الأوبئة والعيش المشترك(عز العرب لحكيم بناني)
يطرح السؤال اليوم على الفلاسفة، كيف يواجهون الأوبئة اليوم من خلال قيم العيش المشترك؟
كان الفلاسفة يواجهون هذه الأسئلة من خلال رافدين معرفيين، وهما أخلاقيات المهنة déontologie أو أخلاقيات البيولوجيا Bioéthique.
تطرح أخلاقيات المهنة قضايا شائكة على الطبيب الذي يجد نفسه متحيراً أحيانا بين الواجب المهني واحترام قسم أبوقراط وهو علاج المريض وبين اختيار الدواء على حسب دخل المريض وحسب القدر الماضي الذي يغطيه التأمين الصحي للمريض. إذا لم يجد الطبيب خياراً آخر أمامه، قد يختار الطبيب دواء قليل التكلفة المادية وذا مفعول علاجي أقل للمريض الذي لا يملك تغطية صحية أو تأميناً صحياً ضعيفاً. السؤال المطروح هو التالي: هل من العدل أن يموت مريض معسر قبل مريض آخر موسر لأسباب مادية، دون ضمان مساواة المرضى في أمل الحياة؟ عندما يمرض شخص لا يملك ذات اليد يكتفى بتناول دواء يخفف ألمه دون علاج الداء، بالمقارنة مع المريض الموسر. بطبيعة الحال، ظهرت الأدوية الجانسة لتدارك هذا الخلل، لكن سؤال المساواة والعدل بين المرضى يظل مطروحا من زاوية معيارية ويفرض علينا ضرورة البحث عن حجج عقلانية تبرر عدم احترام مبدأ المساواة بين المرضى. إذا ما قبلنا هذه الحجج قد نقبل اختيارات أحلاها مُرٌّ، كما وقع في بعض الدول التي فضلت علاج الشباب على علاج المسنين عند الضرورة القصوى.
تطرح أخلاقيات البيولوجيا من جانب ثان إشكال تدخل الإنسان في الطبيعة وتغيير الشفرة الوراثية من أجل تحسين النسل، وهذا الموضوع حاضر بقوة في المختبرات الغربية التي تستطيع استنساخ البشر وتطوير قطع غيار بشرية داخل المختبرات لتعويض الأعضاء التالفة. وقد تطورت الأبحاث الأخلاقية في المجال من أجل حث البحث العلمي على وجوب احترام الكرامة البشرية. لكن النقد الذي يوجه إلى اللجان البيولوجية هو أنها قد تتحول إلى محكمة تفتيش جديدة تفرض وصايتها على حرية البحث العلمي.
لكننا اليوم أمام وضع وبائي جديد لم يخطر على البال ويطرح قضايا أخلاقية جديدة في المغرب وعبر العالم. بصورة عامة، تطالب المقاربة الفلسفية بالمساهمة في بلورة القيم الأخلاقية التي تعتبر حججا تدفع الناس إلى تغيير مواقفهم وتطوير الوعي المدني. تحتاج الفلسفة هنا إلى أدوات حجاجية تدفع الناس إلى القيام بالاختيار السليم الخاص بالحجر والعزل الصحي والمباعدة الاجتماعية في هذا الوقت الحرج بالذات. هذه المقاربة الفلسفية لا تزال غير واضحة المعالم إذا ما قورنت بالمقاربة القانونية والدينية المتداولة. تهدف المقاربة الدينية إلى تغيير الأحوال الذهنية للناس بالترغيب والترهيب من أجل هدي الناس أي هدايتهم إلى الاختيار السليم. وهذا على خلاف المقاربة القانونية التي لا تبتغي تغيير معتقدات الناس وآراءهم وطباعهم ولا تناقش هل الإنسان محكوم بالشر الجذري أو المطلق وهل هناك أمل في الإنسان. لا يهتم القانون بأفكار الناس ولا بمعتقداتهم بل بمعاينة السلوك الفعلي الذي يخالف المراسيم. يضع القانون لائحة عقوبات مقابل لائحة انتهاكات محدّدة. ويحاول التماس أقصر الطرق التي توصل إلى الردع بأقل تكلفة. باختصار، يسعى الدين إلى التدخل في معتقدات الناس وتغييرها، ويطالب القانون الناس بالكف عن بعض الأفعال أو القيام بها، بينما تميل الفلسفة إلى تغيير معتقدات الناس على نحو لا يفرض على الأفراد تصورا واحدا ووحيداً للخير والمصلحة والأولويات. وهي تستفيد اليوم في ضوء جائحة كورونا من المناخ العام الذي بدأ يعطي أهمية لكل الفئات الاجتماعية الهشة في البلدان الأوروبية، مثل المسنين والشيوخ، وتستفيد كذلك من الأسئلة الأخلاقية التي تطرحها وضعية الفئات الهشة في الدول الليبرالية، مثل وضعية السود والنساء والفقراء والمهاجرين الذين يقعون ضحية كورونا أكثر من غيرهم. وكذلك تطرح قضايا المغاربة العالقين بالخارج الذين يتساءلون هل يوجد ما يبرّر تمييزهم عن سائر المواطنين الأجانب بالمغرب الذين سارعت دولهم إلى ترحيلهم من المغرب إلى بلدانهم الأصلية.
