التاريخ الجديد: مقدّمات نظريّة ومسارات عمليّة(علي الصالح مولى)_3_
حلقات مفقودة أم تاريخ منسيّ؟
المؤرّخ العربيّ المعاصر الواقف على أعتاب الكتابة التاريخيّة الجديدة كثيرُ الشكوى. يكاد لا ينسى تذكيرَ قارئه بتبرّمُه ممّا يعانيه كلّما عَنّ له أنْ يُمسك القلم ويَكتُب في التاريخ. ونظنّ أنّه محقّ في ذلك. فالناظر في تَرِكَةِ المؤرّخ التقليدي لا يمْلك إلاّ أنْ يُصْدَمَ من سياسته في تدوين الأحداث. فقد وَصَلَنا منه نسيج تاريخيّ هو أَشبَهُ بالأشتات المتناثرة منه إلى بناءٍ مُحْكمِ الأركان. وصلَنا مليئا بالحُفر والبياض لكَثْرة ما أسقطه ذاك المؤرّخ من الوقائع والفئات. وجاءنا طافحا بأمجاد الأسياد والدول والسلالات والزعامات.
ولمّا كانت الكتابة المُجدِّدةُ تستهدفُ المُهْمَلُ، وتُعيد النظر في أدواره، وتَعمل على تنويع المداخل لفهم التاريخ وتفسير اتّجاهاته كانَت إستراتيجيا “التحفير” و”التبييض” مِن بين أبرز التحدّيات التي تعترض طريق المؤرّخ الجديد. فكيف تعامل معها؟ ما هي البدائل التي عوّل عليها للترميم أو إعادة البناء؟ للإجابة عن هذيْن السؤاليْن اعتمد بوتشيش مساريْن متعاضديْن: دَرَس أوّلا خطورة “البياض” وانعكاساته على التاريخ. وتركّز عَمَله على الوثيقة التاريخيّة. وعالج في مرحلة ثانية هذا الخلل باقتراح الوثيقة الدفينة بديلا. وحاولنا أنْ نتتبّعَ بوتشيش في المرحلتيْن قاصدين من وراء ذلك تَجميعَ العناصر التقنية مشكلاتٍ وحلولا لصياغة أبرز المبادئ التأسيسيّة التي انبنى عليها مشروعه في الكتابة التاريخيّة البديلة.
عوائق تقنيّة: تأمّلات في التحدّيات
تَقْضي الكتابةُ في التاريخ من أسفل بتحويل نَظرِ المؤرّخ من الوثيقة الرسميّة التي دَوّنت السيَرَ المرغوبَ فيها ضِمن تَصوُّر وظيفيّ ونفعيّ ساد الاعتقادُ في صَوابِه السياسيّ والعقائديّ والسلاليّ إلى نوعٍ آخَر مِنَ الوثائق التي حَفِظَتْ ما لمْ تهتمَّ به الكتابة التقليديّة أو رغبت في إتلافه. ولمْ يكنْ الظفر بهذه المادّة التاريخيّة هيّنا لأسباب سيقع تفصيلها في الإبّان. لذلك، لا مُبالغَةَ إنْ قُلْنا إنّ أوّل مُشكلة ستصطدم بها الكتابة الجديدة هي مشكلة وثائقيّة بامتياز. وعلى هذا الأساس، جَعَلْناها في صدارة هذا الفصل. فكيف رأى بوتشيش هذا الأمر؟ وكيف عالجَه؟
نَسُوقُ في البداية ملاحظةً مفادُها أنّنا وَجدْنا بوتشيش في جميع ما كتبَ مُعَنًّى بأزمة الوثيقة التاريخيّة في الغرب الإسلاميّ في العصر الوسيط. ولا نَذْكُر أنّه طَرَقَ مسألة لم يُمهّدْ لها بشكواه من نُدرة الوثيقة الخاصّة بالتاريخ من أسفل، أو انعدامها تماما. ومِنْ فَرْطِ تواتر هذه الشكوى أنّ القارئ يُخَيَّلُ إليه كما لو أنّ بوتشيش يُرحِّلُ نَصَّها من دراسة إلى أخرى دون أدنى تغيير حتّى في صياغتها. والحقيقة أنّ الأمر ليس كذلك، فما يلوحُ كأنّه التَكرارُ يتنزّلُ في إطار نزعة التأسيس. وليس أعْسَرَ على المؤسِّس أنْ ينطلق من فراغ. وفي هذا الصدد نقترح البدء بالتساؤل عنْ الخلل الحاصل في الأسطوغرافيا العربيّة الخاصّة بالغرب الإسلاميّ الوسيطيّ والتقاط الأجوبة المتاحة. فهذا مدخل منهجيّ ومعرفيّ ضروريّ قبل النظر في فنّ الكتابة المُجَدِّدَة وأدواتها وأغراضها.
