التاريخ الجديد: مقدّمات نظريّة ومسارات عمليّة(علي الصالح مولى)_1_
“التاريخ الجديد”[1] (La nouvelle histoire) عنوان بارز عرفتْه فرنسا على نحو خاصّ في عشرينات القرن الماضي. وكانت مجلّة الحوليّات (Annales) الشهيرة منبرا رئيسا لأعلامه المؤسّسين[2]. ولا ريبَ في أنّ النعت “الجديد” ليس نعتا تعريفيّا بالمضمون، وإنّما هو تعريف بالمعارَضة لنعتٍ آخر هو “القديم” أو “التقليديّ” (التاريخ القديم، التاريخ التقليديّ). ويبدو أنّ صعوبات حقيقيّة منعتْ صياغة تعريف مضمونيّ. فهذا بيتر بوركي (Peter Burke) على سبيل المثال يتساءل “ما التاريخ الجديد؟”. ويجيب: “ليس من السهل وضع تعريف إيجابيّ لأنّ الحركة لم تجتمع سوى على ما تُعارضه فقط… سيكون من الصعب أنْ نُقدّم ما يتعدّى الوصف الغامض، الذي يُحدّد التاريخ الجديد بأنّه تاريخ شامل، أو تاريخ بنيويّ”[3].
و”التاريخ الجديد” علامة على ميلاد اتّجاه بحثيّ يعتمد المقاربة الأفقيّة لفهم التاريخ، وإنجاز كتابة تاريخيّة على أسس اجتماعيّة واقتصاديّة ونفسيّة. ولتوضيح الأمْرِ، أقام فيليب أرياس (Philippe Ariès) الفرق بين التاريخيْن فقال: “يهتمّ التاريخ التقليديّ تقريبا بصورة خاصّة بالأفراد، وبالفئات العليا من المجتمع، وبنخبه (الملوك ورجال الدولة وقوّاد الثورات) وبالوقائع (الحروب والثورات) وبالمؤسّسات (السياسيّة والاقتصاديّة والدينيّة) التي تهيمن عليها النخب. وعلى عكس ذلك، يهتمّ التاريخ الاجتماعيّ بالكتل الاجتماعيّة التي بقيت على هامش السلطة وأولئك الذين يقاسونها”[4].
ويكاد الاتّفاق يحصل بين الدارسين على أنّ أجيالا فرنسيّة ثلاثة امتزجتْ جهودها وتتابعت لإخراج الكتابة في “التاريخ الجديد” على نحوٍ صارتْ فيه تيّارا أكاديميّا أوّلا، وثقافيّا عامّا ثانيا على صعيد الجماعات العلميّة في العالَم. ولئن كان الفضْلُ يرجع بلا شكّ إلى لحظة الآباء المؤسّسين: مارك بلوخ (Marc Bloch) ولوسيان فيفر (Lucien Febvre)، فإنّ لحظة فرناند بروديل (Fernand Braudel) كانت ضروريّة ليصبح للتاريخ صوتٌ عالٍ في المدرسة التي أشرف على تأسيسها: “مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة” (EHESS). وسيَكون لهذه الأسماء: أندريه بورغيار (André Burguière) ومارك فرّو (Marc Ferro) وجاك لو غوف (Jacques Le Goff) وإيمانويل لي روا لادورين (Emmanuel Le Roy Ladurie) وجاك ريفال (Jacques Revel) شهرةٌ واسعة في سماء علم التاريخ، وتأثيرٌ كبير في تطوير مسارات الحوليّات وتجديدها.
كانت الحوليّات منصرفةً بكلّيتها تقريبا إلى شأنيْن مركزيّيْن: الشأن السوسيو- اقتصاديّ، قبْلَ أنْ تُوَسّعَ آفاقها من خلال التركيز على مباحث تفصيليّة مثل الطعام واللّباس وأدوات العيش المادّيّة المتنوّعة، والشأن الثقافيّ- الفوقيّ المعبَّر عنه بالتمثّلات (Représentations). ومِن رَحِمها شهدت الأنتروبولوجيا التاريخيّة ولادتَها الفعليّة مع أندريه بورغيار[5] خاصّة. ولكنّ النقلة النوعيّة التي كانت أشبه بالانقطاع عن موروث الحوليّات حدثتْ بافتراع مسلك بحثيّ متميّز تحت عنوان تاريخ الذهنيّات (L’histoire des mentalités) في بداية السبعينات. وقد عبّر بيار نورا (Pierre Nora) عن هذا الحدث المعرفيّ بجملة غير عادية: “إنّنا نعيش لحظة انفجار التاريخ”[6]. وبيار نورا هو الذي أدار سلسة “مكتبة تواريخ” (Bibliothèque des histoires) الصادرة عن دار غاليمار[7](Gallimard) . قال جملتَه تلك بمناسبة تقديمه هذه السلسة سنة 1971. وجاءت في سياق الاعتراف بالأزمة التي تحياها كتابات الحوليّات من جهة، والتبشير بأفق جديد للكتابة التاريخيّة ما بعد الحوليّة، إنْ صحّت العبارة، من جهة ثانية. وانفتحت الكتابة التاربخيّة دون تردّد على الحقول المجاورة لها، وأفادتْ من مناهجها ومنجزاتها النظريّة والتطبيقيّة، وصارت شيئا فشيئا مُلتقًى للاختصاصات المتعدّدة (multidisciplinarité). والتعبير المجازيّ الذي استخدمه مارك بلوخ يستوعب استيعابا ممتازا معنى الكتابة في الإنسان لا في الوقائع: “المؤرّخ الجيّد، هو ذاك الذي يُشْبِه وحش الأسطورة، الذي يعْرِفُ أنّه حيثُ توجَدُ رائحة اللّحم البشريّ توجَدُ طريدتُه”[8]