يطالب الفكر الأخلاقي بألا نكتفي بمبرّرات التكلفة المادّية والصعوبات اللوجيستية. قد نختلف فيما بيننا بشأنها. يتساءل الفكر الأخلاقي: إذا ما فكرنا بطريقة محايدة ومتعالية على المصالح الخاصة في قواعد مشتركو تصدق على الجميع داخل المجتمع، هل يجوز التخلي عن المواطنين العالقين بالخارج؟ ليضع كل واحد منا مكانه مكان أسرهم وعائلاتهم وأبنائهم وزملائهم في العمل، ألن يطالب بنفس الحق في العودة؟ توجد حقوق أخرى كثيرة مثل الحق في الصحة والحرية والتغذية. كيف نستطيع أن نقرر مسبقاً ما هو الحق الذي يجب تأمينه من حيث المبدأ لكل من يطالب به؟ وهنا أنظر إلى الحق أوّلاً في معناه العام الذي يدلُّ على الخيرات أو المصالح والمستحقات les biens/ goods و يدلُّ الحقُّ ثانياً على المستحقات التي يحميها الدستور، فهي حقوق قانونية biens juridiques ؟ وبما أن الناس لا يتفقون على الأولويات التي تشكل عناصر العيش المشترك، تطرح علينا إشكالية تحديد الأولويات ومن أي منظور، ونتساءل هل يوجد منظور فلسفي أعلى ومحايد يقرّر في طبيعة الأولويات، هل تكمن في الصحة أم في الأمن أو الشغل أو الحرية أو المساواة؟ إذا كان تحديدُ الأولويات يخضع لهوى الأشخاص، فإنّ فلسفة الأخلاق تحاول اليوم أن تقوم بموازنة عقلانية بين الاختيارات المختلفة، وكيف يمكن تفضيل حقٍّ ما على حقٍّ آخر في وقت ما وهل توجد حقوق لا تخضع للموازنة؟ يمكننا أن نقول بعبارة بسيطة من أجل مزيد من التوضيح، هناك حقوق تخضع “للمساومة”، فقد أساوم حريتي بصحتي وصحة المواطنين في مدّةٍ زمنيةٍ محدّدةٍ، فيصبح “ثمن” الصحة أعلى من ثمن الحرية. وهذه حالة استثنائية يجب تبريرها بالحجج الكافية مادام أن الحرية تحظى عادة بالأولوية. ولكنّنا نعتبر أن الكرامة لا تُساوَمُ، لأنني لا أعرف ما هي الخيرات التي أقايض بها كرامتي، ولا أ ظنُّ أنه يحقُّ لأحد أن يحُطَّ من كرامتي للحفاظ على صحّتي. يوجد جدال محتدم بطبيعة الحال حول الحقوق التي تخضع للمساومة وتعتبر حقوقا نسبية والحقوق التي لا تخضع للمساومة وتعتبر حقوقا مطلقة، و تعتبر مناقشة هذه القضايا الفلسفية مدخلا إلى التفكير في مبادئ العيش المشترك.
وبما أن مصالح الناس متباينة، من الواجب علينا أن نأخذ هذا الاختلاف والتعدد بعين الاعتبار، ولو أنّنا نعتبر اليوم أنّ القضاء على جائحة كورونا يشكل أولوية مطلقة يجب الحفاظ عليها والتزامها ضمن آجال قد تطول أو تقصر، بعد أن نتأكد من نسبة توالد الفيروس، وبعد الحصول على اللقاح والعقار.
لكن هذا الإجماع الوطني قد أدّى أحيانا إلى تراخي الآباء عن تلقيح الأطفال الرّضّع وأدّى ببعض مرضى السرطان إلى التخلُّفِ عن مقابلة الطبيب وفق الآجال المعلومة، ظنّاً منهم أن رعاية مريض الكورونا تحظى بالأولوية المطلقة أمام مريض السرطان. وقد يحمل الناس أفكاراً خاطئةً فيعتبرون أنَّ المرضى ليسوا متساوين جميعا فيما بينهم ولا يحظون جميعاً بنفس الأهمية. وقد اضطرّت وسائل الإعلام إلى توجيه نداءٍ إلى الآباء من أجل تلقيح أطفالهم، ما دام أن الرّعب الذي تسرّب إلى النفوس قد منع كذلك بعض الآباء أو المرضى من الاقتراب من المستشفيات.