يُحيلُ بوتشيش في إطار البحث عن أسباب ضمور الوثائق التاريخيّة الخاصّة بـ”التاريخ من أسفل” على رأي عبدالله العروي. وهو رأي قادر على تقديم جزء من الإجابة. وفيه قسْمان: في القسم الأوّل يذهب العروي إلى أنّ تاريخ الكتابة التاريخيّة عرف ولادتَه في ظلّ الدولة العبّاسيّة وتحت مظلّة إيديولوجيّتها المهيمنة القائمة على فكرة الوحدة وتأمين شروط استمرار الجماعة. فكان العمل على “سنّ سياسة تعايش سلميّ بين الجماعات المتصارعة المتمثّلة في الفرق الإسلاميّة، وذلك بامتصاصها وإدماجها تدريجيّا في حضيرة الدولة”[1]. وأفرزت هذه الإيديولوجيا نمطا من “المؤرّخين الرسميّين” المتماهين مع السياسات المرسومة. كان المؤرّخ الرسميّ “يحرص كلّ الحرص على تماسك وحدة الأمّة وتغطية التناقضات الاجتماعيّة، ولذلك نجده يتّخذ معيارا لقبول أقوال الرواة، وهو عدم الغلوّ في الآراء والأحكام”[2]. وفي القسم الثاني يُرجعُ العروي بعضا من أسباب غياب الكتابة في تاريخ العوامّ إلى طغيان صورة البطل التاريخيّ في مخيال المؤرّخ المغربيّ، “فمؤلّفو العصر العصير اعتمدوا التفسير الفردانيّ لوقائع التاريخ اعتقادا منهم أنّ الفرد هو صانع التاريخ”[3].
وتوجد، بطبيعة الحال، تفسيرات أخرى لعدم اهتمام المؤرّخ التقليديّ بالعامّة. وقد يكون ضروريّا الاستعانةُ بالتفسير الذي اقترحه محمود إسماعيل الداعي إلى وجوب الاهتمام بانتماء المؤرّخ الطبقيّ والإيديولوجيّ. ومحمود إسماعيل واحدٌ من لفيفٍ من الباحثين العرب الذين عملوا على تطبيق مُخْرجات الفلسفة المادّيّة في نسختها الماركسيّة على التراث الإسلاميّ. ويُشكّل هذا اللّفيف، رغم الصعوبات الجمّة التي واجهها، نواةَ مشروع التاريخ السوسيولوجيّ العربيّ[4]. وحين عَمَد، في نقد أسس التاريخ التقليديّ، إلى دراسة انتماء المؤرّخ الطبقيّ أوّلا، فلأنّ ذلك كفيل بتسليط الضوء على إنتاجه لاحقا: “سنحاول دراسة أوضاع هؤلاء المؤرّخين الطبقيّة وانتماءاتهم المذهبيّة كمدخل لدراسة أعمالهم بما انطوت عليه من مناهج ونظرات تاريخيّة”[5]. وكانت له استنتاجات لافتة للنظر حول المؤرّخ المغربيّ في العصر الوسيط. فهذا المؤرّخ السنّيّ المالكيّ، رغم الحيويّة التي عرفها المذهب المالكيّ نتيجة اقترابه من حياة الناس وشواغلهم، ظلّ، حَسَبَ رأيه، محافظا على المقاربّة النصّيّة ولصيقا بالأثَر بسبب انتمائه الطبقيّ والإيديولوجيّ. ولمّ يشذّ عن هذه القاعدة سوى نفر قليل من الذين تأثّروا بكتابات المشارقة[6]. ولكنْ، هل كانت كتابات المشارقة نزّاعةً حقّا إلى المقاربة الاجتماعيّة- الاقتصاديّة؟ وهل كانت بعيدة عن مدار السلطة قريبة من حياة الناس العاديّة؟ ليس من مقاصد هذا الفصل الدخول في جدل مشرقيّ- مغربيّ متوارث إلاّ أنّه من المفيد الإشارة إلى أنّ هذه “العادة” الأكاديميّة تحتاج إلى تفتيت أو تنسيب كبير.
