الانتخابات التركية وحدود تجدد الصراع الأيديولوجي حول الهوية(عبد اللطيف العسلة)
رغم التحولات الكثيـــرة التي شـــهدتها الجمهورية التركية منـــذ تأسيسها عام 1923 على يد مصطفى اتاتورك اســـتطاع حـــزب العدالـــة والتنميـــة التركي مـنذ اعتلائه سدة الحكم في عـــام 2002 أن يقود المشـــهد السياســـي نحو تحقيق طفرة اقتصادية تنموية واجتماعية رغم الاكراهات والعوائـــق والتحديات الجيوسياسية التي وصلت إلى تهـــديد بقائه في الحكـــم، وأمام هذه الصعوبات فـــإن حزب العدالـــة والتنمية راكم بلا شك خبرات وقدم عـــدة نماذج تنموية في استراتيجية تدبيره لكافـــة المجالات في غضون حوالي عقدين من الزمن من الاستقطاب الهوياتي والصراع السياسي بين أيديولوجيتين مختلفتين، العلمانية والاسلام السياسي كما يقول أستاذ التاريخ الإسلامي كارتر فيندلي.
لقد عمدت القوى العلمانية منذ عهد كمال أتاتورك إلى سلسلة إجراءات تتعلق أساسا بعلاقة الديني بالسياسي وتدبير الشأن العام في محاولة التأثير أو الاستئصال النهائي لمظاهر التدين من الشارع التركي وصناعة المخيال العلماني باقتلاع الهوية الإسلامية من ذاكرة الأتراك، وعلمنة الدولة_كما يقول جميل سيار_ أو الانتقال من العثمنة إلى علمنة كل مؤسساتها وتقويض كل الدعائم التي تحد من تطور العلاقات الأوروبية التركية من الناحية الحضارية والثقافية، على إيقاع تطلعات أتاتورك إلى “الحداثة والعصرنة” في ركب أوروبا كما ترى النخبة العلمانية، التي ظلت ترفع هذا المسعى بطلب الانضمام إلى العضوية الأوروبية دون أن يتحقق ذلك، لأسباب ثقافية تعود إلى الهوية وتاريخ الحضارة التركية بالدرجة الأولى، خاصة في ظل صعود الإسلام السياسي إلى الواجهة، وبالمقابل عملت قوى التوجه الإسلامي في العمل السياسي على تحصين وحماية الهوية الحضارية والثقافية للشعب التركي الحاضنة لتجربتها السياسية والضامنة لاستمرارها واستقرارها بكل الاجراءات والقرارات الاستراتيجية والمشاريع التنموية الكفيلة بذلك حيث نجح حزب العدالة و التنمية إلى حد ما في ترجمة سياساته التكتيكية إلى إستراتيجية تغلغلت بعيدا في أوساط المجتمع واستطاعت إعادة تأسيس النسق السياسي للنظام التركي وفق روح جديدة فيما سمته حنة لوسيندا سميث في كتابها بـ(صعود إردوغان: المعركة من أجل روح تركيا)..
الاستقطاب الهوياتي صراع يتجدد في الانتخابات التركية
يعتبر باري روبين في كتابه (الدين والسياسة في تركيا) أن تصريح رئيس البرلمان التركي إسماعيل قهرمان الذي دعا فيه إلى دستور ديني لتركيا سنة 2016 تعبيرا عن جوهر سياسة وأيديولوجية حزب العدالة والتنمية، مما شكل منذ ذلك الحين إحياء للصراع التقليدي بين القوى العلمانية، وقوى الإسلام السياسي. واعتبرها المعارضون انقلابا ناعما على الأسس العلمانية للدولة التركية، الحدث الذي اضطر معه الرئيس طيب رجب اردوغان الى التدخل السريع لإنقاذ الموقف والتنصل معتبرا ذلك رأي قهرمان الشخصي وليس موقفا رسميا للحكومة وحزب العدالة والتنمية، وإن الدولة يجب أن تبقى على مسافة واحدة من جميع العقائد الدينية. وأن القصد من الدعوة كان إعادة دراسة وضع العلمانية في الدستور وليس إبدال العلمانية بدستور ديني، على اعتبار أن الاقتصار على حصر الدستور بالعلمانية لا يعبر تعبيرا دقيقا عن واقع الحال، وأن العلمانية تبقى جزءا من الدستور وكل هذا لم يكن إلا تدخلا سياسيا للتخفيف من تداعيات دعوة قهرمان على نهج الحزب أمام ضغوط أحزاب المعارضة والمؤسسة العسكرية المساند الأول للقومية العلمانية والتي ترى أن، الانتقال من النظام البرلماني إلى الرئاسي، مدخلا يشرع لشخصنة الحكم و ترسيم السلطوية والاستبداد.
ظل الصراع التنافسي في الانتخابات التركية يتجدد على وقع تصريح هنا أو موقف هناك. من أجل استقطاب الشريحة المجتمعية الكبرى بين مختلف مكونات الشعب التركي وتعد الكتلة المحافظة التي تقدّر بنحو 45 في المائة محط اهتمام كل الأطراف السياسية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الجارية.
