الإسلام في مواجهة البداوة السياسية العربية(محمد مختار الشنقيطي)
قدَّم العلامة عبد الرحمن بن خلدون تأملا عميقا في ظاهرة البداوة السياسية الطاغية على التقاليد العربية، وعلى كل تقاليد قبَلية، ومحاولةً جادة لفهم منطقها الداخلي. كما انتبه ابن خلدون إلى ضرورة الدين للبناء السياسي العربي، فبيَّن أن الشخصية الثقافية العربية -العصيَّة على سلطان الدولة- لا يمكن تذليلها وترويضها لمنطق القانون والنظام إلا بالدين، لأن وازع الدين وازعٌ ذاتيٌّ، فهو قادر على إخضاع النفس العربية الأبيَّة، التي طالما عجزت السلطة السياسية عن إخضاعها.
يقول ابن خلدون محلِّلاً المَنزع الفوضوي العربي، ومبينا مناقضته لطبيعة الدولة والعمران:
“إن العرب إذا تغلَّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خُلُقاً وجِبِلَّة، وكان عندهم ملذوذا لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له… فتبقى الرعايا في ملْكتهم كأنها فوضى دون حكم، والفوضى مهلكة للبشر مفسدة للعمران… وأيضا فهم متنافسون في الرئاسة، وقلَّ أن يُسلِم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته، إلا في الأقل، وعلى كُرْه من أجل الحياء، فيتعدَّد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام، فيفسد العمران وينتقض.” (ابن خلدون، المقدمة، 187-18).
ولم يكن ابن خلدون يقصد العرب من دون الناس، وإنما كان يبيِّن معالم البداوة السياسية عموما، ولذلك فقد ألْحَق بالعرب في هذا المنحى الفوضوي كلَّ الأمم ذات التقاليد القبلية العصية على منطق الدولة، فتحدَّث مرة عن العرب، ثم عقَّب بقوله: “وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد، والتّركمان، والتّرك بالمشرق،” “وأهل اللّثام من صنهاجة.” (ابن خلدون، المقدمة، 152، 181).
ولاحظ ابن خلدون أن نفوس العرب الفطرية –ونفوس الشعوب البدوية عموما- قريبة إلى قبول الحق والخير، خصوصا إذا جاء في صيغة دعوة دينية. فالمفتاح السياسي للشخصية العربية في رأي ابن خلدون هو الدين، وقد جعل ابن خلدون عنوان فصل من مقدمته “في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوَّة أو وَلاية أو أثرٍ عظيم من الدين على الجملة.” ثم شرح مغزى ذلك، فقال:
“والسبب في ذلك أنهم -لخلُق التوحُّش الذي فيهم- أصعبُ الأمم انقياداً بعضهم لبعض، للغِلظة والأنَفة وبُعد الهمَّة والمنافسة في الرّئاسة، فقلَّما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدين بالنبوءة أو الوَلاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلُق الكِبْر والمنافسة منهم، فسهُل انقيادُهم واجتماعُهم، وذلك بما يشملهم من الدين المُذْهب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس. فإذا كان فيهم النبي أو الوليّ الذي يبعثهم على القيام بأمر الله -يُذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلِّف كلمتهم لإظهار الحق- تمَّ اجتماعهم، وحصل لهم التغلُّب والملك. وهم مع ذلك أسرعُ الناس قبولاً للحقِّ والهُدى، لسلامة طباعهم من عِوَج الملَكات، وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خُلق التوحُّش القريب المعاناة، المتهيِّئ لقبول الخير ببقائه على الفطرة الأولى.” (ابن خلدون، المقدمة، 189).
ثم لخص ابن خلدون رأيه في هذه الطبيعة العربية المزدوجة، التي جمعت بين صعوبة الإخضاع لسلطان الدولة، وسهولة الخضوع لسلطان الدين، فقال: “العرب أبعدُ الأمم عن سياسة الملك، والسبب في ذلك أنهم أكثر بداوة من سائر الأمم… فصعُب انقياد بعضهم لبعض، لإيلافهم ذلك وللتوحُّش، ورئيسُهم محتاج إليهم غالبا للعصبية التي بها المدافعة، فكان مضطراًّ إلى إحسان مِلْكتهم وترْك مراغمتهم… فبعُدت طباعُ العرب لذلك كله عن سياسة المُلْك. وإنما يصيرون إليها بعد انقلاب طباعهم وتبدُّلها بصبغة دينية، تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم.” ابن خلدون، المقدمة، 189-190).
وهذه الملاحظات لها قيمة عظيمة في فهم المجتمعات العربية، لا في الماضي فقط، بل في الحاضر أيضا. وقد كان الشيخ محمد الغزالي من علماء الإسلام المعاصرين متحفظا على رأي ابن خلدون في العرب، وربما رآه تحليلاً جوهرانيًّا essentialist لا يراعي تغيُّر الزمان. لكن الشيخ الغزالي انتهى إلى أن رأي ابن خلدون في العرب لا يزال حكما صائبا في عصرنا، رغم تبدل الظروف وتوالي القرون. وفي ذلك يقول الغزالي: “لقد قرأتُ رأي ابن خلدون في العرب، وترددتُ في تصديقه، ثم انتهيتُ أخيراً إلى أن العرب لا يصلُحون إلا بِدينٍ، ولا يقوم لهم مُلْكٌ إلا على نُبوَّة، وأن العالَم لا يعترف لهم بميزة إلا إذا كانوا حمَلة وحْيٍ. فإذا انقطعتْ بالسماء صِلتُهم، ضاقت عليهم الأرض بما رحُبتْ، وغشِيَهم الذُّل في كل مكان.” (محمد الغزالي، علل وأدوية، 193).
