المقالات

التاريخ الجديد: مقدّمات نظريّة ومسارات عمليّة(علي الصالح مولى)_2_

تُثير مِثلُ هذه التساؤلات بكثير من الوضوح والصراحة أزمةَ الكتابة التاريخيّة التقليديّة، وتُعْلنُ بطريقة غير مباشرة أنّ الوقتَ قد حانَ لتدشين المنعرج الأكاديميّ في الكتابة التاريخيّة العربيّة. ولكنْ، ينبغي الانتباه إلى أنّ هذه التساؤلات لم تُلْقَ دُفْعة واحدةً عن سابق تخطيط من أصحابها. إنّها ممتدّة في الزمان. فإذا كان سؤال العرويّ يعود إلى سنة 1970 (الطبعة الأولى من الكتاب)، فسؤال كوثراني قريب منّا، فهو يعود إلى سنة 2012 (الطبعة الأولى من الكتاب). إنّ المساحة التي تغطّيها هذه الأسئلة لا تبتعد كثيرا من نصف قرن. وهذا يعني أنّ أزمة الكتابة التاريخيّة العربيّة المعاصرة لم تَجِدْ طريقها إلى الحلّ. ولكنْ، كأنّه من الشطط الذهاب إلى أنْ لا شيءَ تغيّر طوال هذه المدّة. فنحنُ على يقين بأنّ تأثيرات مدرسة الحوليّات خاصّةً صارتْ ظاهرةً للعيان. قد لا نجادلُ في أنّ الأمر لم يَصِل بَعْدُ إلى طيّ صفحة الكتابة التقليديّة، ولكنْ ينبغي الاعترافُ بأنّ نزعةً جديدة في الكتابة التاريخيّة أضحتْ منذ فترةٍ حقيقةً أكاديميّةً في كثير من المؤسّسات الجامعيّة العربيّة تدريسا وإنتاجا[1]. لقد ظهرت في هذا الصدد تآليفُ مهمّة، رغم أنّها قليلة، في التاريخ الاقتصاديّ والاجتماعيّ[2]، وبدرجة أقلّ في تاريخ الذهنيّات. وامتدّتِ الكتابةُ بشيء من الحذر إلى قطاعات من المسكوت عنه والمهمل والمهمّش والمنسيّ في الكتابة التاريخيّة التقليديّة[3]. وشرعنا، منذ بضع سنوات، في قراءة بحوث متخصّصة في المأكل والملبس والموت والعامّة والعبيد وانتفاضات الفقراء…[4].               

                  والمتصفّح للمُنْجَز البحثيّ العربيّ يصل إلى استنتاج مفادُه أنّ التاريخ الإسلاميّ الوسيط عامّةً وتاريخَ الغرب الإسلاميّ خاصّةً استأثَرَا بأغلب الكمّ وأجود النوع ممّا كُتِبَ في الموضوع. وما يُلاحَظُ على هذا الاتّجاه البَحثيّ كذلك اشتغالُه على الغرب الإسلاميّ كتلةً متجانسة[5] أو كيانات متجاورة: المغرب الأدنى[6] والمغرب الأوسط[7] والمغرب الأقصى[8]. وقد يُفَسِّرُ  السببُ الذي أوْمَأْنا إليه آنِفا رُجحانَ كفّة الكتابة التاريخيّة الجديدة لصالح  الأكاديميّ المغاربيّ وفضائه التاريخيّ الحميم.

                  وليسَ ثمّة مَنْ تخصّص في هذه الكتابة التاريخيّة بِبُعديْها المغاربيّ والأكاديميّ وبَرَع فيها كما تخصّص فيها وبَرَعَ الدكتور إبراهيم القادري بوتشيش. وحين نُطلقُ هذا الحُكم فلسنا مُطْلِقيه باعتباره حُكمَ قيمةٍ. إنّنا نَعْلَمُ أنّ مؤرّخين عَرَبًا مُجِيدين بَرّزُوا في الكتابة التاريخيّة تنظيرا وتطبيقا، وألَّفوا فيها تآليفَ أضْحتْ بالتقادُم مَراجعَ للباحثين اللاّحقين. وما كتاب قسطنطين زريق “نحن والتاريخ” الذي ظهر  سنة 1959 وكانَ سبّاقا إلى خوض الأسئلة الناقدة والبانية والمستشرفة إلاّ قَبَسًا نَذْكُره في هذا المقام ونتمثّلُ به.