مما جعل حزب الشعب الجمهوري العلماني الكمالي يتوجه إلى الناخبين المحافظين بتغيير الخطاب السياسي وتجديد أساليب الاستقطاب منها الحديث عن مسيرة التسامح، وتعزيز مظاهر الهوية الاسلامية، والتحالف مع الأحزاب المحافظة.
وبالمقابل يستمر أردوغان في توجيه الخطاب للشريحة المحافظة بما يتناسب مع تطلعاتهم التنموية وقضاياهم الاجتماعية والدينية، ويذكرهم باهتمامه الدائم وسعيه المستمر إلى تقديم تعديلات دستورية للبت في مسألة مظاهر الدين الاسلامي في الشارع العام لتركيا ويركز خطابه على منجزاته في هذا المجال حيث ما فتئ يذكر بذلك بما أقدم عليه في إعادة فتح جامع آيا صوفيا بعد تحوله الى متحف منذ أزيد من ثمانين سنة وفي تحريكه للمخيال الجمعي التركي بتطرقه إلى موضوع حماية الاسرة التركية من كل أنواع الشذوذ.
ورغم إدراك مرشحي المعارضة من حزب الشعب الجمهوري بقيادة كمال كيلجيدار والأحزاب الإسلامية “السعادة” و”دواء” و”المستقبل”، التي تحالف معها أهمية ودور الكتلة المحافظة وعملهم على أدوات استقطابها ، يبدو أن الكتلة المحافظة التي ساهمت في فوز حزب “العدالة والتنمية” على التوالي في الانتخابات منذ عقدين لا تزال ترى في أردوغان الزعيم السياسي القادر على تحقيق تطلعاتها وحماية مكتسباتها في انتظار ما تفرزه العملية الانتخابية.
أي أثر للتدخل الخارجي في إذكاء الصراع الإيديولوجي الانتخابي؟:
إن تأثير العوامل الخارجية في الشأن الداخلي لأي دولة رهين بمدى تماسك أو هشاشة نخبتها السياسية والثقافة السياسية التي تنهجها في ترسيخ فكرة المواطنة والدولة الوطنية، ولذا فالمتأمل في ثقافة الشارع التركي ودينامية الفعل العمومي يدرك النظرة السلبية للشعب التركي لفكرة التدخل الخارجي مما يجعل النتيجة لأي تدخل خارجي مباشر تكون عكسية تماما، فما يشنه الاعلام الغربي من حملة تحريضية على سياسة الرئيس رجب طيب اردوغان تجعل المشهد يصبّ في صالحه لأن السياسة الخارجية أثرها محدود عادة في الانتخابات التركية، كما عرفت درجة الاستقطاب بين الحكومة والمعارضة بخصوص السياسة الخارجية تراجعا بعد تقارب أنقرة في علاقاتها الدبلوماسية مع عدد من الأطراف المحيطة(إسرائيل_ روسيا_الصين_ السعودية…إلخ).
وبالمقابل ظهر على المستوى الاعلامي الغربي أنه لم يكن محايدا ولا موضوعيا فقد تابعت العديد من وكالات الأنباء الانتخابات التركية بخلفيات ايديولوجية وثقافية في تحريض مباشر للتخلص من شخص اردوغان بأساليب مختلفة تؤطرها مخاوف جيواستراتيجية وحسابات ثقافية تجعل اوربا تميل الى نمط العلمانية بخلفية ايديولوجية واضحة، ومعلوم أن جهات أوربية ما تزال تنظر إلى أردوغان كما يرى دافيد فيليبس بأنه (حليف غير مؤكد: تركيا تحت دكتاتورية إردوغان) An Uncertain Ally: Turkey Under Erdogan’s Dictatorship .
وقد التقت العديد من المنابر الغربية في دعوات صريحة وبدون أية لمسة مجازية من قبيل عنوان بالايكنوميست البريطانية( أردوغان يجب أن يرحل) وبالبروفايل النمساوية (هل سنتخلص منه أخيرا)، فمن التخويف بالسلطوية والاستبداد والفوضى إلى الدعوة لإنقاذ الديمقراطية في تركيا.. تنوعت العبارات بين أكثر وأشهر وسائل الإعلام الغربية لكنها تكاد ترسم نفس الموقفالإيديولوجي من الانتخابات التركية، ومن رجب طيب أردوغان وحزبه.
وبذلك يمكن القول أن الإعلام الغربي أضاع حياده في متابعته لمعركة الوصول إلى القصر الرئاسي في تركيا بإعلاء صوت الأيديولوجية العلمانية على ما تقتضيه الحيادية والموضوعية في التغطية الإعلامية، و يبقى الرهان على الديمقراطية الداخلية بتركيا ومدى قدرة الارادة الشعبية في التعبير عن وصولها الى المشاركة في صناعة القرار السياسي بسلمية لتجسيد سيادتها وبناء مؤسسات تمثيلية تعبر عن طموحاتها وتحقق تطلعاتها لأن ما يهم قطاعا كبيرا من المواطنين الأتراك في النهاية هو توفير الخبز والصحة والتعليم والكرامة والحرية بغض النظر عن الزعامات الفردية.