وما أحوجنا اليوم إلى تأمُّل رأي ابن خلدون ومحمد الغزالي هذا، من أجل فهم مركزية الدين الإسلامي في صياغة الشخصية السياسية العربية. فقد انهزمت قيم القبيلة المتمردة على سلطان الدولة أمام قيم التعاقد السياسي التي جاء بها الإسلام، خلال العصر النبوي والخلافة الراشدة. وأكبر دليل على ذلك هو التسليم بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم في يثرب بعد الهجرة مباشرة، رغم أن غالب سكانها من غير قبيلته قريش، ثم التسليم بخلافة الخلفاء الراشدين الأربعة من بعده وكلهم كانوا من قريش، لكنهم حكموا انطلاقا من المدينة المنورة، لا من موطنهم الأصلي مكة.
وقد ذهب الفيلسوف السياسي الأميركي فرنسيس فوكوياما إلى أن الخوف من الغزو هو سبب خضوع القبائل بشكل عام للدولة المركزية في التاريخ السياسي البشري، فقال: “تمثل الحروب القبَلية المستمرة، أو الخوف من غزو جماعة أفضل تنظيما، سببا معقولا ووجيها وراء موافقة رجال القبائل على العيش ضمن دولة مركزية، على الرغم من مشاعر الفخر والاعتزاز بالحرية.” (فوكوياما، مبادئ النظام السياسي، 1/597). ولكن لا يبدو أن تاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام يزكي أطروحة فوكوياما، فالخوف من الغزو المتبادل لم يدفع قبائل الجزيرة العربية إلى القبول بفكرة الدولة قبل الإسلام، وإنما قبل أهل الجزيرة العربية فكرة الدولة بعد التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في عقائدهم وفي نسيجهم الأخلاقي.
فلولا أن الإسلام غيَّر المزاج الأخلاقي والثقافي العربي تغييرا عميقا لما نشأت الدولة في قلب الجزيرة العربية، ولما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقود دولة المدينة منذ هجرته إليها وهو ينتمي إلى قبيلة غريبة عنها، ولما أمكن للراشدين الأربعة أن يكونوا أول خلفائه في أمته. ولصعود أبي بكر وعمر إلى القيادة دلالة مزدوجة، إذ كان ذلك الصعود هزيمة للقيم القبلية في المدينة، وللقيم القبلية داخل قريش ذاتها، فأبو بكر ينتمي إلى بني تيم، وعمر ينتمي إلى بني عدي، وهذان البطنان من أقل بطون قريش عددا، وأبعدها عن القيادة السياسية بمعايير التقاليد القرشية.
وقد ألمح إلى ذلك أبو قحافة والد أبي بكر الصديق: “عن سعيد بن المسيب قال: لما قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتجَّت مكة، فسمع بذلك أبو قحافة، فقال: ما هذا؟ قالوا: قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أمر جلل! قال: فمن ولي بعده؟ قالوا: ابنُك، قال: فهل رضيتْ بذلك بنو عبد مناف، وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم. قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منعه الله” (ابن عبد البر، الاستيعاب، 3/976).
وقد لاحظ الدكتور أبو يعرب المرزوقي مؤخرا أنه “ليس للعرب ولا للأتراك ولا للأكراد ولا للأمازيغ ولا للأفارقة، تاريخ حضاري كوني يُعتدُّ به إلا بفضل دورهم في تاريخ الإسلام. وأكبر الأدلة هو ما اقتنع به الأتراك بعد ما يقرُب من قرن لمحاولة التنكُّر لتاريخهم العظيم، من أجل وهمٍ من جنس أحلام طه حسين لمصر…” وهذه ملاحظة ثمينة تحتاج هذه الشعوب إلى استيعابها اليوم. فلم يُخرج الإسلام هذه الشعوب من البداوة السياسية فحسب، بل أخرجها أيضا من حالة العيش على هامش التاريخ العالمي التي كانت عليها قبل الإسلام.
فمتى يفهم العرب أنهم “إذا انقطعتْ بالسماء صِلتُهم، ضاقت عليهم الأرض بما رحُبتْ، وغشِيَهم الذُّل في كل مكان” كما لاحظ الشيخ محمد الغزالي بعمقٍ، مصدِّقاً لملاحظات ابن خلدون العميقة عن الإسلام والشخصية السياسية العربية؟! ومتى يفهم ذلك التُّرك والكُرد والأمازيغ والأفارقة، وغيرهم من الشعوب التي أخرجها الإسلام من البداوة السياسية، ومن العيش على هوامش الحضارات العتيقة، وألقى بها في قلب الملحمة العالمية؟!