                  حين أطلقْنا هذا الحُكْمَ أطلقْناه ونحنُ نُفرّقُ بين الكتابات المُفْردَة التي تَظْهَر في هذه الجهة أو تلك من مساحات الجغرافيا الأكاديميّة العربيّة أو في هذه السنة أو تلك من عُمر الكتابة التاريخيّة الجديدة من ناحية، وبين اتّخاذ التاريخ الجديد سيرةً ينشأُ عليها الباحث ويستمرّ فيها حتّى تتلبّسَ به ويتلبّس بها. وهذا هو تماما شأنُ بوتشيش مع موضوعه التي صار شيئا فشيئا قضيّةً ومشروعا. هو قضيّة مِنْ جهة كونه تحدّيا ما فتئ بوتشيش يستجمع الوسائل والمعطيات لكَسْبِه، وهو مشروع من جهةِ كوْن الكتابة فيه تَدْخُل ضمْن رؤية متكاملة تسعى إلى إعادة النظر جُملةً وتفصيلا لا فقط في نوع الكتابة التاريخيّة التقليديّة، وإنّما أيضا في فلسفة الفعل التاريخيّ نفسه. ولا تترك المقاربات الغزيرة التي راكمَها بوتشيش حولَ تاريخ الغرب الإسلاميّ في العصر الوسيط ارتيابا في الحُكْم الذي ارتأيْنا.

                  والدكتور إبراهيم القادري بوتشيش غنيّ عن التعريف. فقد طَبّقتْ شُهْرتُه الأكاديميّة الآفاق العربيّة. ولذلك لسنا في حاجة إلى التوقّف، في هذا المدخل، عند سيرتِه بمعناها “التقني” المتداول. سنقترح، بديلا عن هذا، تقْديمَه عبْرَ إلماعات خاطفة إلى رؤيته للكتابة التاريخيّة، ومنهجيّاته التي تخيّر ، والمقاصد التي رَسَم. وفي هذا الإطار نشير  إلى أنّ كتاباتِه الغزيرةَ ينتظمها مشروعٌ متكامل لا يهدف، كما يتداعَى إلى ذهن القارئ المتعجّل، أو كما تُحيل عليه بعض عبارات بوتشيش المُتواضِعة نفسه، إلى ترميم التاريخ الوسيط أو سدّ الشغورات أو استكشاف الحلقات المفقودة منه. مشروع بوتشيش ينهض على فكرة إعادة كتابة التاريخ الوسيط للغرب الإسلاميّ، وما يقتضيه ذلك من قطيعة مع مجمل المعقوليّات والمسوّغات التي دفعت المؤرّخ التقليديّ إلى حَصْرِ كتابة التاريخ في تاريخ السلطة والقوّة والزعامة والمجد والبطولة.

                  ولم يكن استخدامُنا عبارةَ “المشروع” لوَسْم الاتّجاه البحثيّ الذي تتحرّك فيه كتابات بوتشيش من باب إلقاء الكلام على عواهنه. فالثابتُ عندنا وُجودُ إستراتيجيّة أكاديميّة ينتظم داخِلها هذا النوع من الأعمال. ويكفي، في هذا المقام، أنْ نسوقَ دليلا من أدلّة كثيرة لبيان الأمْر: نُشير إلى تأسيس “وحدة التكوين والبحث في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للغرب الإسلاميّ” منذ سنة 1999 بكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بمدينة مكناس المغربيّة تحت إدارة الدكتور بوتشيش. ومن المهامّ الجليلة التي كانت سببا في بعث هذه الوحدة، تكوينُ جيل من الباحثين الشبّان المتسلّحين بأدوات البحث العلميّ القادرة على إنتاج أطاريح جامعيّة في تاريخ الغرب الإسلاميّ الوسيط بعيدا عن المألوف والمتداول. وإذا نظرْنا في الفلسفة التي تقوم عليها تأكّد لنا أنّ الكتابة التاريخيّة الجديدة كتابةٌ في مشروع بحثيّ متكامل. هكذا قال عنها بوتشيش: “تأسّستْ توجيهاتنا الناظمة لإستراتيجيّة كتابة الأطاريح الجامعيّة في الوحدة المذكورة على السعي أيضا لاستحضار تاريخ الهامش والمهمّش، والكشف عن تاريخ المحكوم بدل التركيز على الحاكم، لذلك لا غرابةَ أنْ يشكّل هذا المنطلق عروة وثقى للتواصل مع النوازل الفقهيّة التي تتغيّر فيها الشخصيّات الفاعلة في التاريخ، وتتغيّر معها المعادلة المألوفة في المنتوج التاريخيّ للعصر الوسيط، فتتحوّل محاور الاهتمام من الراعي إلى الرعيّة، ومن رموز السلطة وعلية القوم إلى البسطاء والفلّاحين والحرفيّين والأجراء والرعاة، ومن النخبة العالمة إلى عالَم الأميّين والمنبوذين والعبيد والإماء، ومن هيمنة تاريخ الأكثريّة إلى حضور تاريخ الأقلّيات”[9]. ويَلفتُ نظرَنا في المعطيات التي عَرَضَها بوتشيش العملُ المَسْحيّ الذي قامتْ به هذه الأطاريح. فقد وجدناها تُزيح الستار عن الوجه المَخفيّ لمجتمع الغرب الإسلاميّ الوسيطيّ، وذلك باختراق مجال المحظورات. لقد بحثتْ في “الطابوهات كالبغاء ومعاقرة الخمر وممارسة السحر ولعن الرسول (ص)، ناهيك عن التعامل بالرشوة، وغيرها من السلوكات التي تُعتبَرُ مشينة في مخيال المجتمع، ولكنّها تشكّل جزءا من ثقافته”[10]. وبالتالي، أمكن لهذه الأطاريح “نَفْض الغبار عن كلّ ما كان يخضع لرقابة مجتمع محافظ يسعى فيه عقل الضمير الجمعيّ لقصّ كلّ نصّ يخالف عاداته وتقاليده”[11].