ولكنْ، من الإنصاف أنْ نَذْكُرَ أنّ بوتشيش لم يَحصر أزمة الوثائق التاريخيّة في سياسة التدوين السلطانيّة المتّبَعة فقط. كانت له تنبيهات دقيقة على ما ينجرّ عن عدم كتابة “المهمّشين” تاريخَهم بأنفسهم: “إنّ للعوامّ ذاتهم مسؤوليّةً في هذا المجال، ذلك أنّهم لم يُخلّفوا وثائق تاريخيّة تعبّر عن مواقفهم. فزعماء الثورات الاجتماعيّة والتنظيمات السرّيّة، لم يتركوا وثائق تلقي الضوء على مبادئهم وأهدافهم… إنّ أحدا من هؤلاء لم يكتب- فيما نعلم أو من خلال ما وصل إلينا على الأقلّ- عن أفكاره وأهدافه ومراميه ومطالب أنصاره عبر وثائق أو سجلاّت يُمْكن للباحث في تاريخ العوام أن يرجع إليها”[7]. وحين لا ينهض العوامّ بكتابة تاريخهم، لن تكون النتائج إلاّ وخيمة: إمّا أنْ يُهْمَلوا وتُسقِطهم أقلامُ مؤرّخي السلطة، أوْ أنْ يُظلَموا إنْ نالهم حظّ من التدوين. والحقيقة أنّ بوتشيش يثير بهذه التنبيهات قضيّة بالغة التعقيد والأهميّة في آن. فالتاريخ إنْ لم يكن متعدّد الأصوات، ومتشابك الأقلام والروايات، لا يُمكن أن يكون تاريخا أفقيّا. فالمؤرّخ الواحد لا يُنتج إلاّ تاريخا واحدا، وهو التاريخ العموديّ. ومِنْ مِثل هذه التنبيهات نفهم بعض الأبعاد الكامنة وراء الدعوة إلى تأسيس تاريخ الذهنيّات وتاريخ الهامشيّين. إنّ ما أسميْناه “التاريخ العادل” هو تحديدا ما به تُعيد الأكاديميا الحقّ إلى المنسيّين، وما به يكون التاريخ تاريخا عُموميّا.
