الائتمانية” نظريةً لحل المعضلات الأخلاقية العلمية:(محمد أوريا)_6_
التوجه المبدئي لحل المعضلة الأخلاقية في إطار الأخلاق البيولوجية
تصبو الأخلاق البيولوجية إلى الدفع بالنقاش ليصبح أقلَّ إيديولوجية وأكثرَ عقلانية من أجل أخلاق تقوم على الأدلة. ولتحقيق ذلك، سنستعمل أهم تيّار بين التيارات المتنازعة في حقل الأخلاق البيولوجية، وهو التوجه المبدئي (principlism) الذي يهدف إلى إيجاد حلول للنزاعات الأخلاقية الناتجة عن النشاط الطبي والبيولوجي. نشأ هذا التوجه في السياق الأمريكي، وأسس الممارسة الطبية والبيولوجية على أربعة مبادئ هي: احترام الاستقلالية والإحسان وعدم الإساءة والعدالة.27 ولكن كيف يمكن تطبيق هذا في المثال محل النقاش؟ من أجل احترام استقلالية المريض أولاً، يجب أخذُ موافقة الشخص بحرية وبشكل واعٍ، ثم إن المساعدة على الموت لا بد أن تكون لمصلحة المريض وليس لأغراض شريرة، ولكن كيف يجيب هذا التوجه على الإشكال المتمثل في أن الموت يعدُّ ضرراً لشخص ما ولأقاربه عموماً؟ يجيب مؤيدو هذا التوجه بأن الموت في الحالة محل النقاش هو راحة للمريض وليس ضرراً، ما يعني أنه يحقق مبدأي الإحسان وعدم الإساءة. بقي المبدأ الرابع وهو العدالة، ففي المجتمعات الحديثة تم إقرار مبدأ مفاده أن لكل شخص حقاً في الحصول على الحد الأدنى من الرعاية الصحية ولكن هذه العدالة تحتّم إخلاء السرير لمريض آخر يؤمَل في شفائه وتخفيفَ الضغط على العاملين في حقل التطبيب ليتكفلوا بهذا المريض.
إذا ما نظرنا إلى هذا التحليل، فإننا سنجد أنه يولي أهمية لاستقلالية الشخص التي تظلّ أحد أركان الرغبة في إرساء قانون المساعدة على الموت، ومنح الأفراد حق وضع نهاية حياتهم. لكن تبقى المشكلة قائمة بالنسبة لمن يصلون إلى مراحل متقدمة من الخرف ولا يملكون أهلية اتخاذ القرار وهو ما يخل بمبدأ الاستقلالية؛ إذ يمنح طرفًا آخر حق التسلط على المريض.28
يتبيَّن مما سبق، أنه—وبخلاف موضوع حماية البيئة—هناك تضارب بين النظريات الأخلاقية السائدة في تقديم حل لمعضلة الموت الرحيم. ولكن كيف تعالج الفلسفة الائتمانية هذه المعضلة؟.
3.4 الفلسفة الائتمانية والموت الرحيم
إن قرار الموت الرحيم تشترك فيه جهات عدة تشمل فئة المشرّعين التي يمثلها النواب البرلمانيون،29 وفئة الأطباء الذين يتولون تقييم حالة المريض ودرجة المرض، الأمر الذي يلعب دورًا حاسمًا في عملية اتخاذ القرار والنتائج المترتبة عليه والتي من بينها: إيقاف الرعاية الطبية لهؤلاء المرضى، وزيادة الطلب على عمليات الموت الرحيم، وثمة فئة ثالثة تضمّ أقارب المرضى، وهي فئة تعيش وضعية صعبة لرؤية قريب وصل إلى حالة المرض أو الخرف القصوى. وإن كان ثمة بُعد إيجابي لهذه الفئة يتمثل في الراحة المترتبة على عملية الموت؛30 إذ سيكون عليهم أن يتقبلوا حقيقة أن قوة الحياة والموت هي في يد المريض وحده، وأنه لا يحق لهم التأثير في مجرى أحداث المساعدة الطبية على الموت.