بذل الأطباء وسائر الأطر الصحية والسلطات العمومية والأساتذة والإعلاميون جهوداً استثنائية محمودة في التصدّي للجائحة وتقليص آثارها المباشرة. غير أنَّ الإعلام يشكو من ضعف التواصل مع المواطنين. انحصر دوره في نقل الأخبار الرسمية الوافدة من الجهات الرّسمية، مع الحرص على تفنيد الأخبار الكاذبة؛ ولكنه كان من الممكن إشراك المواطنين من خلال ممثليهم على المستوى المحلي والوطني أو إشراك الآراء المتبانية في مناقشة مسألة الأولويات وأهمية العزل والمباعدة في هذه الظروف العصيبة.
اتخذت الدولة قرارات جذرية تتعلق بالحجر والتباعد الاجتماعي ووقف وسائل النقل عبر المدن. وكان لزاما على الدولة أن تتخذ قراراً حاسماً بتفضيل صحة المواطنين على الجانب الاقتصادي؛ و اختارت منذ البداية الحد من الحريات لتلافي ارتفاع تكاليف العلاج، لاسيّما أمام التخوُّفِ من تجاوز الطاقة الاستيعابية للمستشفيات، ولو أن هذا التخوف لا يزال قائما إلى اليوم. كان هذا القرار جذريّاً وعامّاً وطبّق على سائر ربوع المغرب، حتّى في المناطق البعيدة والقرى التي لم يظهر فيها الوباء. صحيح أنّ هذا الحلَّ الجذري قد جنّبنا اليوم مواجهة الإشكالات الأخلاقية التي طرحت في إيطاليا حينما أجبر تجاوز الطاقة الاستيعابية الأطباء على اختيار من يموت ومن يحظى بالرعاية الصحية حتى يبقى حيّاً. وصحيح كذلك أن هذا الحلَّ جذريٌّ، لأنَّ الحلَّ القانوني يفرض الحجر الصحي على الجميع مع استثناءات محدّدة بالمرسوم والمذكرات. يطبق القانون بنفس الطريقة على الجميع، ولا يحق لأيّ شخص أن يبرّر خرق قانون لأسباب شخصية لا تدخل ضمن الضرورة القصوى. ذلك أنَّ إصدار المراسيم والحجر وزجر المخالفين والمحاكمة كان هو الحلَّ الأمثل في نظر السلطات بحكم صعوبة تصور حلول أخرى تشرك المواطن في المراقبة الذاتية وتجعله يساهم على المستوى المحلي في الوقاية من الخطر المحدق وتدبير قيم العيش المشترك واقتراح طرق مباعدة وحجر صحي تختلف باختلاف ظروف الوضعية الوبائية والكثافة السكانية والظروف الاجتماعية.
لا أدري هل كانت المعالجة القانونية القائمة على الحظر التام كافية، بما أنَّنا لا زلنا نعرف نسباً مرتفعة من الإصابات؟ تنبني المداخل الأخرى الموجودة إلى جانب المدخل القانوني على التفكير الجماعي في قيم العيش المشترك في بيئة اجتماعية تراجعت إلى الحياة الأسرية. وقد يكون من المفيد أن يصبح هذا التفكير الفلسفي العام وإشراك المواطن في مساءلة الاختيارات الشخصية على المستوى الجهوي وسيلة لتخفيف العبء الكبير المطروح على المقاربة القانونية الوجرية. ندرك آنذاك إذا فتحنا هذا النقاش أن الحرية قيمة وأنَّ الصحة قيمة وأن الموازنة بينهما قد تؤدي إلى ترجيح اختيار العزل الصحي أو تعزيز مزيد من الحريات حسب المناطق الحضرية والقروية والظروف الاجتماعية ونسبة الإصابة بالوباء. يُطرحُ مشكل التكاليف الباهظة التي تنجم عن الحد من حرية الأنشطة التجارية والفلاحية و إغلاق المطاعم والإبقاء على المعامل. يمكننا أن نتقبل إغلاق المطاعم ولكننا لا نفهم معنى التقليص من الأنشطة الفلاحية، إذا ما شئنا التخفيف من تكاليف الحدِّ من كل الأنشطة الاقتصادية. وقد تكون هذه الجائحة مناسبة لدعم مداخل نفسية واجتماعية وتربوية تعتمد آليات التواصل الاجتماعي والمشاركة الوجدانية لتجاوز حدود المدخل القانوني الصرف. وعليه، فإنّ العيش المشترك ينبني على قيم أخلاقية تزكي التسامح واحترام الاختيارات الشخصية والرأي الآخر من خلال آليات التربية داخل الأسرة والمدرسة ومؤسسات التأهيل الاجتماعي. من الصعب علينا أن نحدّد ما هي القيمة الأساس. وإذا كان الفلاسفة قديما يختصرون تلك القيمة في “تحصيل السعادة”، أي قيمة “الخير المطلق”، فإننا اليوم نحكم بأولوية الحق droit على الخير bien. بمعنى أننا نعتبر أن العيش المشترك ملزم بمراعاة الفرق الموجود بينهما.
