المقالات

الإشكاليات التطبيقية للإجماع(حمادي دويب)_1_

نشير في البدء إلى أن القضايا التطبيقية الخاصة بالإجماع لم تثر كثيرا من البحوث والدراسات العصرية على غرار ما شاهدنا بالنسبة إلى مسألة التأسيس النظري للإجماع[1]. ولكن ذلك لا يعني التهميش التام للمسألة فالكثير من الباحثين تطرقوا إليها ضمن دراساتهم وبدرجات مختلفة من العمق والشمول والموضوعية ولعل ذلك يعزى بالأساس إلى إدراك المحدثين تعقد الإجماع في مستواه التطبيقي الذي كان موضوع تأويلات متنوعة جدا[2].

وهكذا يمكن أن نقر من الآن أن محاولة إنزال مبدأ الإجماع من حيز النظرية إلى أرض الواقع قد أثار مشاكل متنوعة يصعب حصرها ولعل أهمها تحديد المشاركين في الإجماع فمن هم الأفراد المؤهلون لعقد الإجماع ؟ هل هم أفراد الأمة جميعا ؟ أم هم العلماء والفقهاء فحسب ؟ هل للعامة (الشعب الآن) حق المشاركة في الإجماع ؟ هل يحق “لأهل البدعة” أو المبتدعة أو أهل الأهواء” (وهي تسميات يطلقها السنيون على أتباع المذاهب الإسلامية غير السنية كالخوارج والشيعة والمعتزلة) أن يكونوا طرفا من أطراف الإجماع ؟ ما هي الشروط المطلوبة في العلماء؟ وما هي السلطة التي تعلن أنهم أكفاء للمشاركة في الإجماع ؟

تتأرجح الرؤية الأصولية السنية بين موقفين أولهما موقف أقلية من العلماء تشترط مشاركة كل أفراد الأمة الإسلامية أما الموقف الثاني الذي يمثل الأغلبية فإنه يكتفي باتفاق المجتهدين وكل الأصوليين متفقون على أن إجماع العامة ليس له أي قيمة إذا لم يشارك فيه العلماء. ويفسر موقفهم هذا باقتناعهم أن العامي العاقل لا يمكن أن يعارض اتفاق العلماء خاصة أنه مأمور بطاعة أولي الأمر في القرآن[3].

وقد انتقد بعض الدارسين المعاصرين هذا التصور باعتبار أنه يضعنا أمام هيئة دينية بشرية ضمنية لأنها لا تجسر على تشريع يمكن أن يبتعد عما يقرره النص القرآني والأحاديث وآثار الصحابة ومن هنا يفسر التضييق المتنامي على أهل الإجماع لذلك حق القول إن “إجماع العلماء يفترض تنظيما اجتماعيا تحتكر فيه قلة المعرفة وتقوم شاءت ذلك أم أبت بدور الوساطة بين الإنسان والمقدس. ولكن علماء الإسلام وقفوا عند منتصف الطريق أي لم يقبلوا التنظير لهذه الوساطة بين الإنسان والمقدس ولم يعترفوا للعلماء بصلاحية خاصة –كما هو شأن الكنيسة- تجعلهم لا فقط يشرعون ولكن أيضا يحددون الإيمان القويم.

وسبب ذلك أن القبول بأن الفقهاء معصومون بإطلاق يجعل منهم سلطة دنيوية بشرية من شأنها أن تبتعد عن الدين[4].

ومن جهة أخرى فإن مفهوم إجماع الأمة ليس في واقع الأمر سوى تعبير مجازي افتراضي بما أنه يلغي ويستثني العوام ليؤسس سلطة العلماء اعتمادا على أحاديث وآيات من قبيل “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”[5] ويضاف إلى هذا الطابع النخبوي لإجماع العلماء طابع التهميش في حق الفقهاء القاطنين خارج المدن الكبرى. وهكذا لم يعد يدخل في دائرة المجمعين فعليا إلا العلماء المقربون من الحكم المركزي والعاملون بإمرته في مجالي العقيدة والتشريع[6].

وقد اتجه بعض الناقدين المعاصرين إلى القول باستحالة تطبيق مفهوم إجماع العلماء بسبب امتداد هذه الديانة على مناطق متباعدة من العالم وفضلا عن ذلك فإن اجتماعات من هذا النوع يمكن أن تضاعف الخلافات الموجودة بدل أن تؤدي إلى تحقيق الإجماع[7].

وعلى هذا الأساس رأى بعض الباحثين أن هيمنة الحكام على حقل السياسة من جهة وهيمنة العلماء على حقل الدين من جهة أخرى شلّ إرادة الشعب في الأمة الإسلامية وهكذا وصل الإجماع إلى الجمود[8].

