الاحتجاج في تاريخ الإسلام(محمد الصياد)_3_
أسباب متنوعة
مضت الأحداث في الاتجاه الذي أراد لها معاوية أن تسير فيه، حتى إذا توفي وانتقل الحكم إلى ابنه يزيد كان ذلك سببا فيما شهده عهده من غضب عارم تفجّر ثورات مسلحة متلاحقة لم تتوقف بموته، بدءا بثورات الزبيريين ومرورا بالشيعة والخوارج والفقهاء بقيادة القائد العسكري عبد الرحمن بن الأشعث (ت 95هـ/715م)، وانتهاء بثورة الإمام زيد بن علي الهاشمي (ت 126هـ/745م).
ولئن ورّث يزيد أعباءَ مواجهة تلك الثورات لبني عمه في البيت المرواني الذي آلت إليه مقاليد السلطة لأسباب متعددة أهمها القوة الباطشة؛ فإنهم استطاعوا -ولاسيما مؤسس دولتهم الحقيقي عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م)- التغلب عليها جميعا، رغم اختلاف منطلقات وأهداف تلك القوى والجماعات في الثورة عليهم؛ فأحكموا بذلك سيطرتهم فارضين سلاما هشًّا امتد قرابة أربعة عقود.
ثم زالت دولتهم سنة 132هـ/751م بثورة هائلة دبّرها العباسيون، فيتجدد بذلك عهد جديد من السياسات التي لم تخلُ من اعتراضات وممانعات أبداها الناس بشأنها واحتجاجات مارسوها ضدها، وذلك طوال عصور الخلافة العباسية المختلفة وما تخللها من أنظمة حكم مستقلة في المشرق والمغرب.
ومن اللافت أن تلك الاحتجاجات السياسية كانت دائما -مهما اختلفت العصور وتعاقبت الدول- متعددة الدوافع والأسباب، ومنوعة الأشكال والأساليب، كما أن خلفاء وسلاطين وأمراء المسلمين واجهوها -طوالَ قرون الإسلام وفي كافة أقاليمه أقطاره- بردود أفعال متباينة استجابةً ومناهضةً.
فكثير من قصص الاحتجاج في تاريخنا كانت دوافعها اقتصادية بحتة، من قبيل ارتفاع الأسعار أو نقص المؤن وانتشار الفقر، أو فرض الضرائب والجبايات الظالمة المجحفة بالشعب، أو مصادرات غاشمة لأموال الناس وممتلكاتها، أو تبذير للمال العام.
ومن نماذج الاحتجاج بسبب أزمات الغذاء وغلاء الأسعار وسوء أوضاع المعيشة ما سجله الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في ‘المنتظم‘- من غلاء فاحش في بغداد سنة 373هـ/984م، إذْ “زادت الأسعار في هذه السنة زيادة مفرطة، ولحق الناسَ مجاعةٌ عظيمة…، وضج الناس وكسروا منابر الجوامع، ومنعوا الصلاة في عدة جُمَع، ومات خلق من الضعفاء جوعا على الطريق، ثم تناقصت الأسعار” في نهاية السنة.
ويحدثنا الإمام ابن حجر عن أنه وقعت في مصر خلال سنة 839هـ/1435م، فقد “غلا سعر القمح فتزايد وقَلّ الخبز من الحوانيت فضجت العامة، فأمر السلطان بفتح الشُّوَن (= مخازن الحبوب الحكومية) والبيع منها، فمشى الحال قليلاً… وسكن الحال بوجود ذلك”.
وفي واقعة احتجاج شعبي أخرى ذات دافع اقتصادي؛ يقول ابن حجر -في ‘إنباء الغُمر‘- إنه في سنة 775هـ/1373م “لازم شخص من العوام الصياح تحت القلعة (= مقرّ السلطان): اقتلوا سلطانَكم تَرْخُص أسعارُكم، فأُخِذ وضُرب بالمقارع وشهر”!!
وهذه الحادثة تدل أيضا على خشية القصر حينئذ من توسع وازدياد مثل تلك التحركات الفردية المناهضة، كما أنها مؤشر على شجاعة مكونات الرأي العام وإقدامهم وتحريكهم للمياه الراكدة، حتى ولو تعرضت حياتهم للخطر ورزقهم للزوال.