إن هذه الفئات جميعًا سيكون عليها تحمُّل تعارض القيم المطروحة إزاء هذه المعضلة، فإقرار قانون الموت الرحيم سيساعد على إرساء قيم المودة والمساعدة والرحمة والتعاطف مع الأفراد الذين يجدون أنفسهم في حالات صحية متردية كالحالة الخضرية الدائمة أو القريبة منها على سبيل المثال. وهي قيم تتيح للمريض مغادرة الحياة إذا رغب في ذلك، أو تَقَرر طبيًّا عدم إمكانية عودته إلى حالة طبيعية مقبولة. وهناك قيمة الكرامة التي تبقى من صميم عملية اختيار الموت في الظروف الصحية بالنسبة للمرضى، وهي تحتم ضمان الحق في الموت الكريم لكل شخص، كما كان له الحق في العيش الكريم، وهناك قيمة الاحترام التي يتمُّ من خلالها اعتراف الدولة والمجتمع باستقلالية الشخص واحترام خياراته، خصوصًا في لحظة المرض القصوى التي يكون فيها أكثر وَهناً.
ولكن في المقابل، إن حظر الموت الرحيم يحقق جملة قيم تستمد سلطتها من الدين عموماً، تتمثل في قدسية الحياة بذاتها والتي تقود إلى اعتبار مثل هذا الفعل قتلاً للنفس، وانتهاك الطبيب لقسم أبقراط؛ فالطبيب في هذه الحالة يعارض أهم مقصد من مقاصد الطب وهو مساعدة المرضى على التعافي وليس إنهاء حياتهم، وقيمة الابتلاء والتمحيص المطهر من الذنوب وهو ناتج عن مبدأ الإيمان بالله، وهو ما يدفع المؤمنين إلى رفض الموافقة على الموت الرحيم. فهؤلاء يفضلون الاستمرار في الحياة مع المعاناة على الموت المريح إلى أن يقضي الله أمرًا. تميل الائتمانية إلى الخيار الأخير هنا، غير أنّ طه يقدم له تنظيرًا متينًا مستعينًا بجملة من المفاهيم التي يصوغها بنفسه للبرهنة على أخلاقية المحافظة على الحياة ورفض عملية الموت الرحيم.
ترفض الائتمانية الموت الرحيم استنادًا إلى مفهومي الإيداع والأمانة؛ فالحياة أمانة أودعها الخالق لدى خلائقه، ما يعني أن الحفاظ عليها واجب جميع الفئات المذكورة سابقًا بما فيها المريض إذا كان يتمتع بالأهلية. ولكنّ ماذا لو خرج الألم عن طاقة المريض أو كان لا يُرجى شفاؤه، أو بلغ درجة كبيرة من الخرف وكان قد طلب أو أوصى بذلك حال أهليته؟
تنفي الائتمانية أصلاً وجود معضلة أخلاقية في هذه الحالات، ففي حالة الخرف والحالة الخضرية، فإنّ المؤتمن على حياة المريض هنا هو الفئات المتعددة التي ذكرناها سابقًا، ما يعني أن واجب رعاية المريض يقع على عاتق هذه الفئات. وعملية تسهيل الموت أو تسريعه هي ليست رعاية، كما أنها تخالف مقتضيات مبدأي الإيداع والأمانة. كما أن علاقة هذه الفئات بالمريض في هذه الحالة هي علاقة رحمة، فواجب هذه الفئات أن تكون ”راحمة“ وحق المريض أن يكون ”مرحوماً“، وأن تُنَمّى قدراته كذلك، الأمر الذي يقف سدّاً منيعاً أمام إمكانية إنهاء حياته.
بقيت حالة الألم الذي لا يُطاق والذي لا يُرجى بُرؤه، فإنّها تضع مبدأي الرحمة والأمانة أمام إشكال حقيقي وهو أن تسهيل موت المريض في هذه الحالة يمكن أن يدخل في مبدأ الرحمة نفسه، ويجعل من مبدأ الإيداع قاصرًا أمام فظاعة الألم فأي وديعة هنا؟. وهل تُعفي مساعدته على الموت الفئات المعنية من مسؤوليتها؟
ثمة مفهوم آخر يروج في فلسفة طه هو مفهوم الكرامة، وخاصة ما يسميه ”الكرامة التفضيلية“. وقد أضاف هذا المفهوم في معرض مناقشته لموضوع ”الخلايا الجذعية بين إرادة الخلود ومحنة الجنين“ (عبد الرحمن 2012ب، 255–294)، وعرف الكرامة التفضيلية بأنها ”القيمة التي يورّثها للآدمي اجتهادُه في التقرب إلى الذي قدّر خَلقه وائتمنه على مخلوقاته؛ ممتحنًا له“ (عبد الرحمن 2012ب، 288). استخرج طه من هذا التعريف عدّة عناصر نأخذ منها ما يفيد في حل المعضلة التي نحن بصددها، فالعنصر الأول يخص اقتران تكريم الإنسان بابتلائه بالخير والشر، وهذا الاقتران يعدّ ”تمحيصاً لما في قلبه (الآدمي) من إيمان وعرفان؛ فيبتلى، مثلاً، بمزيد من الصحة حتى يُعدّ من المعمّرين كما يبتلى بنقص فيها حتى يُعدّ من الزمْنى واليائسين“ (عبد الرحمن 2012ب، 288). ويتمثل العنصر الثاني في ”أنّ الآدمي ينزل من مراتب الكرامة بحسب درجته في التقوى وتحمّل الابتلاء الذي ينزل به“ (عبد الرحمن 2012ب، 288). من خلال هذين العنصرين يمكن لنسق الائتمانية الخروج من المأزق الذي قد يواجه حالة الألم الذي لا يطاق ولا يرجى برؤه. فهذا المريض مطالب بالصبر على مصابه (عبد الرحمن 2012ب، 290) مهما كان حجم معاناته؛ لأن الصبر قيمة تؤهل المريض لدرجة أعلى سواءٌ في التطهير من الذنوب أم في رفع الدرجات، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل.
خاتمة
أمكن لنا في هذا الفصل المقارنة بين النظريات الأخلاقية الرائجة اليوم ونسق الائتمانية، وقد أتاحت لنا هذه المقارنة استكشاف بعض الإمكانات العملية الكامنة في فلسفة طه والتي من شأنها أن تسهم في حلّ بعض المعضلات الأخلاقية التي أنتجتها الحداثة الغربية. وقد بدا لنا من خلال هذه المعالجة أن الائتمانية منظومة فكرية وأخلاقية تنتمي إلى المجال التداولي الإسلامي وذات إمكانات عملية إلى جانب بنائها النظري وطاقتها النقدية.
فالمحور الأول من هذا الفصل أتاح لنا الوقوف على الإشكالية التي يتمحور حولها نسق الائتمانية، وفيها انتقد المفكر المغربي الحداثة الغربية وأخلاقها؛ لتقديسها العلم وتأليهها التقنية على نحوٍ أخلّ بالحياة الأخلاقية، كما حاول تجاوز هذه الحداثة المتعصبة للعلم الحديث، بالتغلب على العلاقات المادية عبر تأسيس الائتمانية المرتكزة على مبادئ وقيم أخلاقية مستمدة من النموذج الإسلامي. انتقد طه النظام العلمي-التقني؛ لأنه فصل بين الأخلاق والدين، وأكد على أهمية فكر هانز يوناس في نقد هذا النظام ولكنه عاب عليه توقفه عند حدود مستقبل الإنسانية المهدد، ولذلك اقترح تكميله بديناميكية الثواب/العقاب في الآخرة لتوفير نوع من الردع للمسؤولين عن تلوث البيئة.
وفي المحور الثاني تم ربط فكر طه بالنظريات الأخلاقية الرائجة في حقل البيئة، وقد استعان هذا المحور بمبدأين مهمين هما الرحمة والأمانة اللصيقان بمبدأ الإيداع. تحتِّم هذه المبادئ على الإنسان التعامل مع الطبيعة دون استغلال، الأمر الذي يفرض الحفاظ على البيئة. وقد افترق تصور طه عن تصورات غيره وإن التقى مع بعضها في مسألة الوضع الوجودي للموجودات.
أما المحور الثالث فقد كشف عن الإمكانات العملية التي تقدمها الائتمانية لمعضلة الموت الرحيم، مستعينًا بمبدأ آخر هو مبدأ ”الكرامة التفضيلية“، ليبيّن زيف المعضلة الأخلاقية المطروحة؛ إذ إن الإنسان مطالب بالحفاظ على حياته وحياة الآخرين مهما كلّفه ذلك من آلام. ويلتقي طه هنا مع أخلاق الواجب في مسألة عدم تسهيل موت المريض.
وفي الختام، لا بدّ من التأكيد على أنّ نسق الائتمانية يتوخّى بناء نظرية أخلاقية إسلامية قادرة على حلّ المعضلات الأخلاقية الحديثة استناداً إلى طبيعة الهوية الإنسانية التي يعتبرها طه أخلاقية دينية. وفكر طه، وإن كان يرفض أن يكون جزءاً من المجال التداولي الغربي الحديث، فإنه يلتقي في عدد من النقاط مع بعض نظريات المجال التداولي الغربي، وهذا ما يصُبّ في فكرة وجود قيم وأخلاق إنسانية مشتركة تتقاسمها الأديان والفكر الإنساني معًا.