”الائتمانية” نظريةً لحل المعضلات الأخلاقية العلمية:(محمد أوريا)_3_
حماية البيئة من منظور أخلاقي:
من المعلوم أنّ نظام التنمية الاقتصادية التقليدي له فوائد اقتصادية واجتماعية كبيرة، لكنه يواجه اليوم تقييدات بفضل فكرة حماية البيئة والفعاليات المرتبطة بها، وهذا ما يدفع—على سبيل المثال—إلى المفاضلة بين اختيار استغلال الوقود الأحفوري وتطوير الطاقات الخضراء؛ الشيء الذي يضع صنّاع القرار أمام معضلة أخلاقية تملي علينا الاختيار بين التقدم الاقتصادي كما يعرفه المجال التداولي للطاقة اليوم، وحماية البيئة كواجب أخلاقي. ويبدو أن المجتمع الدولي يجد نفسه في طريق مسدود أمام معضلة الاختيار بين الاقتصاد والبيئة، ومعضلة عدم اتخاذ موقف ينحاز إلى واحد من هدفين متناقضين لحدّ الآن.14 من جهة أخرى يبدو أنّ الأجيال القادمة هي المعنية أساساً بتدهور الوضع البيئي، ومن هنا يُطرح السؤال حول ما إذا كان على أبناء الحاضر مسؤولية أخلاقية تجاه أبناء المستقبل ومن يحددها؟ لنرَ إذن ما يمكن أن تقدمه النظريات الأخلاقية من أجل فهم هذه المعضلات التي يطرحها الحفاظ على البيئة وقد صار محط اهتمام الفلسفة الأخلاقية منذ ستينيات القرن الماضي.15
2.1 حماية البيئة في النظريات الأخلاقية الرائجة
سبق أن أشرنا إلى ثلاث فئات أو نظريات أخلاقية سائدة هي: النفعية وأخلاق الواجب وأخلاق الفضيلة. فأخلاق المنفعة تستند أساسًا في بناء أحكامها على نتائج الفعل؛ بمعنى أن القيمة الأخلاقية للفعل تعتمد على عواقبه وليس على نية أو طبيعة الفاعل. ووفق نفعية جيريمي بنتام، يكون الفعل مقبولاً من الناحية الأخلاقية إذا زاد من سعادة أكبر عدد من المعنيين به، وقلّل من معاناتهم. فالنفعية هي ”المبدأ الذي يوافق أو لا يوافق على أي إجراء من أي نوع؛ وفقًا للاتجاه الذي يبدو أنه يزيد أو يقلل من سعادة الشخص أو الأشخاص الذين تكون مصالحهم على المحك“ (Audard 1999, 209)، وهي رؤية تعبر عن الحد الأدنى من الأخلاق، ولا تُملي سلوكًا أخلاقيًّا معيّناً على الآخرين، وتتجنب حالة الأبوية بالنسبة للدولة حتى لا تملي رؤيتها على المواطنين.
وإذا ما نقلنا هذه الفكرة إلى مجال البيئة، سيكون من الأخلاق الامتثال لمبدأ الحفاظ على البيئة من أجل تأمين حياة أفضل للأجيال القادمة؛ لأنها أولا أكثرية (إذا أخذنا في الاعتبار أن الإنسانية في تزايد مستمر) ومعنية بالأمر (أي أنّ مصالحها على المحك بتعبير بنتام)، وثانيًا، لأنها كائنات حساسة وجب تجنيبها المعاناة والزيادة في سعادتها من خلال الحفاظ على البيئة في الوقت الحالي.
أما أخلاق الواجب فستسلك مسلكًا آخر تجاه الحفاظ على البيئة، فما دامت الأجيال المقبلة كائنات مستقلة، فإنّه يحظر أي فعل يؤدي إلى تقويض استقلالها أو يُعيق تطورها.ويتعدى الحفاظ على البيئة، في عرف النفعيين والكانطيين، الإنسان إلى الحيوان؛ فوَفقاً للنفعيين: ما دامت الحيوانات كائنات حساسة تشعر بالسعادة والشقاء، فقد وجب أخذها بعين الاعتبار.16 ووفقًا لأخلاق الواجب، فبالرغم من أن كانط يعتقد أن الحيوانات مجرد أشياء، فإنه يؤكد على وجود واجبات على الإنسان تجاه الحيوانات؛ بقدر ما يمكن أن تؤثر معاملتها على واجبات الإنسان تجاه الإنسان.17 أمّا الفيلسوف الكانطي المعاصر توم ريغن فقد ذهب إلى أن الحيوانات كالبشر، تعيش حياتها وتُجَرِّب أشياءها بقيمة متأصلة فيها وخاصة بها (Davis 2014, 321). لكنّ السؤال الذي يُطرح على الكانطيين الجدد هو: إذا تعارضت حقوق الإنسان مع حقوق الحيوان أيهما يجب تقديمه؟
وإذا كانت البيئة لا تقتصر على الإنسان والحيوان فقط، وإذا كانت آثار الأفعال الإنسية على البيئة تمتدّ إلى الأجيال المقبلة من إنسان وحيوان، فلماذا لا يمكن اعتبارها ممتدّة أيضا إلى كل كائن حيّ؟ وَفقاً لهذا الطرح يكون على هذا الإنسان بوصفه الكائن المفكر والفاعل في هذه المسألة، أن يمنح جميع الكائنات الحية وضعاً أخلاقياً، وهو ما نظّر له بول تايلور في فرضيته حول المركزية الحيوية (biocentrism) التي تقوم على أن جميع الكائنات الحية لديها حق متساوٍ في التقدير والاهتمام، فالإنسان جزء من نظام بيئي مترابط لا تفوق له فيه، ولكن كل عنصر فريدٌ في نوعه ويسعى بطريقته الخاصة إلى تحقيق مصلحته (Taylor 1986, 122). ولكنّ هذا الطرح الراديكالي رغم احترامه للبيئة، يضعنا أمام إشكالية ترتيب الأولويات، ممّا سيدفع الإنسان بصفة شبه حتمية إلى تقديم مصلحته على مصالح الكائنات الأخرى؛ ما دام هو الذي يقرّر ذلك كما هو معروف حول علاقته بالكائنات الأخرى.
يطوّر بول تايلور أربعة مبادئ أساسية تتعلق بالواجبات الإنسانية تجاه العالم الطبيعي غير البشري (Taylor 1986, 172–173). وهي: (1) عدم الأذى أي الالتزام بعدم الإضرار بأي كائن حي؛ (2) عدم التدخل ويحيل إلى واجب عدم فرض أي شيء على المخلوقات والسماح لها بالازدهار؛ (3) الولاء، وينطوي على عدم كسر الثقة التي يمكن أن يضعها حيوان في إنسان؛ (4) والعدالة الإصلاحية، وتشير إلى الحاجة إلى إصلاح ما ترتّب عن الأذى الذي ألحق بالكائنات الحية من جرّاء أفعال بشرية مثل انتهاك أحد المبادئ الثلاثة السابقة نتيجة أفعال إنسانية.
هذا ويفترض جلّ هذه النظريات الأخلاقية المنشغلة بإشكالية البيئة حسن نية الإنسان كفاعل أساسي في محيطه، ذي دور رئيسي في التدهور البيئي. في هذا الإطار يظلّ طرح هانز يوناس مميّزاً؛ من حيث إنه طرح مبدأ ”الأمر المطلق“ الخاص بالبيئة، ولاحظ أن اقتحام التكنولوجيا لجميع قطاعات الحياة البشرية يُوهن الحياة نفسها، كما أنه طرح مفهوم ”الوظيفة الاستكشافية للخوف“ (Jonas 1999, 16)، وهو المفهوم الذي يجب أن يُجبر الإنسان على أن يضع في اعتباره أقل الأخطار احتمالاً. إنه إذن شكل من أشكال التشاؤم، يدعو إليه يوناس على أساس الخوف من الأسوأ بدلاً من الرغبة في الأفضل. ويقول في هذا الصدد: ”من الضروري أن نُنصت أكثر إلى نبوءة التعاسة بدلاً من نبوءة السعادة“ (Jonas 1999, 73). والوظيفة الاستكشافية للخوف هي التي تُحدِّد المسؤولية عن مستقبل الأجيال القادمة، فهي المرجع الأساس لأخلاق المسؤولية.
يكرّس يوناس العديد من الصفحات لما يسميه ”وهن الطبيعة“ (Jonas 1999, 31)، ويوليه اهتماماً خاصاً لكي نتبيّن إلى أي مدى أصبحت هذه الطبيعة اليوم ضعيفة وهشة ومهدّدة بالتكنولوجيا الحديثة بعد أن كانت مهابة ومحترمة؛ الأمر الذي يتطلب حكمة عملية عالية ويدعو إلى أخلاق من نوع جديد هو أخلاق المسؤولية. وهي وإن كانت مطلوبة من أجل المستقبل البعيد، فهي حاضرة الآن بالفعل؛ بسبب الخطر المُحْدق بالبيئة. ويرتبط أساس هذه الأخلاق بفكرة وجود خطر كوني يُثقل كاهل البشرية بسبب انتشار الأسلحة الكيميائية والنووية، والأزمة البيئية العالمية وتعميم التكنولوجيات البيولوجية الجينية، الخ.
من الواضح أن هناك إجماعاً على حماية البيئة من قِبَل النظريات الأخلاقية السائدة، ولكن كيف يمكن لنسق الائتمانية أن تعالج هذا الموضوع؟