والواقع أن نقد مفهوم الإجماع المقتصر على العلماء يعود إلى فترة رواد الإصلاح فقد اعتبره محمد عبده خاطئا لأن العلماء ليسوا مطلعين على المشاغل الاجتماعية والسياسية للأمة. كما أن الفقه لم يعد يؤهل الإنسان في العصر الحديث ليصبح مجتهدا.[9]

ولم يكتف الأصوليون بحصر الإجماع في المجتهدين بل عمدوا إلى مزيد من التضييق لا على العوام وحدهم ولكن كذلك على المجتهدين أنفسهم وهكذا ميز الأصوليون بين الميادين التي يمكن للعوام أن يساهموا في انعقاد الإجماع فيها والميادين التي لا يمكن لهم فيها ذلك. كما حددوا الشروط التي ينبغي أن تتوفر في المجتهد. وفي هذا المجال النظري لم “يقَصر” القدامى في وضع قائمة شروط مطولة لتحديد هوية المجتهد لكن عمليا فإن تلبية هذه الشروط كان محدود الأهمية لأنه لم يقع أبدا اختيار عملي لها خاصة في غياب سلطة مراقبة مقننة ومؤسسة لذلك فإن هذه الشروط تتسم بطابعها النظري كما أنها قائمة من المعارف متسمة جدا لم يستوعبها أبدا عقل بشري[10].

إن هذا التضييق لا يستنتج من الشروط الموضوعة لتحديد المجتهدين فحسب وإنما نستطيع أن نلمسه أيضا من تضييق مجالات إسهام العلماء في انعقـاد الإجماع[11].

وهذا التضييق المتزايد على أهل الإجماع كان مرده في جزء كبير منه –حسب بعض الباحثين- إلى ما شهدته الحضارة الإسلامية بعد القرن الخامس الهجري من هبوط ومحاصرة دفعتها إلى الانغلاق والالتفات إلى الماضي وهو ما يفسر تساهل الأصوليين العجيب إزاء العصور السابقة وتشددهم إزاء المعاصرين[12]. ومن مظاهر التضييق في مفهوم الإجماع كذلك إقصاء غير السنيين[13] وهذا ما أثار الكثير من المواقف الحديثة التي أصبحت تدعو إلى أن يسود موقف التسامح والإنصاف في النظر إلى كل المذاهب الإسلامية وتجنب العصبية المذهبية. وقد استخلص أصحاب هذا الموقف أن تهمة الانتماء إلى أهل الأهواء والبدع تهمة متبادلة يطلقها أهل السنة إزاء المعتزلة ويوجهها المعتزلة نحو أهل السنة وهما يقولانها في الشيعة والشيعة تقولها فيهما. كما رأوا أنه لو أخرج من الإجماع الحنابلة والظاهرية لأنهم لا يقولون بالقياس وأخرجت المعتزلة والشيعة والخوارج فماذا بقي من الأمة الإسلامية ؟ وعلى هذا الأساس فإنه ليس من حق أصحاب أية فرقة أن يعتبروا أنفسهم ممثلين للإسلام يحكمون على غيرهم من الفرق بالتفسيق والتبديع والتكفير[14].


[1] – راجع مثلا : Carl.A.Keller : Réflexions autour de la théorie et la pratique de « Ijmà’ » المرجع المذكور.

وانظر  Pierre Rondot : Le fonctionnement de l’Ijmà’, moderne en Tunisie المرجع المذكور

[2] – ارجع إلى     Dominique Sourdel : La civilisation de l’Islam classique, Paris, 1968, p. 199.

[3] – انظر : المرجع المذكور Camille Mansour : L’autorité.

[4] – عبد المجيد الشرفي، دروسه في إطار مناظرة التبريز، سنة 1988.

[5] – النحل 16/43.

[6] – انظر بنسالم حميش، التشكلات الأيديولوجية في الإسلام، الاجتهادات والتاريخ، ص 39.

[7] – راجع : المرجع المذكور Hungronje, Œuvres choisies, p. 50 وانظر عبد الحميد متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، المرجع المذكور، ص 53.

[8] – عد إلى ص 146 المرجع المذكور         Ahmad Hasan : The political role of Ijmà’, 201/5 .

[9] – راجع رشيد رضا، تفسير المنار، 5/201.

[10] – انظر Hungronje : المرجع المذكور  ص ص 233-234 وانظر أيضا : المرجع المذكور Camille Mansour, p. 70

[11] – انظر قول الشوكاني : “الإجماع المعتبر في فنون العلم هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دون من عداهم فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين ونحو ذلك”، إرشاد الفحول، المصدر المذكور، ص 88.

[12] – محمد الناصر النفزاوي، الإجماع وأهله في الفكر الأصولي الإسلامي ص ص 19-20.

[13] – يروي الشوكاني قول أبي منصور : قال أهل السنة لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة، المصدر المذكور، ص 80.

[14] – راجع علي يحي معمر، الإباضية بين الفرق الإسلامية، ص 372.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق