الأزمات النفسية لإنسان الحضارة المعاصرة وتكلفتها الاجتماعية (محمد الغرضوف)_1_
1_ أزمة القلق وتكلفتها الاجتماعية:
إذا أردنا ان نصف خاصية مميزة لإنسان اليوم فلن تعلو على صفة القلق بالدرجة الأولى ف”الإنسان العصري قلق، حتى ولو كان في زمن السلم، وفي جو البحبوحة الاقتصادية؛ لأن عالم التكنولوجيا الذي يشكل محيطه المباشر، والذي فصله عن عالم الطبيعة الذي تطور الإنسان فيه أصلا، فشل في توفير حاجات الإنسان الأساسية التي لم تتغير ولم تتبدل. ومن نواح كثيرة يشبه إنسان العصر “الحيوان البري” الذي يقضي حياته في حديقة الحيوانات، فالإنسان الآن كهذا الحيوان..يتوفر له الغذاء الكافي والحماية الكافية من القسوة، ولكنه يحرم من المثيرات الطبيعية الأساسية للعديد من وظائفه الجسدية والفكرية، فإنسان اليوم ليس فقط غريبا عن أخيه الإنسان وعن الطبيعة، بل الأهم بكثير هو أنه غريب معزول عن أعماق ذاته”.
هذا القلق كان محط اهتمام عدد كبير من الكتاب الغربيين كديل كارنيجي والكسيس كاريل وويل ديورانت وغيرهم من نقاد الحضارة الغربية، ويرجع هذا الاهتمام إلى بروز خطورة هذا الداء الفتاك في صمت والذي يعصف بآلاف البشر من خلال التسبب بأمراض القلب والنفس والعقل، ولعل عيادات الأمراض النفسية تغص ب”القلقين” و”المكتئبين” رغم التكلفة العالية؛ كما تدل على ذلك التقارير الرسمية ففي السويد مثلا “تعلن الحكومة أن 25% من سكان السويد مصابون بأمراض عصبية ونفسية. وأن 30% من مجموع المصروفات الطبية في السويد تنفق في علاج الأمراض العصبية والنفسية، وان 40% من مجموع الأشخاص الذين يحالون إلى التقاعد –قبل سن المعاش- بسبب العجز عن العمل تماما هم من المرضى المصابين عقليا”.
يكمن السبب حسب عدد من المقاربات إلى نمط الحضارة المعاصرة اللاهثة وراء المادة، ولهذا فكثير من “الخبراء بحياة الغرب يشكون من مرارة الكفاح الدائر في أرجائه للحصول على المال والمكاثرة به. فالأفراد والجماعات منطلقون في سباق رهيب لإحراز أكبر حظ مستطاع من حطام الدنيا. وقواهم البدنية والنفسية تدور كالآلة الدائبة وراء هذه الغاية، وقد احتشدت فيها جميع الخصائص الإنسانية الدنيا والعليا. إلا أن الآلات قد يقطر عليها من الزيت ما يرطب حدة الاحتكاك في حركتها، ويمنع الشرر المتولد من إحراقها، أما أعصاب الناس في عراك المادة الرهيب فكثيرا ما تفقد هذا العنصر الملطف، وتمضي مستثارة يستبد بها القلق والضيق حتى تشتغل فتأتي على الأخضر واليابس”.
وقد كتب (ديل كارنيجي) يصف مشاهد هذا السعار المادي وما خلفه في النفوس والجسوم من بلاء فقال: «عشت في نيويورك أكثر من سبع وثلاثين سنة، فلم يحدث أن طرق أحد بابي ليحذرني من مرض يدعى القلق، هذا المرض الذي سبب في الأعوام السبعة والثلاثين الماضية من الخسائر أكثر مما سببه الجدري بعشرة آلاف ضعف، نعم لم يطرق أحد بابي ليحذرني أن شخصا من كل عشرة أشخاص من سكان أمريكا معرض للإصابة بانهيار عصبي مرجعه في اغلب الأحوال إلى القلق».
ولا يكمن الخطر في انتشار هذا المرض في المجتمع خاصة المتقدم وحسب؛ بل في النتائج المترتبة عليه من إدمان للمخدرات والمسكرات، والضياع النفسي والروحي واندثار القيم والأخلاق نتيجة الحلقة المفرغة التي يدور فيها هؤلاء المرضى، ناهيك عن التمرد على المجتمع وقيمه وأخلاقه إن بقي منها شيء. “لقد كان نتيجة هذا القلق والسخط والتفاهة وفقدان الهدف، الذي يعانيه الناس في الغرب: ظهور تلك الأصناف التي نقرأ ونسمع عنها هناك من “الخنافس” و”الهيبيز” وما شابه ذلك مما تمخضت عنه حضارة المادية والآلة.
إنهم يمثلون التمرد على الحضارة الغربية المادية الاستهلاكية، التي لم تشبع جوعهم الروحي، ولم تملأ فراغهم العقدي، ولم تجب عن أسئلتهم الحائرة، ولم يعرفوا معها للحياة هدفا ومعنى، ولذلك غاصوا في الأوحال بين المسكرات والمخدرات حتى غابوا عن أنفسهم، وما حولهم ثم طفقوا يبحثون عن شيء آخر غير مادي، فتعلقوا بما سمي “تحضير الأرواح” ويبدو أن هلوسة المخدرات جعلتهم يتخيلون أنها حضرت فعلا، وأنهم رأوها عيانا!”.
“ومن مظاهر القلق ولوازمه في الحضارة المعاصرة: انتشار مرض “الاكتئاب النفسي” الذي يجعل الإنسان سجين نفسه، وهو وسط المجتمع، ويحيل حياته إلى جحيم، وفي يديه الثروة، وبجواره أدوات اللذة والمتعة، ولكنه يحيا في عزلة نفسية، وكثيرا ما تكون عزلة مادية بالفعل، وخصوصا لدى كبار السن، وبالأخص النساء اللائي أعرضن عن الزواج في شبابهن، فلم يجدن في الشيخوخة من يؤنس وحشتهن.” إلا تلك الملاجئ من دور العجزة والمشردين الباردة جدرانها، والخالية من كل حميمية عائلية ودفء أسري أفرادها، وهذا بالتأكيد في مجتمع المادية والإلحاد هو توقيع على بياض من أجل الانتحار أو الجنون الرسمي المزمن.