المقالات

الائتمانية” نظريةً لحل المعضلات الأخلاقية العلمية:‬‎(محمد أوريا)_4_

‬‎‬‎ ‮نسق الائتمانية وحماية البيئة: الرحمة والأمانة‬‎

‮ثمة عدد من العناصر المكوِّنة لنسق الائتمانية يمكنها أن تدعم حماية البيئة أخلاقيًّا، من أبرزها مفهومان: أولهما: مفهوم التراحم الذي استعمله طه في مقابل مبدأ الشمول الحداثي، وصيغته هي: ”الأصل أن الموجودات، على اختلافها، يرحم بعضها بعضًا؛ تخلّقاً باسم الرحمن من أسمائه تعالى“ (عبد الرحمن ‭2006‬أ، ‭244‬). وثانيهما: مفهوم الإيداعية، وهو أحد المبادئ الخمسة التي بنى عليها طه فلسفته الائتمانية. والإيداع—كما يعرفه—”هو أن تملك ما تملك، لا ابتداء، أي بنفسك، وانما بواسطة، أي بخالقك الشاهد لك وعليك؛ بحيث يكون عبارة عن أمانة يودعها لديك؛ فالوديعة إذن هي الشيء الذي يجعله الخالق الشاهد في حوزتك، موكِلاً إليك أمر رعايته؛ وكلُّ ما يوكِل إليك الخالق رعايته يقتضي حقوقاً عليك، إلا أن التمتع بحقوقك فيه موقوف على أداء الحقوق التي عليك بشأنه“ (عبد الرحمن ‭2014‬، ‭99‬).‬‎

‮بناء على هذين المفهومين فإن حماية البيئة أمر محسوم وبصفة مطلقة؛ بموجب نسق الائتمانية. فالتراحم يتضمّن أركاناً ثلاثة18 (عبد الرحمن ‭2006‬أ، ‭244‬) توسع حدوده ليشمل كلّ الكائنات، بل يتعدى ذلك ليشمل الأشياء المحيطة بالإنسان كما سبق. و”الرحمة“ مأخوذة من صفة ”الرحمن“ الإلهية التي يعتبرها طه ”أولى القيم وأكملها على الإطلاق“ (عبد الرحمن ‭2006‬أ، ‭245‬)، فالرحمة هي المفهوم الأكثر قدرة على إرساء فكرة الحفاظ على البيئة. وفي معرض حديثه عن ركن الرحمة، يقيم طه علاقة بين ”الراحم“ و”المرحوم“ لا تكتفي بإيصال المنافع من طرف الأول إلى الثاني، بل ”تتجاوز الإسعاف بالحاجات إلى الإنماء للقدرات“ (عبد الرحمن ‭2006‬أ، ‭251‬)، كما أنّها لا تتعلّق بالإنسان وحده بل تتعدّاه إلى جميع الأشياء الموجودة. ودليل طه على هذا التراحم—أو على ضرورته—هو ”أننا نشعر بوشائج بيننا وبين هذه الأشياء حتى كأنها تملك روحانية مثل روحانيتنا، بل كأنّ وجودها مثل وجودنا؛ متى أضحت مهدّدة في هذا الوجود، كما نرى في حالات تلوّث الطبيعة“ (عبد الرحمن ‭2006‬أ، ‭251‬). واستناداً إلى هذا، فالعلاقات التي يريد لها نسق الائتمانية أن تسود بين الموجودات هي علاقة الرحمة (عبد الرحمن ‭2006‬أ، ‭254‬)؛19 لأنّ كلّ الموجودات تملك روحانية مثل روحانية الإنسان.20‬‎