                  من شرائط الكتابة التاريخيّة المجدّدة إذنْ، أنْ تكون كتابةً مُصَحِّحَةً وعادلةً. ومَأْتَى العدل فيها أنْ يُعادَ النظرُ في هندستِها. كان مركَزُ الكتابة التقليديّة هو القمّة حيث السلطة بأنواعها. وأمّا مركزُ الكتابة الجديدة فقاعدة المجتمع العريضة. ومصطلح “التاريخ من أسفل” (L’histoire vue d’en bas) يؤدّي المعنى بدقّة. فهو يحيل على تصحيح الموقف المعرفيّ، وذلك بوَضْع الهرم على قاعدتِه بدَل قمّته. ففي “الأسفل” يجد المؤرّخُ المجتمعَ والاقتصادَ والثقافةَ والدين والسلام والحرب والجوع والثراء والحياة والموت والاستقامة والانحراف. وفي هذا الفضاء الأفقيّ الحيّ والممتدّ والمتداخل والمعقّد يكتسب المؤرّخ مهارة الفهم والتفسير والتأويل ويصبح، بما يَحُوزُ مِنْ خبرة، “صاحب نظر” وليس فقط “صاحب مهنة”[12].

                  وما ينبغي تسجيلُه ههنا هو أنّه لا أثَرَ في هذا الفضاء للمؤرّخ التقليديّ لأنّه مؤرّخ “القمّة”. وهو إذْ يكون كذلك، لا يكون تاريخُه إلاّ تاريخا صناعيّا. وحين يمتهنُ المؤرّخ “صناعة” التاريخ، لا يكون إلاّ مأجورا أو مُكرَها أو منتميا لِجهةٍ ما اجتماعيّة أو إيديولوجيّة أو سياسيّة. ولا عَجبَ حينئذ أنْ يُصابَ مُنجَزُهُ التاريخيّ بعاهتيْن: الانتقاء والسرد. فأمّا الانتقاء، فيَتْرُك خلف المؤرّخ فراغاتٍ، ويُوَلّد كتابةً تاريخيّة جزئيّة ومليئة بالمساحات البيضاء وقاصرة عن بناء معرفة تاريخيّة كاملة وشاملة. وأمّا السرد، فيُظهِرُ المؤرّخَ ناقلا للحقيقة الحدَثيّة (Réalité évènementielle)، بل ومُؤتمَنا عليها، ولكنّه منزوع الإرادة، فلا يتدخّل في نصّه الذي ينْشِئُه، ولا يَقْدر على ربط الأحداث التاريخيّة بسياقاتها وملابساتها[13]. وإذا التقى الانتقاء والسرد في ممارسة الكتابة التاريخيّة أَلْحَقا بالتاريخ فنّا، وبالمؤرَّخ له موضوعا، وبما أهمَله أيضا، ضررا كبيرا.