تَفْرِضُ الكتابةُ التاريخيّة الجديدة على المؤرّخ الجديد أنْ يكون أمام عائق موضوعيّ وتحدٍّ كبير في الوقت نفسه وهو غياب (أو ندرة) الوثائق التاريخيّة المخصّصة للناس العاديّين ولأنماط عيشهم وعلاقاتهم ومخاطباتهم وفنونهم وأفراحهم وأحزانهم وفقرهم وغناهم… وقد ركّز بوتشيش تفسيرَه غيابَ هذا النوع من الوثائق بإستراتيجيّة الكتابة التاريخيّة السلطانيّة المتّبعة كما تَقَدَّم البيانُ. وهو تفسير معقول. ولكنّ الأهمّ من التفسير هو البحث عن الخطط التي تملأ الفراغات الناتجة عن الكتابة السلطانيّة. فدُون التوصّل إلى مادّة خَبَريّة تغطّي أنشطة الناس العاديّين تبقى رسالة المؤرّخ الجديد مجرّد أمنية. فما الذي قام به بوتشيش في هذا المضمار؟
يَعتبِر بوتشيش أنّ إقحام العامل الاجتماعيّ ضمن مستلزمات البحث التاريخيّ الشامل أمر لا غنًى عنه بالنسبة إلى المؤرّخ الجديد لسببيْن على الأقلّ: توفير مُوجِبات الكتابة التاريخيّة غير الحَدَثيّة، وتخليص هذه الكتابة من سطوة المؤرّخ السلطانيّ: “لا سبيل لإنكار موقع التاريخ الاجتماعيّ في أيّ دراسة تطمح إلى الإلمام بالعناصر الفاعلة في حركة التاريخ وريادته في تأسيس تاريخ شموليّ يتجاوز مستوى التاريخ التقريريّ الحدَثيّ، ويسعى إلى نسج خيوط منظور جديد يتوخّى تحرير الكتابة التاريخيّة من طابعها الرسميّ ونصّها السلطويّ المهيمن”[8]. ولتحقيق هذا المطلب، قرّر أنْ يُوسّع آفاق البحث ويُنوّع في المناهج التي سيتوسّلها: “قراءة تمتدّ عبر مساحات معرفيّة متنوّعة، ومنهج يقوم على رصد الظاهرة الاجتماعيّة من خلال ربطها ببنائها السياسيّ وأنماط الإنتاج السائدة… فضلا عن الاستغلال المكثّف للنصوص وتوثيقها”[9]. ولا ريب في أنّه واقع، بمثل هذه الإشارات المعرفيّة والمنهجيّة، في قلْب “التاريخ الجديد”، ومنخرط بقوّة في تعبيد المسالك المساعدة على جعْل هذا العلم جزءا من خارطة العلوم في البلاد العربيّة.
ولكنّ هذه العُدّة المعرفيّة والمنهجيّة تظلّ عالقةً في حيّز الاستعداد النظريّ رغم أنّ هذا الاستعداد هو، دون ريب، مقدّمة تأسيسيّة لتدشين حقل التاريخ الاجتماعيّ وتجاوز مَغالق التاريخ الحدَثيّ والرسميّ. فبين العُدّة النظريّة وإجراء التصوّر إجراء عمليّا مسافةٌ ينبغي قَطْعُها. وليس من سبيل إلى ذلك سوى حيازة المادّة الخبريّة للانطلاق منها في تنفيذ المشروع.
ونَعني بالمادّة التاريخيّة الوثيقةَ التاريخيّة على وجه الحصر، وبالدلالة الاصطلاحيّة المعروفة عند المؤرّخين. والتشدّد في اعتبار الوثيقة التاريخيّة أصلَ الكتابة التاريخيّة موقف يُجْمِعُ عليه المؤرّخون بلا استثناء تقريبا. وما جاء على لسان شارل فكتور لانجلوا[10] (Charles- Victor Langlois) مثلا في أواخر القرن التاسع عشر حول مركزيّة الوثيقة في الكتابة التاريخيّة مازال الدارسون يستشهدون به ويلحّون على صوابه: “يُصنَعُ التاريخ بالوثائق[11]. والوثائق هي ما تركتْه أفكارُ الناس وأفعالهم من آثار. وقليل جدّا من تلك الأفكار والأقوال ما يبقى له آثارٌ ظاهرة. وهذه الآثار، على فرض وجودها، نادرا ما تُعَمِّرُ، فيكفي أن تتعرّض لطارئ ما حتّى تُمْحَى. إنّ كلّ فكرة وكلّ حدث ما لم يتركا آثارا مباشرة أو غير مباشرة، أو تلاشت الآثار التي تركاها، كان ذلك ضياعا للتاريخ”[12]. وأمّا جُمْلَتَه ذائعة الصيت: “لا وثيقة، لا تاريخ” (Pas de documents, pas d’histoire) فهي بمثابة القاعدة “القانونيّة” الأولى في علم التاريخ. لذلك، تكمن المعضلة الكبرى في صعوبة الظفر بتلك الوثيقة. وعلى هذا الأساس، يصبح طرْحُ السؤال التالي: ماذا يبقى من المؤرّخ إنْ لم تكن المادّة التاريخيّة رصيدَه الأساس؟
قد تكون ظهرتْ أعمالٌ نظريّة هدفُها توسيع مفهوم الوثيقة[13]. وقد يكون حضور المؤرّخ نفسه قارئا ومستنتجا جزءا خارجيّا من الوثيقة على معنى ما نجده عند هنري مارّو في إطار توسعة المفهوم[14]. ولا شكّ في أنّ الوسائط الشبكيّة اليوم تدخل في هذا المجال. وقد سبقَت الإشارةُ إلى ضِيق مؤرّخ العصر الوسيط وتبرّمِه من النقص الفادح في رصيد الوثائق التاريخيّة. فما هي إذن الإمكانات التي تتيحُها عمليّاتُ توسعة مفهوم الوثيقة التاريخيّة حتّى يستطيع المؤرّخ أنْ يُعيد بناء التاريخ؟
يَبْسُطُ بوتشيش، وهو يتهيّأ لخوض مغامرة الكتابة التاريخيّة منظورا إليها من أسفل معطى معرفيّا، ويطرح سؤالا إجرائيّا: “بما أنّ الوثيقة تُشكّل حجر الزاوية في كلّ كتابة تاريخيّة كما أكّد على ذلك بنوع من الصرامة لانجلوا، فما هو حظّ العوامّ في الوثائق المغربيّة في العصر الوسيط؟”[15]. ولبوتشيش قصّة في هذا المجال يَحْسُنُ التوقّف عندها قليلا. فهكذا نَقَلَ لنا تجربته وهو على عَتَبَتها قبْلَ أن يتوغّل فيها: “لا سبيل إلى الشكّ في ما اعتور هذا العمل من مشاقّ وصعوبات تتمثّلُ أساسا في فقر المادّة التاريخيّة، وتَكتّم الإسطوغرافيا الوسيطيّة عن ذكر العديد من القضايا الاجتماعيّة، حتّى أنّ هذه الصعوبات كادت أن تُجهض البحث”[16]. وهذا يؤكّد أنّ الانتقال من الكتابة في التاريخ الرسميّ إلى الكتابة في التاريخ الاجتماعيّ والاقتصاديّ ليس فقط مجرّد استحضار الأسس والقواعد النظريّة، وإنّما هو ممارسة تطبيقيّة واشتغال مباشر على الوثيقة التاريخيّة المهتمّة بما لم يهتمّ به التاريخ الرسميّ. والتاريخ الرسميّ، كما نعلم، لا يَحْفَلُ فحسب بذاك النوع من الوثائق، ولكنّه يعمل على إتلافها أيضا[17].
من التجارب البحثيّة الكثيرة التي خاض غمارَها بوتشيش تجربةُ الكتابة عن أهل الذمّة في العصر الوسيط. وموضوع أهل الذمّة من الموضوعات المنسيّة في التاريخ التقليديّ. والنفاذ إليها من زاوية نظر المؤرّخ الجديد شاقٌّ لأسباب سنحاول استجلاءها من خلال متابعتنا تجربةَ بوتشيش. تأمَّلْنا ما كتَبَه، وهو يستعدّ لمباشرة مسألتِه، كما ألْمَعْنا، فرأيْناه واقعا تحتَ وطأة إحساس مُرّ بسبب سياسات القدماء العابثة بالوثيقة التاريخيّة. لقد وجد نفسه بين كُتلتيْن متنافرتيْن من النصوص التاريخيّة التي كان للعامل الدينيّ أو العرقيّ أو السياسيّ دورٌ أساسيّ في صياغتها.