‮يختلف تصور طه هنا عن جل الأطروحات الأخلاقية التي تم عرضها، كما يختلف عن التوجه الذي يحمّل الدين المسؤولية عن تدهور البيئة؛ بحجة أنه لا يولي الطبيعة منزلة توازي تلك التي يحتلها الإنسان الذي يهيمن على سائر الموجودات؛ لأنه أرفع منها ومكرّم بينها، وهو التصور الذي شجع الإنسان على استغلال الطبيعة بحسب بعض الباحثين ‭(White Jr 1967, 1205)‬. فطه ينظّر لعلاقة رحيمة بين الموجودات—ومنها الأشياء—من خلال صفة ”الرحمن“، وهي صفة إلهية قرآنية تحدّد جانباً كبيراً من العلاقات بين الخلق والخالق في الديانات التوحيدية. ويمكن القول: إنّ العبارة القرآنية ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف، ‭156‬) تأخذ بعداً أشملَ في نسق الائتمانية؛ إذ تصبح الرحمة ممارسة ضرورية بين الموجودات الحالية والمقبلة؛ من حيث إن رحمة الله وَسِعت كل الموجودات وهو تعبير أبلغ دلالة من ”رَحِمَ“. هكذا يُلبي طه مطلب ”وايت“ المنادي بتغيير منطق التفكير الديني السائد؛ إذ يقول: ”لن يخرجنا المزيد من العلم والتكنولوجيا من الأزمة البيئية الحالية حتى نجد ديناً جديداً أو نُعيدَ النظر في الدين القديم“ (‭White Jr 1967, 1206‬).‬‎

‮فمبدأ الرحمة الواسع النطاق سيحتّم على الإنسان—باعتباره المخاطب العاقل في نسق الائتمانية—أن يستعمل الطبيعة دون استغلال؛ لأنها موجودات تملك (أو قد تملك حسب طه) روحانية. وهذا الطرح يقترب بعض الشيء من طرح كينيث جودباستر الذي تساءل عمّا يجعل الموجودات معتبرة من الناحية الأخلاقية، وخلَص إلى أن مجرد وجودها شرطٌ ضروري وكافٍ لاعتبارها ”موجودة“ من الناحية الأخلاقية ‭(Goodpaster 1978, 308–325)‬.‬‎

‮لا يقف نسق الائتمانية عند حدود مبدأ الرحمة في مسألة حماية البيئة، فهناك أيضاً مبدأ الأمانة كأحد المبادئ الثلاثة المؤسِّسة للفلسفة الائتمانية. والأمانة هنا تلتقي بمبدأ الإيداع الذي يقتضي حقوقًا وواجبات تجاه ما أودعه الخالق للإنسان كما تمت الإشارة إليه. وبالعودة إلى مبدأ الأمانة يؤكد طه على أنّ ”كلّ الموجودات، في العالم الائتماني، عبارة عن أمانات لدى الإنسان“ (عبد الرحمن ‭2014‬، ‭15‬). لكنّ الأمانة في نسق الائتمانية مفهوم جارف إلى أبعد الحدود؛ فبالمقارنة مع مبدأ المسؤولية عند هانز يوناس،21 يمكن القول: إنّه إذا كان هذا الأخير قد وسّع مفهوم المسؤولية ليشمل المسؤولية عن الأجيال القادمة أيضًا، فإنّ طه صاغ المسؤولية—بموجب مبدأ الأمانة—في قالب يشمل كلّ ما يوجبه كمال عقل الإنسان من أفعال وذوات وكائنات حية وأشياء جامدة؛ ما دام كل هذا يعتبر أمانة عند الإنسان بمقتضى مبدأ الإيداع، وبعبارة طه: ”الأمانة عبارة عن المسؤولية التي تشغل ذمة المُواثِق“ (عبد الرحمن ‭2017‬، ‭168‬–‭169‬). بهذا الطرح تصبح حماية البيئة ضرورة لا لخوف أو من أجل أجيال قادمة، ولكن لأنها أمانة مودعة من الخالق عند خلقه العاقل، ووجب على هذا الأخير أن يتحمل المسؤولية تجاهها.‬‎

‮بعد هذا العرض حول حماية البيئة حسب مقتضيات نسق الائتمانية الطهوي، ننتقل إلى الموضوع الثاني الذي يخصّ تقديم المساعدة الطبية على الموت للمرضى المشرفين عليه والأشخاص المصابين بالخرف، لنرى كيف يمكن لنسق الائتمانية الخروج بحلول للمعضلات التي يطرحها علم الأحياء على الإنسانية في الوقت الحالي.‬‎

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق