإعمار الأرض[22].
بعد الدكتورين الريسوني ورفيع أحط الرحال عند الشيخ ابن عاشور وقولته الشهيرة لدى المقاصديين الاقتصاديين:”والمقصد الشرعي في الأموال كلها خمسة أمور: رواجها، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها”[23]. وبعدها تجده يشرح ويؤصل ويضرب الأمثلة لكل مقصد، وفيما يلي تلخيص لذلك: أما الرواج فيقصد به رحمه الله دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق.
وأما وضوح الأموال فمعناه إبعادها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر الإمكان، ولذلك شرع الإشهاد والرهن في التداين.
وأما حفظ الأموال ففي القرآن والسنة تنويه بشأن حفظ المال وحافظه وعظم إثم المعتدي عليه، وإذا كان ذلك شأن مال الأفراد، فحفظ مال الأمة أجل وأعظم.
وأما إثباتها فأراد به رحمه الله تعالى تقررها لأصحابها بوجه لا خطر فيه ولا منازعة، ومقتضى ذلك أمور ثلاثة:
أن يختص المالك الواحد أو المتعدد بما تملكه.
أن يكون صاحب المال حر التصرف في ما تملكه.
أن لا يٌنتزع منه بدون رضاه.
بينما العدل فيها يفيد أن حصولها كان بوجه غير ظالم، وذلك إما بعمل أو عوض أو تبرع أو إرث، ومن مراعاة العدل حفظ المصالح العامة ودفع الأضرار.
ومهما يبدو من اختلاف بين الأنظار الثلاثة سواء من أفرد المقاصد في واحدة، أو من ثلثها أو من خمَّس، فإنه لا يعدو أن يكون تعميما أو تخصيصا و تركيبا ودمجا، أو تفريعا وتفكيكا.
_____________
[1] – محاضرات إسلاميَّة في الفكر والدعوة، الجزء الأول صفحة 44 طبعة 2001 دار ابن كثير دمشق بيروت.
[2] – ينظر المعجم الوسيط، مجموعة من المؤلفين، ومختار الصحاح، أبو بكر الرازي، مادة (ع، م، ل).
[3]– إعمال المقاصد وأثره في النوازل الماليَّة عند المالكيَّة، عبد الكريم صغيري ص 21، رسالة لنيل شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلاميَّة، نوقشت بكليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة سايس فاس. 2011_2012م.
[4] – القاموس المحيط، الفيروز آبادي، مادة (ق، ص، د).
[5]– مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ومكارمها، علال الفاسي، ص 3.
[6] – مشاهد من المقاصد، عبد الله بن بيه، ص 32.
[7] – د.نصر فريد واصل، السياسة الشرعيَّة في المعاملات الماليَّة والاقتصاديَّة والاستثماريَّة، ص 103، دار الشروق الطبعة الأولى 2006.
[8] – وهذا ما ذهب إليه الشيخ يوسف القرضاوي بعد ما ذكر تعريفات الفقهاء واختلافهم بين اعتبار الحيازة أو المنفعة، أو هما معا. أنظر كتابه فقه الزكاة الجزء 1 ص123 وما بعدها، دار المعرفة الدار البيضاء.
[9] – محمد الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلاميَّة، ص 187 دار سحنون ودار السلام الطبعة السابعة سنة 2016 تونس.
[10] – لسان العرب لابن منظور ج4 ص 106.
[11] – نقلا عن الدكتور عبد الكريم عبادي، الفقه المالي المعاصر، ص153 عالم الكتب الحديث، الأردن الطبعة الأولى 2019م.
[12] – أنظر فريد واصل، مرجع سابق ص 121.
[13] – نقلا عن الدكتور محمد الحفظاوي في كتابه أحكام استثمار أموال الزكاة وتطبيقاته، ص 25،الطبعة الأولى 2018م،مؤسسة الراوي للتجارة والخدمات، الرشيديَّة.
[14] – النظر المقاصدي رؤيَّة تنزيليَّة، ص 67 دار السلام الطبعة الأولى 2010م.
[15] – نفسه ص 69.
[16] – نفسه ص 72.
[17] – الطاهر ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلاميَّة ص206، مرجع سابق.
[18] – الكليات الأساسيَّة للشريعة الإسلاميَّة، ص 96، الرباط 2007م.إصدارات اللجنة العلميَّة لحركة التوحيد والإصلاح.
[19]– أنظر المرجع نفسه، ص 97.
[20]– نفسه، ص 99.
[21] – محماد رفيع، مرجع سابق، صفحات من 75 إلى 79. واكتفيت بتلخيصها.