كان تاريخ أهل الذمّة في العصر الوسيط مثالا جيّدا لبيان حدّة المأزق الذي أوقع المؤرّخين المتعصّبين في مزالق أخلاقيّة وعلميّة كبرى، وذلك إمّا بإتلاف الحقيقة، أو تحريفها. وقد نبّه بوتشيش إلى هذا النوع من الكتابة التاريخيّة التحريفيّة. فطمْسُ أخبار “المنبوذين” و”المهمّشين” يَحْرِمُ مؤرّخ المجتمع والذهنيّات من مادّة أساسيّة لبناء تاريخ عادل وموضوعيّ خاصّة إذا كان لهاته الطوائف والمجموعات دور بارز في تطوّر المجتمع المغربيّ إبّان الحقبة المرابطيّة. يذكر بوتشيش أنّ المؤرّخين العرب “عزفوا عن التأريخ لهم، ولم يشيروا إليهم في ثنايا كتبهم سوى بنصف الكلمات… وأحيانا خانهم لسانهم، فاستنزلوا عليهم الشتم واللّعنات… وإذا كانت الوثائق المسيحيّة… تميط اللّثام عن وضعيّة النصارى في العصر الموحّديّ، فإنّها، للأسف، لا تغطّي العصر المرابطيّ إلاّ في حدود ضيّقة. أمّا الروايات النصرانيّة الأخرى، فتزخر بتشويه الحقائق وتحريفها، وتنطق أحيانا بالتعصّب والعداء السافر”[18]. ولا غروَ في أنّ الأعطاب التي أخرجت الكتابة التاريخيّة التقليديّة من الموضوعيّة والشموليّة والصدقيّة ضيّقتْ على المؤرّخ الجديد مساحات المناورة في الملك التاريخيّ العموميّ نظرا إلى ضآلة ما تركه المؤرّخ التقليديّ. ويُمْكن اختزالُ كلّ ما سبق ذكره في عبارة جامعة وهي أزمة الوثيقة التاريخيّة في العصر الوسيط.
[1] كما نقل عنه بوتشيش، تاريخ الغرب الإسلاميّ: قراءات جديدة في بعض قضايا المجتمع والحضارة، (بيروت: دار الطليعة للنشر والتوزيع، 1994)، ص: 28- 29.
[2] نفسه، ص: 29.
[3] نفسه، ص: 29. يقول العروي في هذا الشأن: “المؤرّخ العربيّ… يرى التاريخ لا كسلسلة من أحداث متماسكة الحلقات بل كإعادة مستمرّة لعهد النور والحقيقة. في وجدان أتباع المهدي الموحّدي الفترة التي مرّت منذ نهاية عهد الرسول إلى ولادة ابن تومرت، ليست فترة انحطاط بقدر ما هي فترة غياب وانعدام لم يقع فيها أيّ حادث مهمّ… وما يقال في الفاطميّ والزيديّ [يقال] في السنيّ عندما يسترجع السلطة من يد أهل الأهواء”، العرب والفكر التاريخيّ، (الدار البيضاء- بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، 2006)، ص: 88. (جاء كلام العروي في إطار مقارنته مفهوم المؤرّخين العرب للتاريخ مع تعريف الفلاسفة المُحْدَثين له).
[4] عن بديات تأسيس هذا الاتّجاه، راجع ما جاء في كتابه سوسيولوجيا التاريخ الإسلاميّ، الجزء الأوّل: طور التكوين، (القاهرة: سينا للنشر- بيروت: دار الانتشار العربيّ، 2000)، ص: 33.
[5] نفسه، ص: 255.
[6] نفسه، ص: 254- 255.
[7] بوتشيش، تاريخ الغرب الإسلاميّ، مصدر سابق، ص: 30.
[8] بوتشيش، مباحث في التاريخ، مصدر سابق، ص: 5.
