الأمة وتحدي العولمة(فؤاد بلموذن)
ينتظم الحديث عن المستقبل الحضاري للأمة مفهومين مركزيين، وهما مفهوم: “الأمة” ومفهوم: “الحضاري”، فخلاصات مفهوم “الأمة” باعتباره مفهوما حضاريا جامعا، وخلاصات “المنظور الحضاري” تشكل الخلفية المعرفية والفلسفية المؤطرة للرؤى والمشاهد المتعلقة بالمستقبلات الإسلامية البديلة.
ومن المعلوم أن الحضارة الإسلامية إنما جاءت نتيجة التعبئة الجماعية لأفراد الأمة، التي أذكت روحها مبادئ العقيدة الإسلامية فاستنفرت جموعا من القبائل العربية وغير العربية، كانوا يعيشون أشتاتا متفرقين، لا جامع بينهم، فإذا بهم ينقلبون أمة موحدة يتأهب أفرادها لصناعة حضارة مشهودة.
ولما كانت الأمة الإسلامية هي أصل الحضارة في الإسلام ومنشأها ونتاجها، فلا تصور للمستقبل خارج منطق الأمة وفلسفتها المرتكزة على روح العقيدة والرسالة. ذلك أن الحضارة الإسلامية هي ثمرة تدفق الإبداع العلمي والفكري والفني والأدبي للمجتمعات والشعوب الإسلامية، فهي تعكس إلى حد بعيد طبيعة التطور التاريخي الذي عرفته الحياة الإسلامية في مجالات مختلفة.
غير أن بناء المستقبل الحضاري الإسلامي في العصر الحديث لابد أن يستند إلى قواعد راسخة ومتينة تتمثل في العمل على التجديد الشامل والعميق الذي يشمل إعادة بناء الرؤية الإسلامية للإنسان والكون والزمن، والعمل على تجديد الأساليب التي يتوسل فيها في الحياة العامة، تحقيقا للمصالحة مع العصر، ووقف حالة الهروب أو الهجرة التي يباشرها العقل المسلم المعاصر، إما نحو التاريخ باعتباره منطقة آمنة، أو نحو حداثة مستوردة بقدرما تحقق إشباعه المادي، فهي تفاقم من أزمته الحضارية وتزيده رهقا.
إن الأمة الإسلامية اليوم تواجه تحديات شتى ليس أقلها تحدي الحداثة والعولمة، فهي مطالبة بصياغة رؤية مستقبلية تمكنها من بناء نموذجها الحداثي واختراق العولمة انطلاقا من مبدأ الاقتحام القرآني (( فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة )).[1] لتتجه نحو العالمية، ذلك المنحى الإسلامي الأصيل، برسالة حضارية عادلة وروح إيمانية مطمئنة، فالمستقبل الإسلامي لا يمكن إلا أن يتأسس على مفاهيم الأمة ونموذجها المعرفي الإرشادي، بحيث يسلك مسالك الأمة في الاستيعاب والتأليف الخلاق لكل حضارات الأرض، فالأمة التي (أُخرجت للناس) صنعت على هدي الكتاب، والكتاب جاء مهيمنا على كل الرسالات السابقة ومستوعبا لها، وموجها لها، فلا جرم أن حضارة الأمة المستخلفة ستنحو في المستقبل منحى الكتاب في الاستيعاب والاستقطاب والتأليف الحضاري، لنتحول نحو الأمة الرسالية ذات النزوع الإنساني الهادف لإنقاذ الإنسان والبيئة الكونية من تداعيات العولمة وفِخاخها المنصوبة.
ولتحقيق الانطلاقة الحضارية المستقبلية، ستكون الأمة أمام تحديين:
الأول: مقاومة العولمة الغربية ومعالجة تداعياتها بما يتطلبه ذلك من حكمة، ومرونة، وفقه، ورؤية مستقبلية ثاقبة.
الثاني: الشروع في الدخول في العالمية الإسلامية، سواء اعتبرناها (عالمية ثانية) يستأنف بناؤها بعد انتهاء أمد العالمية الأولى بتعبير أبي القاسم حاج حمد، أم تجديد مستمر لعالمية الإسلام الممتدة والمستمرة منذ أشرقت شمس الرسالة الخاتمة على العالم، لكن أيا كان الأمر، فعالمية الإسلام لا يتصور انبناؤها إلا على مبادئ الأمة الأصيلة.
لكن صياغة المستقبل الحضاري للأمة الإسلامية في عصرنا ليس بالأمر الهين، وذلك بالنظر إلى طبيعة التحديات التي تفرضها علينا العولمة، فمساحات الرؤية وهامش الفعل تضيق يوما بعد يوم، والعالم الإسلامي يعيش شطر منه تحت الاستعمار المباشر، والشطر الآخر تحت الوصاية والضغوط الاستعمارية، فمستقبلنا “مرهون بيد الغرب، مرهون مع مؤسسات التمويل الدولية.”[2] على مستوى الموارد المادية، ومع مراكز الدراسات والتخطيط المستقبلي والاستراتيجي على مستوى الخبرة العلمية والنظرية، ولذلك أعلن المهدي المنجرة صرخته المدوية في إحدى محاضراته: “نحن نعاني من استعمار الدراسات المستقبلية”. [3] إن العولمة تفرض على كل أمم الأرض مسارات تبدو كما لو كانت قدرا حتميا، ومن بين هذه المسارات الاتجاه نحو صراع الحضارات بتعبير “هنتينغتون” أو الحرب الحضارية بتعبير المنجرة، فهل المواجهة الحضارية كما تفرضها العولمة قدر محتوم ؟ أم أن هناك مجال للمناورة ؟ (يتبع)
[1] – سورة البلد، الآية 11-12
[2]-المنجرة المهدي، الحرب الحضارية الأولى، مستقبل الماضي وماضي المستقبل، دار عيون، الدار البيضاء، 1994 م، ص 33
[3] -المنجرة المهدي، محاضرة بعنوان: الدراسات المستقبلية والوضع الدولي، مكناس، سنة 1993.