الاسترخاء الإسلامي: اللاموقف سيد الموقف(كمال القصير)
لا تتعلق أحكام الكفر والإيمان، التي وضعها الإسلام، فقط بمدى كونك على المستوى الشخصي رحيما، أو عديم الرحمة. أو بدرجة انفتاحك وإنسانيتك، أو تشددك إزاء الإنسانية والعالم. وكذلك الأمر في ما ينبني عليها من تصورات ومواقف حول المغفرة والثواب والعقاب. إنها تتعلق بشكل أساسي بأهمية الحفاظ على الحدود الثقافية والفكرية والاجتماعية والنفسية والدينية، لحضارة يمثل الدين مرجعيتها الأساسية.
الاجتماع الثقافي والحضاري ليس بابا مفتوحا من غير حدود وسياجات تؤطر وعي ووجهة من ينتمون إليه. إن تلاشي الحدود يجعل معايير الحق والباطل عملية نسبية ولا فائدة من ورائها، بحيث يصبح المطلوب من المسلمين إذن أن يذوبوا وينساحوا ضمن رؤى جديدة سائلة، لا تعترف بالحدود والخصوصيات التي يضعها الدين.
المواقف والمجتمعات
هذا الاسترخاء لا يقتصر على قضايا الاعتقاد، بل يتعلق بقضايا متعددة مثل الموقف من الشذوذ الجنسي، وتفسير الحريات بشكل عام، وهو ما يخلق حالة تداخل رمادية تضيع فيها خصوصيات الموقف الإسلامي. إن عملية تحديث الإسلام الجارية في المنطقة، تهدف إلى تخفيف مفهوم الموقف، أو حتى إلغائه، والنزول به إلى أدنى مراتب الفاعلية. وتفرض حالة الاسترخاء تمدد مساحة اللاموقف تجاه كثير من القضايا في المنطقة والعالم، ليحل التماهي محل الموقف.
لا يبقى للأفكار الكبرى التي نمتلكها قدرة وفاعلية وتأثيرا حتى تتحول إلى مواقف واضحة فكرا واجتماعا وسلوكا. المواقف هي أكثر ما يصنع اتجاهات المجتمعات. إن القرآن كله مواقف، بل هو سجل لتاريخ المواقف منذ البداية ودعوة لضرورة تبني المواقف الكلية والجزئية. إن تصنيف العالم في القرآن على أساس الإيمان والكفر، والفساد والصلاح موقف تأسيسي، من دونه تصبح حدود الرؤية التي يضعها القرآن للعالم باهتة. إن الأطر المذهبية في الاعتقاد والفقه قبل أن تكون مراجع في الرؤية والسلوك العملي، فهي مواقف.
تبدو أولى مهام ووظائف العقيدة والفقه والتاريخ والفلسفة هي منع حدوث حالة الاسترخاء في الوعي الإسلامي الجمعي، بالقضايا التي تتعلق بالتصورات الكونية والحدود التي وضعها القرآن. وعلى قاعدتها ينظر المسلمون إلى بعضهم من جهة، ثم إلى الإطار الإنساني العام المختلف عنهم في الاعتقاد والتصور من جهة أخرى. إن حالة الاسترخاء الإسلامي الحالية غير مسبوقة. وحتى في لحظات الاسترخاء التاريخي كان المجتمع محتفظا بدرجة عالية من الوعي.
عندما كان يحدث الاسترخاء في التاريخ الإسلامي، كانت تعقبه ردود أفعال تصحيحية. وحين اختلط القول الفلسفي اليوناني بالتفكير الإسلامي وأنتج خليطا عجيبا متماهيا، ظهر الغزالي ليجيب عن مشكلات الفكر والفلسفة، متحديا الفلاسفة والتيارات الباطنية، ضمن رؤية شرعية تضع حدود ومراتب الكفر والفسوق والابتداع في الوارد من الفلسفات والأفكار الباطنية. وعندما ظهرت مشكلات الانحراف العقدي ظهر أمثال ابن تيمية والشاطبي لإعادة ضبط موازين النظر إلى الفعل الإنساني. لم يكن الغزالي مولعا بالتكفير والتبديع ولا غيره من العلماء، لكنه رأى فيما أنتجه أن الوعي الإسلامي قد أصبح يعاني مشكلة اختلاط حدوده الثقافية وذوبانها في حدود ثقافية أخرى، فاقتضى ذلك لحظة صرامة منهجية وعلمية، لا علاقة لها بمفاهيم الرحمة والغفران والانفتاح والوسطية والتشدد، فتلك مواضيع لها مجال آخر في النقاش.