[9] نفسه، ص: 5.
[10] مِنْ أبرزِ ما كتب المؤرّخ الفرنسيّ شارل فيكتور لانجلوا (Charles- Victor Langlois) في شروط الكتابة التاريخيّة الكتابُ التي اشترك في تأليفه مع شارل سينيوبوس (Charles Seignobos) الموسوم بـ: “مدخل إلى الدراسات التاريخيّة” (Introduction aux études historiques) الذي ظهر أوّل مرّة سنة 1898. ويركزّ لانجلوا في مقدّمة الكتاب على “شروط المعرفة في التاريخ وعلاماتها وخصائصها وحدودها: ما هي الوثيقة التاريخيّة؟ كيف تعالَج الوثائق من أجل الإفادة منها في التاريخ؟ ما هي الوقائع التاريخيّة؟ كيف تُجْمَع لتشييد العمل التاريخيّ”. نقلا عن عبد الرحمان بدوي من مقدّمة كتابه النقد التاريخيّ (مقالات مترجمة لمجموعة من المؤلّفين)، (الكويت: وكالة المطبوعات، 1981)، ص: 11.
[11] ستصبحُ هذه الجملة: «L’histoire se fait avec des documents» بعد نصف قرن تقريبا عنوانا للباب الثالث من كتاب هنري مارّو
Henri Marrou, De la connaissance historique, (Paris: Seuil, 1954).
[12] Charles- Victor Langlois et Charles Seignobos, Introduction aux études historiques, (Paris: Kimé, 1992), p. 29.
une version numérique est disponible:
[13] حول توسعة مفهوم الوثيقة راجع مثلا:
Jean- Loup Delmas, «L’élargissement de la notion de source», in: François Bédarida (sous la direction de), L’histoire et le métier d’historien en France 1945- 1995, (Paris: Maison des sciences de l’homme, 1995), p. 111- 118.
[14] يعرّف هنري مارّو الوثيقة التاريخيّة تعريفا جيّدا خاصّة في مستوى ربطها بحسّ المؤرّخ وليس بحسّ أيّ قارئ آخر:
“est document toute source d’information dont l’esprit de l’historien sait tirer quelque chose pour la connaissance du passé humain, envisagé sous l’angle de la question qui lui a été posée”, De la connaissance historique, op.cit, p. 73.
وقد وجدنا من الباحثين من يضع هذا التعريف تحديدا في إطار معارضة التعريف الحدّي الصارم الذي اشتهر به لانجلوا. راجع تقديم بنوا لاكروا (Benoit Lacroix) في: Revue d’histoire de l’Amérique française، عدد80، 1954. وقد ورد فيه ما يلي:
«Le document n’est pas tout (contre Langlois-Seignobos), mais reconnaissons que, si le document arrive en second, c’est-à-dire après la personne de l’historien, il est et reste fondamental», p. 437.
[15] بوتشيش، تاريخ الغرب الإسلاميّ، مصدر سابق، ص: 27.
[16] نفسه، ص: 6.
[17] استطرفْنا في هذا السياق عبارة محمّد زنيبر التي شيّه فيها مَنْ يَظفر بهذا النوع من الوثائق الوسيطيّة النادرة بذاك الذي يظفر بحجارة كريمة. قال عن المعطيات التي وجدها في كتاب أبي عبيد البكري المسالك والممالك: “سجّل كلّ ما أمكنه تسجيله من تفاصيل مفيدة تجعل المؤرّخ اليوم، يتسلّمها بحرص وإشفاق وكأنّه يتسلّم أحجارا كريمة”، المغرب في العصر الوسيط: المدينة- الدولة- الاقتصاد، تنسيق محمّد المغراوي، (الرباط: منشورات كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بالرباط/ الدار البيضاء: مكتبة النجاح الجديدة، 1999)، ص: 369.
[18] بوتشيش، مباحث في التاريخ الاجتماعيّ، مصدر سابق، ص: 65.