الإصلاح التربوي عند ابن خلدون وابن تيمية – (أبو يعرب المرزوقي)_ج1_
تمهيد:
جمع ابن خلدون أمراض المنظومة التربوية الإسلامية في داء واحد أفسد مفهوم التربية بمعنييه الضيق والواسع المضاعفين لكونه قد أفقد الإنسان المسلم معاني الإنسانية فرده إلى أسفل سافلين:
1-فأما المعنى الضيق المضاعف فهو التكوين والتعليم النظاميين. وهو مضاعف لأنه يتكون من مستويين هما التربية التي تحصل بالقصد الأول في المنظومة التربوية ذاتها ثم التربية التي تحصل بالقصد الثاني في الممارسات المهنية التي تعد إليها المنظومة التربوية باعتبارها تكوينا حرفيا سواء تعلق الأمر بالحرف المباشرة التي تعامل موضوع الفعل أو بالحرف غير المباشرة التي تتعامل مع النظريات العلمية والتطبيقات العملية المتعلقة به.
2-وأما المعنى الواسع المضاعف فهو تنشئة الإنسان بجميع أبعاده من حيث هو إنسان بصورة عامة. وهو مضاعف كذلك لأنه يتكون من مستويين هما التنشئة التي تحصل بالقصد الأول في المنظومة السياسية التي هي تربية قصدية بأداة القانون المتعلق بالحقوق المحددة بالأدوار والمنازل في ما يسميه ابن خلدون بالتساكن لسد الحاجات (الوجه الرزقي والقانوني) والتساكن للأنس بالعشير (الوجه الذوقي والخلقي) ثم التنشئة التي تحصل بالقصد الثاني في الحياة الاجتماعية التي تعد المنظومة السياسية إطارها القانوني الواعي والقصدي. وقد أطلق ابن خلدون على هذا الداء اسم “فقدان معاني الإنسانية” واعتبره نتيجة للاستبداد في مستويات التربية بهذين المعنيين (والسياسة التي قاسها عليها)[1].
ثم هو حاول تفسير ذلك بنظرية في الإنسان ذات صياغة فلسفي (انثروبولوجيا فلسفية: الرئاسة الإنسانية وحب التأله) رغم كونها مستمدة من أصل قرآني (انثروبولوجيا دينية: استعمار الأرض والاستخلاف فيها).
أسس النظرية الخلدونية في التربية بمعنييها الضيق (التربية بالمعنى الدقيق) والواسع (السياسة)
ننطلق من نص ابن خلدون التالي:
“ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا عليه القهر وضيق على النفس انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فاتركس وعاد أسفل سافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف. واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراء. وانظره في اليهو وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج ومعناه في الاصطلاح المشهور الخبث والكيد. وسببه ما قلناه” (المقدمة الباب السادس الفصل الأربعون ص.1042-1043 دار الكتاب اللبناني الطبعة الثالثة بيروت 1967).
لنجيب عن المسائل التالية مقدمين عليها تحليلا سريعا لما ورد في النص من أفكار رئيسية نعود إليها في غاية البحث لنحلل النص تحليلا دقيقا ومعمقا:
1- ما نظرية الإنسان التي يستند إليها تصور ابن خلدون للتربية ؟
2- ما الدلالة الوجودية التي تخل القول بمثل هذه النظرية من منطلق الفلسفة والدين ؟
3- ما النتائج النظرية والعملية التي تترتب على هذا الموقف من الوجود عامة ومن الإنسان خاصة ؟
4- أبعاد الإصلاح الخمسة بعد بلوغ فرعي الفكر السني إلى الإدراك الموحد لطبيعة الثورة القرآنية كما يتبين من عمل ابن تيمية وابن خلدون. وكيف نصل هذا النص بنصوص المقدمة المتعلقة بالأساسين الفلسفي والديني المستمدين من مدرستي السنة الأساسيتين أعني الفكر الحنبلي والفكر الأشعري من حيث هما تجاوز للفلسفة الطبيعية في حتمية الطبيعة المطلقة والنظرية الاعتزالية في حرية أفعال العباد المطلقة ؟
5- شرح النص بالاستناد إلى هذه المقدمات لبيان ما تحقق في النقد الفلسفي والديني اللذين يستند إليهما مفهوم التربية بمعنييها الضيق (التربية من حيث هي مؤسسة من مؤسسات العمران) والموسع سياسة الشأن الإنساني بمقتضى ما له من قيم وشرائع (جملة مؤسسات العمران من حيث هي فعل التاريخ الحضاري المضاف إلى فعل التاريخ الطبيعي).
أفكار النص الرئيسية
وهي نوعان من العواقب الناتجة عن التربية المتسلطة بمقتضي درجتيها الضيقة والواسعة: أي التربية بالمعنى الدقيق والسياسة التي هي تربية بمعنى شامل.