                  ومِنْ أجْل ذلك، فَضَّلْنا استخدامَ مصطلح القطيعة لِنَعْتِ علاقة المشروع البحثيّ الذي تتموقَع في قَلْبِه كتابات بوتشيش بما قَبْلَه من تقاليد بحثيّة. وبدا لنا أنّ مشروع القطيعة هذا ينهضُ على ركيزتيْن وأعمدةٍ ساندةٍ أخرى كثيرة. فأمّا الركيزةُ الأولى، فَمَدارُها على مستوَييْن من البحث: يهتمّ المستوى الأوّل بإخراج المسكوت عنه مِنْ مُهْملٍ ومَنْسيّ ومهمّش أحداثا وأفكارا وأفرادا وجماعات إلى دائرة الضوء باستخدام “بدائل خَبَريّة” لمواجهة الشحّ الذي تُبدِيه الإسطوغرافيّا العربيّة الوسيطيّة مِن ناحية، والحيْف الذي يَلوح في عدد غير قليل من الوثائق المسيحيّة/ اللاّتينيّة من جهة ثانية. ويهتمّ المستوى الثاني بالجانب التركيبيّ لصياغة قراءة تاريخيّة شموليّة. والقراءة تتجاوز السرد إلى الفهم والتفسير والتفكيك والعقلنة. وكلّ ذلك لا يكون إلاّ بتضافر علوم وتقنيات مُساعِدة. ولا ريبَ في أنّ علْميْ الاجتماع والنفس من أشدّ العلوم تداخلا مع علم التاريخ في مشروع بوتشيش. وأمّا الركيزة الثانية التي ينهض عليها هذا المشروع فالقيمة. والقيمة، في السياق الذي نقترحه في هذا الكتاب، هي على نحو من الأنحاء المقابل النوعيّ للسرد. فإذا كان السرد يجعل من المؤرّخ مجرّد ناقل “للحقيقة الحَدَثيّة”، فإنّ القيمة تجعل من المؤرّخ مسؤولا عمّا يكتب وعمّنْ يكتب.  وللمسؤوليّة ههنا بُعْدٌ أخلاقيّ إضافةً إلى بُعْدها الأكاديميّ المعروف.

                  وتَخَيّرْنا لعنوان الكتاب صياغةً تساعد على الإحساس بكثافة حضور محمولات المؤرّخ الجديد الدلاليّة. فقد صَرَفْنا النظر عن التسمية الاصطلاحيّة المستقرّة في الكتابات المختصّة إلى تسمية حافّة: “التاريخ المنسيّ” في النصف الأوّل من العنوان. واقترحْنا في النصف الثاني منه عبارة “التاريخ العادل” اقتضاءً واستتباعا. فالكتابة في العدل كتابةٌ في القيمة. وهي تحصيل موضوعيّ للكتابة العادلة. واستخدمْنا للدلالة على ما بينهما مِنْ مُناسَبَةٍ موضوعيّة وعِلّيَةٍ تركيبا يُعبّر عن الحركة بدايةً وغايةً: “مِنَ التاريخ المنسيّ إلى التاريخ العادل” لِنرْمز به إلى أمْريْن على الأقلّ: فأمّا الأمرُ الأوّل فهو أنّهُ يُفْتَرَضُ أنّ لكلّ كتابة غاية. وإذا كانت غاية الكتابة التقليديّة هي الحفظ بواسطة “الأرّاخ”، فإنّ غاية الكتابة الجديدة هي الكشْف والإظهار وتأليف سرديّة العدل بواسطة حضور المؤرّخ الجديد (مؤرّخ المعنى والقيمة) في تركيب عناصر الكتابة التاريخيّة الأفقيّة والشموليّة. ويُهِمُّنا أنْ نوضّح أمرا  وإنْ باختزال شديد، وهو أنّنا نقصد بالعدل في الكتابة التاريخيّة الجديدة ضمانَ استحضار جميع العناصر المساهمة في صناعة التاريخ وتوجيهه. فسياسة إخفاء نشاط الحِرَفيّين[14] أو تغييب نشاط المرأة الاقتصاديّ مثلا لمْ تُسئْ إلى هذه الفئات إساءة أخلاقيّة[15] غيرَ أنّها حَرَمتْ الباحث من المعطيات الضروريّة لفهم حركة التاريخ وتفسيره بموضوعيّة.

                  لا جدالَ في أنّ توجيه الاهتمام إلى هذه القضايا يَفرض على المؤرّخ ألاّ يكون مؤرّخا تقليديّا. فهذه الأسئلة مستحدثةٌ، وتَغْلِبُ عليها نزعة مادّيّة تُعْنَى بنمط الإنتاج، وقُوَى الإنتاج،وعلاقات البنى التحتيّة بالبنى الفوقيّة. وهي في جزء منها، كما نعلم، نزعة ماركسيّة أو دائرة في فَلكِها. وهي أيضا في جزء آخَر منها نزعة سوسيولوجيّة يشتغل أصحابُها بأثَر الاقتصاد في العلاقات الاجتماعيّة. وهي، في مستوى ثالث، ذاتُ صبغة نفسيّة لأنّها تَرْصُدُ أثَر الاختيارات الاقتصاديّة والعلاقات الاجتماعيّة على التكوين النفسيّ الجمعيّ وانعكاساتها.

                  من التجارب الفرديّة التي استوقفتْنا وهي تنقُل سيرة صاحبها مع “التاريخ الجديد” ما ذكره أستاذ التاريخ في الجامعة اللّبنانيّة خالد مصطفى مرعب في مقدّمة القسم الأوّل من كتابه “التاريخ الجديد: الذهنيّات والثقافة الشعبيّة”[16]. قال عن نفسه: “أُسنِد إليّ تدريس مادّة “تاريخ الذهنيّات” من ضمن المسار الاقتصاديّ والاجتماعيّ. وكعادتي قبلتُ التحدّي لأنّني علمتُ أنّ هذه المادّة جديدة وغير مطروحة عربيّا وتكاد تكون مجهولة… وهكذا خضت المضمار وإذا بي بعد طول عناء ومعاناة أقف على علم إنسانيّ تاريخيّ جديد عميق وغزير ومشوّق. إنّه التاريخ الجديد. وهو علم إنسانيّ بارز في أوروبّا والغرب ككلّ، أطاح بمفاهيم الدراسات التاريخيّة التقليديّة القديمة وغيّر قواعد التاريخ وأضاف من الأفكار والتوجّهات والدراسات ما يجعل التاريخ يقف على قمّة الدراسات الإنسانيّة ويعطيه أبعادا واسعة زاخرة بالمعاني والأفكار والفلسفات والقواعد العلميّة المستمدّة من كلّ العلوم الإنسانيّة تقريبا بدءا بعلم النفس وعلم الاجتماع والاقتصاد والسياسة والجغرافيا.. انتهاء بعلوم اللّغة والدراسات الفلسفيّة والفكريّة المتعدّدة. نعم إنّ التاريخ الجديد يفتح من الآفاق ما يجعلنا نعيد النظر بتاريخنا ويرتّب مسؤوليّات جمّة على العاملين في مجال التاريخ والدراسات الإنسانيّة ككلّ”[17]. أحببنا أن نورد هذه الشهادة، على طولها، لأنّها تقدّم على نحو مجمل الحالة الأكاديميّة العربيّة في مباحث التاريخ مقارنة بنظيرتها في أوروبّا، كما تُحَمّل المؤرّخين العرب مسؤوليّة تطوير البحث التاريخيّ في ضوء المنجزات المتحقّقة في العالم. وأحببنا أن نشير كذلك إلى أنّ نزعة المبالغة الطاغية على رسم سيرة صاحب الكتاب الرياديّة تحتاج إلى تعديل. فالكاتب اعتبر نفسه رائد البحث في الذهنيّات العربيّة منذ أنْ تعهّد بتدريس تاريخها بمناسبة اعتماد نظام “إمد” في الجامعة اللّبنانيّة. ونحن نعلم أنّ تاريخ هذا الاعتماد غيرُ بعيد. ونعلم أنّ بوتشيش نشر في بيروت بالذات منذ سنة 1993 كتابا في الموضوع عنوانه: “المغرب والأندلس في عصر المرابطين: المجتمع- الذهنيّات- الأولياء)[18]. ولم يَمض على صدور هذا الكتاب أكثر من عام حتّى قرأنا له في المسألة نفسها كتابا عنوانه: “تاريخ الغرب الإسلامي: قراءات جديدة في بعض قضايا المجتمع والحضارة”[19]. ثمّ أضاف سنة 1997 عملا ثالثا يغوص في قضايا الإنسان والذهنيّات عنوانه “مباحث في التاريخ الاجتماعيّ”[20]. لذلك وجب التنبيه إلى أنّ بوتشيش يُعدّ بحقّ مِنْ روّاد تاريخ الذهنيّات في السياق المعرفيّ العربيّ. وفي إطار هذا التوضيح، يَحْسُنُ أنْ نشير كذلك إلى أنّ عزالدين أحمد موسي أعدّ في الجامعة اللّبنانيّة ببيروت أطروحة دكتورا سنة 1975 مَوسومة بـ: “النشاط الاقتصاديّ في المغرب الإسلاميّ في القرن السادس/ الثاني عشر”[21] تحت إشراف المؤرخ العلاّمة نقولا زيادة. ويبدو أنّها من الدراسات الأكاديميّة العربيّة الرائدة في حقل التاريخ الاقتصاديّ والاجتماعيّ. فصاحبها يُعلنُ منذ المقدّمة أنّه يسلك طريقا في البحث يُخالف به الدراسات السائدة. وحُجّتُه أنّ المقاربة الاقتصاديّة كفيلة بفهم العلاقات الاجتماعيّة والتحولاّت السياسيّة[22]. وهو في الوقت نفسه لا يُقرّ للعامل الاقتصاديّ منفردا بالقدرة المطلقة على التأثير في جميع مناحي الحياة: “هذا لا يعني أنّ الاقتصاد هو محرّك ذلك التاريخ، لكنّه أحد العوامل الفاعلة فيه، ولا ينبغي إهمال دوره ولا التقليل من شأنه”[23].