الاسترخاء أكبر من أن يرتبط بمسالة جواز الترحم على المخالف الكافر من عدمه، التي انشغل بها الناس حاليا. فقد بات يتعلق بمفاهيم كثيرة. إن مصطلح الجهاد أصبح مخيفا للكثيرين، وكذلك مصطلح الشريعة ومصطلح الحدود. كما أن مصطلح الكفر يخيف الكثيرين رغم أنه لا يعدو أن يكون مجرد وصف لحالة إنكار، يتبناها فرد أو مجموعة. وبسبب سوء استخدامه وكثافة توظيفه سياسيا، بات حتى بعض الملحدين والمشككين يرفضون أن يوصفوا به، لما يولده من حمولة على المستوى النفسي والاجتماعي.
أما مفهوم الشهادة فقد بات أكثر المفاهيم حاجة للدراسة والبحث والتحديد، بسبب اتساع استعماله. ولأنه انتقل من كونه مصطلحا ومفهوما شرعيا إلى كونه مصطلحا إنسانيا عاما، يحب الجميع أن يستعمله. أصبحت حدوده بالغة الضبابية والعموم. ولشدة التناقض فإن مصطلح الشهيد والشهادة لا يلقى الحمولة السلبية نفسها، رغم أنه وليد الجهاد وابنه. وهل هناك استشهاد من غير أحد أنواع الجهاد؟
حالة الاسترخاء تجعل مفهوم البدعة والانحراف الاعتقادي حالة عادية وطبيعية بالنسبة للأجيال السنية الحالية. ذلك أن درجة الحساسية العقدية لديهم تزداد تراجعا، وقد تتلاشى في لحظة معينة. إن الاسترخاء السني يزيح عمليا حدود انتقال الكثيرين من التسنن إلى التشيّع. وفي القرن الخامس عشر الميلادي مهدت الطرق الصوفية السنية المرتخية، بسبب تداخل واختلاط المعتقدات المتناقضة لديها في منطقة الأناضول، الطريق نحو تحول كثير من الصوفية إلى التشيّع الصفوي، ومعها جحافل مريديها وأتباعها.
إن المقاصد في الشريعة لم توضع للتلاعب بالمقاصد، بل لحفظ الشريعة من جهة العدم، بمنع كل ما من شأنه التلاعب بقاعدة حفظ الدين والعقل، التي هي من الضروريات، والحيلولة دون أن يصبح دينا سائلا لا طعم له ولا رائحة ولا لون.
حالة الاسترخاء لا تقتصر على النخب العلمية والثقافية، بل الأخطر هو تمددها واقعيا ضمن مفاصل المجتمع والناس العاديين. إن الكثيرين، من دون وعي، باتوا يفتقدون إلى قوة الموقف. وهذا يعود إلى تراجع حاد في تأثير الأطر المذهبية على الناس. إن الفتوى في حقيقتها لا تقتصر على مجرد الاستفسار عن قضايا الفروع الفقهية، مما له اتصال بالحدث اليومي ومشكلاته، بل تشمل الفتوى ضرورة سؤال الناس عن قضايا القيم والكون والاعتقاد. إن الأكثرية تسأل عن العبادات والمعاملات، وقليل جدا من يسأل عن الاعتقادات والتصورات. لقد كان كثير من مؤلفات الاعتقاد ناتجا عن أسئلة الناس في العالم الإسلامي.