وبعيدا عن الخوض في التفاصيل التي لا يقتضيها هذا المدخل، يمْكِنْ الاكتفاء بالإشارة إلى أنّ التاريخ الجديد تصدّى لثلاث مهمّات أساسيّة: موضوعات الكتابة التاريخيّة، ومادّتها المصدريّة، وخطّها الزمنيّ. فالتاريخ الجديد مثلما عمل على أن تكون الشرائح الاجتماعيّة “المتروكة” و”المهملة” موضوعات أساسيّة، عمل على “اعتماد أنواع جديدة من المصادر (مثل دفاتر العدول والتاريخ الشفويّ والتراث المادّي)، وسلّط عليها الضوء من زوايا جديدة بنوعيّة التساؤلات المطروحة ونوعيّة القضايا المتناولة”[9]، وعمل أيضا على تجاوز الزمن القصير، زمن الأفراد والسلالات والحُكّام إلى الزمن الممتدّ، زمن الظاهرات الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة والاقتصاديّة “منذ فترة انبلاجها، مرورا بفترات الأوج إلى أن تذوى”[10]. وقد يَسّرتْ هذه التوجّهات السبيلَ لإخراج الكتابة التاريخيّة من حيّز “الحقيقة التاريخيّة الوثائقيّة” إلى حيز تركيب المشهد التاريخيّ وإنتاج المعرفة التاريخيّة الخاصّة به. فالوثيقة ليست إلاّ مقدّمة لإنتاج الخطاب[11].
ولم تكن الكتابة التاريخيّة العربيّة بمنأى عن التأثيرات التي أحدثتْها الحوليّات وما تفرّع عنها من روافد في مفهوم التاريخ ومقاصده وأدواته. قد يكون الانخراط في مسالك التاريخ الجديد متأخّرا نوعا ما، ومتركّزا في الفضاء البحثيّ المغاربيّ خاصّة[12]، لأسباب لعلّ أهمّها الصلات التاريخيّة القويّة بين المدرسة المغاربيّة ونظيرتها الفرنسيّة. وعرَف فضاءُ المؤرّخين بروز أسماء لامعة أثارتْ أسئلة التجديد وتحمّست لتدشين ما يمْكنُ أنْ نُسَمِّيَه بعصر التاريخ العربيّ الجديد. ومِنْ هؤلاء نَذْكُرُ هشام جعيط، فقد كانَ في أغلَبِ مَا كتَبَ، من المؤرّخين السبّاقين إلى تنبيه الباحثين العرب إلى “أنّ التاريخ… يتّجه اليوم بالأساس إلى البحث في المؤسّسات والبنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعتقدات الدينيّة والنشاطات الثقافيّة بالمعنى الحصريّ، من دون إهمال الديناميّة السياسيّة، ومن دون الإجحاف في التحليل التجريدي”[13]. ونذكُرُ أيضا عبدالله العروي الذي عبّر بوضوح عن ضرورة القيام بنقلة نوعيّة في كتابة التاريخ: “إنّ القارئ غير راض عمّا يجده اليوم في السوق من الكتب حول تاريخ المغرب. إذا رجع إلى المؤلّفات القديمة وجدها مليئة بالحروب والثورات والخرافات وأشعار المناسبات. إذا التفت إلى الرسائل الجامعيّة تاه في نظريّات مبهمة عن المنهج أو في تحليلات دقيقة حول منطقة أو أسرة أو تنظيمة اجتماعيّة. وإذا التجأ إلى كتب الأجانب رآها تزخر بأحكام استعماريّة تعكّر عليه صفو يومه. فيسخط ويقول: أين مؤرّخونا؟ لماذا لا يُعيدون كتابة تاريخنا؟”[14]. ونَذْكُرُ في السياق نفسه الحبيب الجنحاني الذي جَعَلَ التساؤل الحائر عن موقع المؤرّخ المغربي ممّا كُتِبَ ويُكتَبُ الذي ساقه عبدالله العروي سؤال إدانة للمؤرّخ العربيّ: “أين المناهج العربيّة المتّبعة اليوم مِن المدارس التاريخيّة الفرنسيّة التي تزعّمتْها وما تزال مجلّة “الحوليّات” غداة الحرب العالميّة الثانية وبرز في صفوفها مؤرّخون عالميّون أمثال مارك بلوك ولوسيان لوفيفر”[15]. ولم يكنْ تساؤل وجيه كوثراني خارج هذا الأفق، فالمعالجة النقديّة التي باشر بها الكتابة التاريخيّة العربيّة المعاصرة قادتْه إلى أنّ الاتّجاهات الإيديولوجيّة تسيطر على ملامح هذه الكتابة. ولكنّ ذلك لم يمنعْه من البحث عن الاستثناء فسأل عنه: “ألمْ يُنجِز البحث التاريخيّ العربيّ المعاصر أعمالا تجاوزت هذه السمات الإيديولوجيّة؟”[16].