أولا: عواقب التربية المتسلطة
1-النتيجية العضوية النفسية الأولى: ضيق انبساطها ذهب الكسل بنشاطها. 2-النتيجة الخلقية الأولى: المنفعلة (الكذب والخبث) والفاعلة (المكر والخديعة). والحصيلة من الأمرين: العمل على اكتساب الرذائل والخلق الذميم. 3-فقدان معاني الإنسانية من حيث الاجتماع والتمدن: المدافعة عن النفس أوالمنزل= كون المرء عيالا على الغير في حماية نفسه. 4-النتيجة الخلقية الثانية: انفعالا= الكسل عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل والفاعلة العمل على اكتساب الراذائل. 5-النتيجة العضوية النفسية الثانية: الانقباض عن غاية الإنسانية والانقباض عن مدى الإنسانية.
ثانيا: عواقب السياسة المتسلطة
1-القانون العام: من كان….كل أمة… 2-طريقة استخراج القانون: تجده فيهم استقراء 3-المثال: اليهود وبلوغ الفساد إلى تغير جور الإنسان= الخرج. 4-النتائج الخلقية النفسية المستغرقة للجوهر : الخرج ومبدأ السياسة الدولية العالمية الحالية. 5-التعليل التاريخي الاجتماعي الذي يعلل الخلقي الوجودي ومن ثم فهو عكس التعليل الفلسفي وليس عنصريا (نظرية المعادن) أو الديني (نظرية اللعنة).
المسألة الأولى: نظرية الإنسان
ما المقصود بـ”غاية الإنسان” ؟ وما المقصود بـ”مدى الإنسانية” الواردين في هذا النص؟ يعرف ابن خلدون غاية الإنسان سلبا بمآل الإنسان عندما يفقد حريته التي تنتج عن فقدان الرئاسة التي له بالطبع والتي تجعله محبا للتأله. ويعرفها إيجابا بتعريف هذين المفهومين أعني الرئاسة وحب التأله: “والسبب في ذلك (في إسراع الفناء إلى الأمم المغلوبة) والله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم. فيقصر الأمل ويضعف التناسل. والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل وما يحدث في القوى الحيوانية. –إذا ذهب الأمل بالتكاسل وذهب ما يدعو إليه من الأحوال وكانت العصبية ذاهبة بالغلب الحاصل عليهم تناقص عمرانهم وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم وعجزوا عن المدافعة عن أنفسهم بما خضد الغلب من شوكتهم فأصبحوا مغلبين لكل متغلب وطعمة لكل آكل وسواء كانوا حصلوا على غايتهم من الملك أو لم يحصلوا.
وفيه والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له. والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده. وهذا موجود في أخلاق الأناسي. ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة إنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين” (المقدمة اا’24 ص.260).
ويعرف ابن خلدون مدى الإنسانية بكونه تحقيق الاستخلاف من حيث هو منزلة إنسانية وتكليفا يصاحب حاجته إلى استعمار الأرض مصدرا لقيامه المادي ومجالا لحياته الدنيا وذلك هو العمران: “واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه. فكان في طاعته وتسخره.
وهذا معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى “إني جاعل في الأرض خليفة”. فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها الإنسان عن غيره من الحيوان.
وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته” (المقدمة VI.11 ص.840). ولم يكتف ابن خلدون بتعريف المفهومين بل هو بين أنهما لا يتحققان فتبرز الغاية أصلا والمدى فرعا إلى بشرط تحقق الحريتين المحددتين لجوهر الإنسان:
1-فالحرية النظرية شارطة لاستعمار الأرض أو لتحقق التسخير ولها بعدان هما العلم النظرية (علم الأسباب والمسببات لتحقيق وسائل العمل) وتطبيقاتها التنقية أي الإنتاج الرمزي والمادي (مادة العمران=الثقافة والاقتصاد) خاصة (تسخير الطبيعة لسعادة الإنسان المادية أو لتحريره من القهر الطبيعي). وهو قد جعل درجات الإنسانية بمقدار ما للإنسان من علم بالترابط السببي في العالم جاعلا من هذا العلم المميز الحقيقي للإنسان.
2- والحرية العملية شارطة للاستخلاف ولها بعدان كذلك هما العلم العملي (علم الغايات الفاعل علم الأهداف لتحقيق غايات العمل) والتطبيقات الخلقية أي الإبداع التأطيري للوجود الإنساني (صورة العمران=التربية والسياسة) خاصة (تنظيم الحياة الجماعية ورعايتها أعني تسخير المجتمع لسعادة الإنسان الروحية أو لتحريره من القهر الاجتماعي).
ولست بمدع أن ابن خلدون كان واعيا بكل هذه الأبعاد لمفهومي معنى الإنسانية ومداها لكنهما ليسا مع ذلك مجرد ضميرين لأن الربط بين هذين المعنيين وتعليل فقدانهما بالتربية والسياسة المتسلطة المؤديتين إلى إفقاد الإنسان لهما ييبيان بصورة جلية أن هذا الاستنباط ليس فيه أدنى تجاوز لما قصده ابن خلدون تجاوزا يحدث أفكاره باسقاط يضيف إليها ما ليس فيها.