حالة الاسترخاء لا تقتصر على مجال الرؤية الدينية، فهي معطى اجتماعي أصاب الحداثيين العرب مثلما أصاب النخب الدينية. ولا تقتصر المشكلة المتعلقة بمدى استجابة الأطر الفكرية والمذهبية لحاجات الناس وقدرتها على تأطيرهم بالمدارس الموروثة، بل يمتد ليشمل الاتجاه الحداثي العربي، وهو اتجاه فشل حتى اللحظة في التواصل مع الجمهور العريض للمجتمعات الإسلامية. ولم يتمكن من نقل مفاهيم الحداثة إلى الوعي الاجتماعي العربي الإسلامي.
الفكر الحداثي العربي بالغ الاسترخاء أيضا، ويثبت فشله كلما نظرنا في جزئيات وتفاصيل التفكير الاجتماعي في المنطقة، وأدوات اشتغال الوعي التي لا تتجاوب مع الإطار الحداثي من ناحية، أو تتعامل مع الحداثة بسطحية وانتقائية شديدة. لم يتمكن الحداثيون العرب أن يحدثوا تواصلا مع الوعي الجمعي العربي، أو يصنعوا رموزا حداثية ذات تأثير وجداني وفكري على وعي الناس العاديين. لقد أصبحوا في النهاية جزءا من حالة الاسترخاء.
الاسترخاء في توظيف واستعمال مفهوم الوسطية يؤدي إلى تمييع الحدود بين الإسلام وغيره من الرؤى العالمية. وجعل تلك الحدود أكثر رمادية، يوقع الأجيال في حيرة، ويزج بها في عالم من السيولة التي تفقد فيها الهوية معناها الخاص. الحدود الثقافية أمر ضروري حتى لا تتحول حالة التماهي والاسترخاء إلى مسخ ثقافي.
يتشكل الاسترخاء ضمن حالة الفراغ الحالي في الأطر المذهبية والعقدية التي يفترض أن فاعليتها هي ما ينتج حالة المناعة. إن وظيفة المذاهب الفقهية هي منع حالة الاسترخاء من خلال صلابة مواقف رموزها العلمية. وعندما كان المسلمون يقسمون العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب لم تكن القضية متعلقة بمفاهيم العلاقات الدولية في تلك اللحظة فحسب، بل بطبيعة الوعي الذي يؤسس الخلفية الثقافية للسلوك السياسي والحربي.
الهوية الإسلامية والحدود
إن مسألة الولاء والبراء تكاد تكون في أدنى مستوياتها التاريخية حاليا منذ ظهور الإسلام، سواء من حيث إدراك الأجيال لمعناها أو من حيث درجة فاعليتها في صياغة السلوك والوعي الإسلامي المعاصر. إن الهوية الإسلامية لا تقبل أن تبقى مفتوحة على مصراعيها دون حدود ثقافية ودينية واضحة، كما أن الاسترخاء الإسلامي يعني بشكل مباشر أن الاجتماع الإسلامي الحالي يفتقد إلى دينامية الموقف.
الحضارة الإسلامية في مراحلها الأولى كانت تتقبل تأثيرات الإغريق والفرس والصين والهند، لكن بسبب الموقف العقدي رفضت الغرب بشكل أكثر حسما، ذلك أن حقيقة كون الغرب اجتماعا مسيحيا جعلته غير أهل للثقة المفتوحة تاريخيا.
حالة الاسترخاء تصيب الوعي العام وبشكل خاص الوعي السياسي، وهو ما يفرض إيجاد ردود فعل تصحيحية. تقول الحوليات المصرية التاريخية في العصور الوسطى إن غزو المغول في القرن الثالث عشر، أنتج لدى السلاطين والأمراء في مصر تقليدا بترك الشعور طويلة على طريقة المغول حتى قرر السلطان عام 1315 الرجوع إلى ممارسة حلق الرأس. وحسب المقريزي فقد ذهب إلى الحمام وحلق رأسه، فلم يبق أمير أو مملوك إلا تابعه في ذلك. ومنذ ذلك الوقت انتهت عادة إطالة الشعر الطويل لدى الجنود. إن مسألة إطالة شعر الرأس قد تبدو جزئية تفصيلية، غير أنها بمقياس الوعي العام وأهمية الحفاظ على الحدود الثقافية تتحول إلى مسألة من رتبة الكليات.