                  وفي هذا السياق من الوعي بأهميّة خوض مغامرة الكتابة التاريخيّة المُجَدِّدَةِ نُحِتَتْ سيرة بوتشيش. ونستخدِم عبارة “السيرة” عَمْدًا. فقد نَمَتْ شخصيّتُه الأكاديميّة داخل هذا السياق. وعلامات الانخراط في هذا المسار المتواصل لا تظهر فقط في كتاباته التنظيريّة التي تُعتَبَرُ أطروحة دكتورا الدولة التي أنجزها تحت عنوان: “الحياة الاجتماعيّة في المغرب والأندلس خلال عصر المرابطين” سَنامَها الأوفَى[24]، أو في أعماله التطبيقيّة الكثيرة والمتنوّعة.  إنّها تظهر أيضا في مقارباته النقديّة للكتابات التي لم يُراهِنْ فيها أصحابُها على العامِليْن الاجتماعيّ والاقتصاديّ لتفسير التحوّلات التاريخيّة. فَمِنْ ذلك على سبيل المثال أنّه أثناء مناقَشتِه كثيرا من الأفكار التي طرحَها محمّد الطوزي[25] في كتابه “المَلَكيّة والإسلام السياسيّ في المغرب”[26] عارض معارضةً قويّة الميل إلى التفسير الأحاديّ للظاهرات السياسيّة الكبرى وإهمال العوامل الفعليّة. فابن تومرت، على سبيل المثال، أطاح بالمرابطين عبْرَ آليّة تغيير المنكر كما رأى ذلك الطوزي، لكنّ بوتشيش المؤمن بأهميّة المقاربة الاجتماعيّة والاقتصاديّة ذهبَ أنّ الذي ساق الطوزي إلى هذه النتيجة هو قيامه “بتحليل غير معمّق”. فالتحولاّت الكبرى لا تَحْدُثُ دون أسباب عميقة ونوعيّة: “إنّ الإطاحة بالنظام المرابطيّ ترجع إلى عوامل اقتصاديّة واجتماعيّة وأسباب أخرى عميقة”[27]. ويظلّ الانتصار للفواعل الاجتماعيّة والاقتصاديّة قائما لتفسير مستجدّات التاريخ المعاصر أيضا. فتركيز الطوزي في دراستِه مؤسّسةَ المَلَكيّة والإسلام السياسيّ على مسألة الرموز من منظور ديني رآه بوتشيش عاجزا عن فهم الحالة المغربيّة وخصوصيّتها. لذلك دعا إلى عدم “إقصاء تغيّر البنيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والذهنيّة”[28] عند تناول مثل هذه القضايا، فهي “مفتاح تتبّع وتحليل مؤسّسة المَلَكيّة والإسلام السياسيّ”[29].

                  أخيرا، من المهمّ أنْ نؤكّد في نهاية هذا المدخَل أنّ مشروع الكتابة العادلة لا يرمي في المقام الأوّل إلى إنقاذ الفئات والأنشطة والعلاقات التي بَخَسَها المؤرّخ التقليديّ مَنزلتَها وحَرَمها حقّها في أنْ يكون لها ذِكْرٌ كما لفئات المجتمع العُليا ذِكْرٌ. إنّ المؤرّخ الجديد وهو يُوليَ الاهتمام إليها ويبحث عنها في الوثائق “غير التاريخيّة”، فإنّما يَفعلُ ذلك مِنْ أجل أنْ تتساوى الحظوظ أمام كلّ مَنْ كان له دور في التاريخ، ومِنْ أجلْ أنْ تَكونَ كتابة المؤرّخ كتابة شاملة لا تستثني ولا تُقصي ولا تُهْمل، ومن أجل أن تكون عمليّة بناء المشهد التاريخيّ موضوعيّة.


[1] يُمْكنُ رَصْدُ مظاهر التأثّر بالحوليّات الفرنسيّة واتّجاهات التاريخ الجديد حتّى في اختيار المسائل الفرعيّة والدقيقة. ومِن الأمثلة التي نستطيع استحضارها كتاب الباحث التونسيّ محمّد العادل لطيف: الخوف ببلاد المغرب في العصر الوسيط. وهو كتاب في تاريخ الذهنيّات أساسا. ولا نظنّ أنّ صاحبَه لم يطّلع على ما ألّفه رائدا التاريخ الجديد: جورج لوفافر بكتابه الخوف الكبير (La grande peur de 1789, Paris: 1932) ، ولوسيان فيفر بمقالته الوجيزة والمكثّفة “في الحاجة إلى الأمن” (Pour l’histoire d’un sentiment: le besoin de sécurité, Annales, vol. 11, n° 2, 1956, p: 244- 247)، أو أيضا جميع ما كتبه جون ديلومو (Jean Delumaux) وخاصّة كتابه العميق الخوف في الغرب  (La peur en Occident : XIV-XVIII siècles, Paris: 1978).