يعتبر البعض أن الجائحة رجعت بنا من جديد إلى القيم التقليدية وأننا لا نتحدث اليوم إلا عن قيمة الحفاظ على الأبدان بالمقارنة مع كل القيم الأخرى. هذه القيم التقليدية لا تزال تؤدي دورها ؛ إذ رجعت بنا الجائحة إلى قيم التضامن العائلي، وبذلك رجحت كفة الجماعاتيين communautaristes الذين يعتبرون أن قيم الرابطة الجماعية قد تجاوزت اليوم القيم الفردية المتحررة من أية فكرة مسبقة عن الخير الأسمى والعام. يجوز لنا أن نعتبر أن العلاقات الأسرية لا تزال تقوم على المنظور الجماعاتي، دون أن ننسى أن النزعة الفردانية قد تكون سلبية من بعض الجوانب وإيجابية من جوانب أخرى بعد تعزيز مزيد من الحريات الفردية.
وقد تبين من خلال هذه الجائحة كيف أن الأسرة أصبحت ملاذا آمنا للفرد وعادت بنا إلى العلاقات الأسرية التقليدية، وقد طرح هذا الوباء إشكالية العلاقة مع الغير في صورة جديدة فيما يخصُّ تدبير شؤون المشردين والمهاجرين واللاجئين والمغاربة العالقين بالخارج. نعتمد عامة على قيم التضامن العائلي في أوقات الأزمة أمام صعوبة العيش بصورة فردية خارج أثناء الحجر الصحي وخارجه كذلك. كما أن الاقتصاد لا زال يعتمد بشكل كبير على المطر، تعتمد الحياة الاجتماعية في جانبها الإيجابي على العيش المشترك داخل الأسرة. ولكنها تطرح بالمقابل إشكالية التواصل الصعب بين أفراد الأسرة أمام حالات العنف ضد النساء وضرب الأطفال. لا يوجد أي مبرّر لذلك، لكن العنف ينتج أيضا في بعض الأحيان عن الظروف الاجتماعية القاسية، وعن الاحتكاك اليومي بين الأفراد الذين اضطرتهم الظروف للتعايش في مساكن ضيقة ولمدة طويلة. من جهة ثانية، تطرح إشكالية التضامن مع أولئك الذين لا تربطنا بهم رابطة اجتماعية ويعانون من الإقصاء والتهميش، وتطرح إشكالية التواصل كذلك مع العالم الخارجي . لا أحد يتجاهل وجود انشطار رقميfracture numérique بين المناطق الفقيرة والغنية، ومع ذلك فإن وسائل التواصل الرقمي والشبكات العنكبوتية خلقت عالما افتراضيا جديداً يسمح بالحفاظ على شعرة معاوية. أظن أننا بدأنا ننتقل شيئا فشئنا من الوجود- في- العالم (مع هيدغر) إلى الوجود- في- العالم- الافتراضي. وهناك عوالم افتراضية كثيرة من حولنا. الرواية عالم افتراضي والتلفزة عالو افتراضي. وعندما يظهر عالم افتراضي نضطر للتكيف وجدانيا وذهنيا مع هذا العالم لتطوير علاقتنا بالواقع والآخرين. كان ظهور الرواية في فجر العالم الحديث إيذانا بظهور منظور جمالي جديد إلى العالم . وبالرغم من أن الرواية عالم خيالي، تملك صيغة وجود خاصة بها sui generis وفرضت علينا خلق علاقة جديدة بالواقع، دون أن نقع ضحية استلاب. كذلك فإن العالم الافتراضي الرقمي عالم يملك صيغة وجوده ويندمج اندماجا طبيعيا في العالم الواقعي، ما دام يحقق أهدافا تواصلية محدّدةً. وعليه، فقد أبان العالم الافتراضي جدواه في خلق جسور التواصل بين الأفراد المتباعدين في الزمان والمكان. وبما أنّ المناسبة شرطٌ، وهي تدبير العيش المشترك في هذه الأوقات العصيبة، فإنَّنا قد أصبحنا ملزمين بتطوير آليات التواصل الرقمية لأنّها ستساعدنا على تجاوز معيقات التواصل المباشر بين الناس لتدبير مشاكل العيش المشترك.