الأزمة في فرنسا: حين يصنع الهامش السياسة(محمد تورشين)_2_
تحديات الضواحي: الثابت والمتحول
اعتمدت الحكومات الفرنسية المتعاقبة على مدار العقود الثلاثة الماضية، على مقاربة تحديث الضواحي وفق سياسات محددة. حيث أنفقت “الوكالة الوطنية للتحديث الحضري”، بين عامي 2004 و2020، قرابة 12 مليار يورو، استُخدمت في هدم صفوف الأبنية الشاهقة، وتشييد أبنية حديثة أصغر، إضافة إلى تحسين وسائل النقل العام، إلا أن الكثير من المراقبين اعتبروا تلك السياسات غير كافية؛ لكونها لم تراعِ في نظرهم مسائل تطوير التعليم، وفرص العمل، ومكافحة التمييز، والعلاقات مع أجهزة الأمن، وصعوبة الوصول إلى الإجراءات القانونية وغيرها(10).
ووفق بيانات “معهد الإحصاء الوطني” (إنسي) لهذا العام، يعيش 5.2 ملايين شخص في أحياء محرومة في الضواحي، أي حوالي 8% من السكان في عام 2014، وقد حددت الدولة 1514 حيًّا فقيرًا عُرفت بالأحياء ذات الأولوية لسياسة المدينة، وهذه الأحياء هي بمجملها مناطق سكنية واسعة في ضواحي المدن الكبرى، أو مناطق صناعية سابقة، أو أحياء بعيدة عن وسط مدن صغيرة ومتوسطة الحجم. ثم إن نحوًا من 23.6% من سكان هذه الأحياء لم يولدوا في فرنسا، مقارنة بـ10.3% في بقية البلد، وفق بيانات “معهد الإحصاء الوطني” لعام 2021(11).
وعلى سبيل المثال ففي ضاحية سين-سان-دوني الباريسية ذات الكثافة السكانية العالية، وهي من الأحياء ذات الأولوية في السياسات الأمنية، يرتفع هذا المعدل إلى 30.9%، وفق بيانات “إنسي” لعام 2020. ويزيد احتمال أن يتعرض شاب يُنظر إليه على أنه من أصول إفريقية أو عربية إلى تدقيق أمني بعشرين ضعفًا مقارنة بغيره، وفق تقرير صادر عام 2017 عن هيئة “المدافعة عن الحقوق” الفرنسية. ويتراجع الوضع الاقتصادي لقاطني الأحياء الشعبية مقارنة بغيرهم؛ إذ يبلغ متوسط الدخل المتاح في الأحياء الشعبية 13770 يورو سنويًّا لكل أسرة، أي 1147.5 يورو شهريًّا، مقارنة بـ21730 يورو في المناطق المحيطة بها، وفق بيانات “إنسي” لعام 2020(12).
يعيش أكثر من نصف الأطفال في هذه الأحياء حالة الفقر (56.9% مقابل 21.2% في بقية فرنسا)، وفق معهد الإحصاء الوطني. بشكل عام، وكان معدل الفقر في الأحياء الشعبية عام 2019 أعلى ثلاث مرات من أي مكان آخر في فرنسا؛ إذ يعيش 43.3% من سكانها تحت خط الفقر، مقارنة بـ14.5% في بقية المناطق. بحيث يستفيد ربع سكان الأحياء الشعبية من “دخل التضامن النشط” والمساعدات الاجتماعية المستحقة للأشخاص الأكثر حرمانًا، وهو ضعف المعدل في بقية فرنسا(13).
كما أن معدل البطالة أعلى بكثير في الأحياء الشعبية، ففي عام 2020، كانت نسبة 18.6% من القوى العاملة عاطلين عن العمل، مقارنة بـ8% على المستوى الوطني، وانعكست الأوضاع الاقتصادية على المشاركة السياسية، إذ امتنع 48% من السكان البالغين في هذه الأحياء عن التصويت، أو لم يسجلوا في القوائم الانتخابية في الانتخابات الرئاسية لعام 2017، وعام 2020، فيما انخفضت هذه النسبة إلى 29% في بقية فرنسا. وبين عامي 2004 و2020، استثمرت الوكالة الوطنية للتجديد الحضري نحو 12 مليار يورو في الأحياء الشعبية. وقد تم هدم مجمعات سكنية ضخمة متهالكة في 600 حي، وشيدت مكانها مبان منخفضة وأكثر انفتاحًا على المدن، كما تعتزم الحكومة استثمار 12 مليار يورو إضافية بحلول عام 2030(14).
خلافًا للسنوات السابقة، تنذر أعمال الشغب التي انطلقت تزامنًا مع الاحتجاجات، بمخاطر لا يمكن التنبؤ بها، فما يُميزها أن منظميها من الشباب صغار السن الذين يتحركون وفق مجموعات صغيرة لها قدرة عالية على الحركة، وسرعة التفرق، والتجول بين مجموعة وأخرى عبر الدراجات النارية، لتشتيت انتباه رجال الأمن. كما ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في حشد هؤلاء الشبان، وتنظيم تحركاتهم في التوقيت ذاته، وتنسيق عمليات الخروج والدخول وإشعال المنطقة. فيما تحاول الحكومة الفرنسية إيجاد سبل للتواصل مع هؤلاء الشبان الغاضبين، إلا أن صغر سنهم وتأثرهم بالألعاب والتطبيقات الافتراضية يصعِّبان عملية التواصل، وفق تصريحات المسؤولين الفرنسيين(15).