[2]  نذكر على سبيل المثال كتابات قسطنطين زريق وطيّب تيزيني وحسين مروّة وعبدالله العروي.

[3]  يقدّم محمّد العادل لطبف بعض التفسيرات للحذر الذي يُبديه الباحثون العرب إزاء الكتابة في المسكوت عنه. ورغم ما في كلامه من حدّة مبالغ فيها أحيانا، فإنّ أغلب ما عَرَضُه مهمّ. راجع الحوار الذي أجرتْه معه مؤسّسة “مؤمنون بلا حدود” في موقعها الإلكترونيّ تحت عنوان: “محمّد العادل لطيف: حول كتاب “الخوف ببلاد المغرب في العصر الوسيط””، 05 أغسطس 2017.

[4]  نذكر على سبيل المثال كتابات محمود إسماعيل ومحمّد المنوني ومحمّد الطاهر المنصوري.

[5]  اُنظر مثلا: عزالدين عمر أحمد موسى، دراسات في تاريخ المغرب الإسلاميّ، (بيروت- القاهرة: دار الشروق: 1983).

[6]  اُنظُرْ مثلا:

Hichem Djait (coll.), Histoire générale de la Tunisie, Tome II, Le Moyen- Age (27- 982 H./ 647- 1574), (Tunis: Sud Editions, 2008).

[7] اُنظُرْ مثلا: صالح بن قربة (مشرفا)، تاريخ الجزائر في العصر الوسيط من خلال المصادر، (الجزائر: منشورات المركز الوطنيّ للدراسات والبحث في الحركة الوطنيّة وثورة أوّل نوفمبر 1954، 2007).

[8]  اُنظُرْ مثلا : محماد لطيف، الزواج والأسرة في المغرب الأقصى خلال العصر الوسيط، (أكادير: طباعة ونشر سوس، 2015).

[9]  بوتشيش، “النوازل الفقهيّة في الأطروحات الجامعيّة: التوجّهات، الإضافات المعرفيّة والإشكالات المنهجيّة”، عصور الجديدة، عدد 16- 17، شتاء- ربيع 2014- 2015، ص: 46- 47.

[10]  نفسه، ص: 47.

[11]  نفسه، ص: 47. ومِنْ باب الاستشهاد فقط نذكر على سبيل المثال أطروحة الدكتورا التي أنجزها الباحث سعيد بنحمادة: “الماء والإنسان في الأندلس خلال القرنيْن 7 و8 هـ/ 13 و14 م: إسهام في دراسة المجال والمجتمع والذهنيّات” تحت إشراف الدكتور بوتشيش، وفي إطار نشاط وحدة التكوين والبحث. وقد نَشَرت دار الطليعة ببيروت هذه الأطروحة سنة 2007.

[12]  “صاحب النظر” و”صاحب الخبرة” عبارتان استخدمهما العروي للتفريق بين المؤرّخ التقليديّ والمؤرّخ الجديد. اُنظر كتابه مفهوم التاريخ، (الدار البيضاء- بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، 2005)، ص: 43- 47.

[13]  أطلق العروي على هذا النوع من المؤرّخين عبارة “أرّاخ”. يقول عنه: “يحافظ ولا يلاحظ، يحفظ ولا يعي، فهو فعلا موضوع، مجرّد آلة وواسطة: الماضي حاضر فيه وبه وهو غائب لا يسمع ولا يعي. يقوم بوظيف الحفظ والاحتفاظ ولا يتعدّاه، فيكون مُخبِرا بدون خبرة”، مفهوم التاريخ، مرجع سابق، ص: 44.

[14]  ننصح بالاطّلاع على دراسة كريم الخزاعي وحارث عبدالله: “أنواع الحرف في بلاد المغرب من خلال كتاب المعيار المعرب للونشريسي المتوفّى عام 941 هـ”، مجلّة كلّيّة التربية الأساسيّة للعلوم التربويّة والإنسانيّة، جامعة بابل، عدد 22، آب 2015، ص: 412- 425.

