الإلحاد: هل هو موقف عقلي أم مأزق نفسي؟ (إبراهيم الدويري)_2_
نظريات علم النفس المشخصة للإلحاد:
في رصده وتحليله للأسباب النفسية للإلحاد طوّر البروفسور بول فيتز نظرية التقصير الأبوي (Defective father hypothesis) التي اعتمدها علماء النفس قبله باعتبارها أحد أهم أسباب الإلحاد في العصر المعاصر. ففرويد يحدثنا “أن التحليل النفسي يؤكد كل يوم أن الفتيان يفقدون إيمانهم الديني بمجرد أن تنفصم عرى السلطة الأبوية”2، وقد نقل فيتز أن السير أنتوني فَلُو الذي عاش نصف قرن وهو رمز الإلحاد في الغرب قبل أن يعلن إيمانه بالإله بعد تجاوزه الثمانين، قد شوهد بعد إفراطه في شرب الخمر ملقيًا على الأرض، وهو يصرخ مكررًا: إني أكره أبي، إني أكره أبي”3.
ومقتضى نظرية التقصير الأبوي أن الإنسان الغربي لاعتقاده “التثليث” يرى في أبيه تجسيدًا بشريًا للإله رمز القوة والسلطة والكمال، وحين يفرط هذا الأب في رعاية ابنه، أو يسيء معاملته بدنيًا أو معنويًا، أو يفقد الأب أصلًا بسبب موت أو هجر لأسرته، أو يكون جبانًا ضعيفًا، فإن الابن يخامره شك في حقيقة الإله فينكر وجوده ليريح ضميره من هذا التضارب المقيت بين كمال الإله المعتقد ونقص الأب المشاهد.
على هامش نظرية التقصير الأبوي كان هناك فريق آخر يصوغ نظرية الارتباط أو التعلق (Attachment theory) تلك النظرية التي تقول إن طبيعة العلاقة بين الطفل وأمه تحدد النموذج الذي ستكون عليه علاقة الطفل بالآخرين في المستقبل. ويمتد ذلك التأثر حتى يحدد علاقته بالإله في المستقبل، وقد كان لعالم النفس البريطاني جون بولبي John Bowlby الفضل الأكبر في صياغة هذه النظرية. وكان لتلميذته الأمريكية ماري أنسويرث عالمة نفس التربية الفضل في إشاعتها والبرهنة على صحتها من خلال اختبارها وقياسها آثار أنواع الارتباط بين الطفل وأمه.
وقد أرجع عالم النفس اليهودي بنيامين هلاهمي المتقدم تينك النظريتين إلى مفهوم واحد هو “الاختلال الأسري”، ولهذا الاختلال ترجع أكثر أسباب إلحاد كبار الملاحدة من فلاسفة وعلماء الغرب المعاصرين، كما لاحظ ذلك بول فيتز في دراسته المعمقة لسيرهم الذاتية في جانبها النفسي4. فالفيلسوف الألماني الملحد آرثر شبونهور (1788-1860م)، كانت أمه غير راغبة في حمله، فلما وُلد هجرته وأهملته، وحين كبر حمَّلَها وِزْر انتحار أبيه وأكثر ملامتها في ذلك. حتى إنه خلف تراثًا حافلًا في ذمّ المرأة والسخرية منها، مما يكشف جانب العُقدة في فلسفته وأفكاره. وكاتب رسالة “لماذا أنا ملحد؟” المؤرخ والفيلسوف البريطاني برتراند رسل (1872-1970م) فقد هو أيضًا أمه في سن مبكرة.
وجان بول سارتر الوجودي الملحد (1905-1980م) أهملته أمه وجداه بعد أن اختارت هي الزواج من رجل طرده، وبلديه فرانسوا ماري آروويه المشهور بفولتير (1694-1778) رمز الأدب الفرنسي كان يصف أمه بالعاهرة لكثرة غيابها عنه وإهمالها له، ولم يكن الفيلسوف الألماني فريدريك فيلهيلم نيتشه (1844-م1900) بأحسن منه حالًا. فقد اعتبر أمه وسائر النساء كائنات متدنية خُلقت للمتعة والترفيه، وفي بعض الأحيان ينزلهن منزلة القطط والطيور، وحين يرفع تلك المنزلة يجعلهن كالبقر!5