[15]  قد تكون الإساءة الأخلاقيّة مدخلا إلى دراسة ذهنيّة مجتمع من المجتمعات وذلك بالكشف عن الضوابط “الأخلاقيّة” التي تتحكّم في رؤاه وعلاقاته وأحكامه. والمثال الذي نسوقه في هذا المضمار نقتطعه من رسالة ابن عبدون. قال عن المرأة التي تمارس نشاطا اقتصاديّا: “لا يخالط النساء في البيع والشراء إلاّ ثقة خَيِّرٌ قد عَرَف الناس خيره وأمانته ويرقب على ذلك أهل الصنائع. قَطْعُ الطرّازات عن السوق واجب، فإنّما هي قحاب”، رسالة ابن عبدون، حقّقها وقدّم لها ونشرها ليفي بروفنسال (Levi- Provençal) في المجلّة الآسيويّة  (نسخة إلكترونيّة متوفّرة)

Lévi- Provençal, «Un document sur la vie urbaine et les corps de métiers à Séville au début du XII siècle: Le Traité d’Ibn Abdun», Journal asiatique, avril- juin, 1934, p: 237.

[16]  خالد مصطفى مرعب، التاريخ الجديد: الذهنيّات والثقافة الشعبيّة،  (بيروت: دار النهضة العربيّة، 2012).

[17]  نفسه، ص: 16.

[18]  نُشِرَ الكتاب في دار الطليعة، بيروت، 1993. وأُعيد نشرُه في طبعة ثانية في المغرب، منشورات الجمعيّة المغربيّة للدراسات الأندلسيّة، 2004.

[19]  نُشِرَ في دار الطليعة، بيروت، 1994.

[20]  نُشِرَ في بيروت، دار الطليعة.

[21]  نُشرت أوّل مرّة في دار الشروق ببيروت تحت عنوان النشاط الاقتصاديّ في الغرب الإسلاميّ خلال القرن السادس الهجريّ سنة 1983، ونُشرت بعد ذلك في دار الغرب الإسلاميّ ببيروت سنة 2003.

[22]  قال: “لمّا كان الدارسون المحدثون المهتمّون بهذه الفترة التاريخيّة قد ركّزوا عنايتهم على دراسة الظاهرة السياسيّة، وأهملوا الجانب الاقتصاديّ ودوره في الأحداث السياسة… وجدت من المفيد بحث النشاط الاقتصاديّ ودوره في توجيه سياسة القرن السادس من ناحية، وتأثير تلك السياسة على النشاط الاقتصاديّ من ناحية أخرى، لا سيما في منتصف القرن السادس (وهو فترة الانتقال من المرابطين إلى الموحّدين)، هادفا من ذلك إلى فهم أعمق للمدلول الاجتماعيّ”، النشاط الاقتصادي، (بيروت: دار الغرب الإسلاميّ، 1983)، ص: 7.

[23]  نفسه، ص: 7.

[24]  جدير بالتنويه ههنا أنّ الدكتور بوتشيش أنجز سنة 1984 رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ الإسلاميّ عنوانها: أثر الإقطاع في تاريخ الأندلس السياسيّ من منتصف القرن الثالث الهجريّ حتّى ظهور الخلافة (250هـ، 316هـ). ونُشرتْ في الرباط بمطابع منشورات عكاظ سنة 1992. وهذا يعني أنّ الدكتور بوتشيش انصرف مبكّرا إلى المسألة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في الغرب الإسلاميّ. ويعنينا في هذا المقام أنْ ننقل شهادةَ أستاذه المشرف الدكتور محمود إسماعيل عبد الرازق ذي الصيت العلميّ الواسع الواردة في تقديم الرسالة: “إنّ هذا الإنجاز يُعَدُّ باكورة أطروحات التاريخ الإسلاميّ بكلّيّة الآداب بفاس تحت إشرافي، وهو في ذات الوقت قمين بأن يتبوّأ مكانة الريادة لِما تلاه من أعمال… إذْ تصدّى للتاريخ الاقتصاديّ الأندلسيّ في فترة غامضة من تاريخ الأندلس، فضلا عن تجاوزه طور التاريخ إلى مرحلة التفسير والتنظير في براعة واقتدار ودون اعتساف، وهو أمر لم يَجرؤ على اقتحامه كبار المتخصّصين”، ص: 9.

[25]  محمّد الطوزي من باحثي المغرب المرموقين في الحقل السياسيّ والدينيّ. له كتابات غزيرة بالفرنسيّة خاصّة.

[26]  محمّد الطوزي، المَلَكيّة والإسلام السياسيّ في المغرب، (الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2001).

[27]  بوتشيش، حلقات مفقودة من تاريخ الحضارة في الغرب الإسلاميّ، (بيروت: دار الطليعة، 2006)، ص: 187.

[28]  نفسه، ص: 188.

[29]  نفسه، ص: 188.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق