المقالات

التاريخ الجديد: مقدّمات نظريّة ومسارات عمليّة(علي الصالح مولى)_4_

حلول مقترَحة: المصادر الدفينة وإستراتيجيا التوسعة

                  كان لابدّ إذنْ مع كلّ ذلك القلق البالغ حدّ اليأس مِنْ مَخرج لتفتيت المعضلات المنتصبة ضدّ مشروع تجديد الكتابة التاريخيّة. ولن يكون هذا المَخرَجُ إلاّ في اعتماد سياسة التوسعة (élargissement) التي تُقْحِمُ في الوثيقة التاريخيّة الأصليّة موادّ ليستْ منها. وفي هذا الأفق المُسْتحدَث، سنرى الدكتور بوتشيش يُولّيَ وجهه شطر ما سمّاه “المصنّفات التراثيّة”. فهي التي أنقذت مشروعه للكتابة في التاريخ الاجتماعيّ من الإجهاض: “… لولا رجوعنا إلى مصادر من مصنّفات تراثيّة أنارت الزوايا المظلمة من الموضوع، بل مكّنتْ من اختراق أسوار المسكوت عنه… ونجحت في إبراز قضايا كادت أن تُحشَر في طيّ النسيان”[1]. واستعمل في موقع آخَر عبارة “حسن الحظّ” لبيان أنّ مفاتيح الحلّ لم تكن متاحة بيسر. فلو “عَثَرَ الحظّ” لتعثّر المشروع، وتعرّض لمخاطر جمّة. وما يَعنينا في هذا المضمار هو إصرار المؤرّخ الجديد على اختراق هندسة الكتابة التاريخيّة التقليديّة المنغلقة، وذلك بالبحث عن البدائل الضامنة إنجاحَ مشروع الكتابة التاريخيّة الجديدة: “ولحسن الحظّ، فإنّ مصنّفات أخرى تنتمي إلى حقول مختلفة كالفقهيّات (النوازل والفتاوى) والتصوّف والحسبة والقضاء وغيرها من المصادر الدفينة… تطرح البديل الكفيل بدفع عجلة البحث… إلى الأمام”[2].

                  يَلْفِتُ نظرَنا، من الاقتباس الأوّل، النعتُ “تراثيّة” الوارد في عبارة “مصادر من مصنّفات تراثيّة”. فالمتوقّعُ من مؤرّخ مُحتَرِف ومختصّ أنْ يَستخدم النعت “تاريخيّة” وليس “تراثيّة”. فليست كلُّ مادّة تراثيّة مادّةً تاريخيّة، لأنّ التراث أوسع من التاريخ من جهة احتمال تَوَفّره على أقوال وأحداث وروايات “صناعيّة” لا تتحقّق فيها مقوّمات الصدقيّة الحدثيّة. ويَلفتُ نظرَنا أيضا، من الاقتباس الثاني، النعتُ “دفينة” في عبارة “المصنّفات الدفينة”. وكان علينا أنْ ننظر في دلالتها الاصطلاحيّة حتّى يتبيّن المراد منها، والجدوى التاريخيّة من إجرائها في إعادة تركيب التاريخ المغربيّ الوسيط.        في كتاب بوتشيش “تاريخ المغرب الإسلاميّ” فصلٌ عنوانه: “دور المصادر الدفينة في كشف الجوانب الحضاريّة المنسيّة للمدينة المغربيّة”. وقد عمَد فيه إلى وضْع كلمة الدفينة بين علامتيْ تنصيص: “…”. وهذا كاف للتساؤل عن دواعي إبراز كلمة “الدفينة” للقارئ دون سائر مكوّنات العنوان الأخرى. فهل يوجَد حَرَجٌ ما في جعْلها مصدرا غيرَ مضمون النتائج أو غيرَ معهود للكتابة التاريخيّة؟

                  تنتهي قراءةُ الأسطر الأولى من الفصل المذكور بصاحبها إلى خلاصتيْن: هناك أزمة حقيقيّة في الوثائق التاريخيّة الخاصّة بالموضوع قيْدَ الدراسة أوّلا، وينبغي مع ذلك إنجاز تاريخ مدينة مراكش، وإنْ بوثائق غير تاريخيّة ثانيا: “الحاصل أنّ الباحث يجد نفسه اليوم أمام معضلة تتطلّب حلاّ مرضيا، ومِن ثَمَّ تبرز المصادر الدفينة بما تتضمّنه من شذرات… قناة ضروريّة لتجاوز هذه الإشكاليّة”[3]. وهكذا كانَ قرار بوتشيش أنْ يعتمد “المصادر الدفينة” بديلا عن الوثائق التاريخيّة. وربّما، لهذا السبب غير التاريخيّ، كانت كلمة “دفينة” بين علامتيْ تنصيص في العنوان.

                  اعتمد بوتشيش في تعريف “المصادر الدفينة” العلاّمة محمّد المنوني حين ذكر أنّ المصادر الدفينة هي “كتب الجغرافيا والرحلات، والموسوعات القديمة، ومدوّنات النوازل الفقهيّة، ومؤلّفات البدع، وبعض الشروحات للمتون الدراسيّة والمؤلّفات المكتوبة خارج المغرب، ودواوين الشعراء والكناشات، فضلا عن كتب المناقب والأنساب…”[4]. وكأنّ بوتشيش، بهذا التعريف، يعود بنا إلى عبارة “المصنّفات التراثيّة” التي رأينا أنّها تتّسع لِما لا تتّسع له “المصنّفات التاريخيّة”. ولكنّه لا يراها، مع ذلك، إلاّ مادّة تاريخيّة رغم أنّ “المصادر الموضوعيّة” (في مقابل المصادر الدفينة) في تصنيف العلاّمة المنوني يُوحِي بأنّ ما ليس موضوعيّا ليس تاريخيّا.

                  وتُعتَبَرُ النوازل الفقهيّة من الآفاق النوعيّة التي ارتادها بوتشيش. فقد وجد فيها ما يملأ الفراغات التي تركتها الأسطوغرافيا العربيّة. واستطاع بفضْلها إمّا أنْ يُعيدَ النظر في كثير من المعطيات، أو أنْ يكشف عن كثير من المغمور التاريخيّ. وتكتسبُ إشادتُه بالنوازل في هذا الباب قيمتَها مِنْ جِهَة كونها مادّة ضروريّة لتطوير مباحث التاريخ الاجتماعيّ والاقتصاديّ وتاريخ الذهنيّات. لقد قدّمها باعتبارها “نصّا متميّزا يجيب عن العديد من نقط الاستفهام التي يطرحها المؤرّخ، ويفكّ شفرات العديد من الألغاز التي بقيتْ عالقة في مجال البحث التاريخيّ، ويسدّ كثيرا من البياضات التي ظلّتْ تُشكّلُ بُقَعا مهملة في نسيج تاريخ المجتمعات الإسلاميّة”[5]. فقد لفتَ النظر إلى مسائل كثيرة منها أنّ في النوازل الفقهيّة جزئيّات غير موجودة في المصادر التاريخيّة، وأنّ طابعها غير الرسميّ يجعل المفتي بعيدا عن تأثيرات السلطة ويجعل الفتوى مُنتَجا تاريخيّا محايدا يَصْلُح لاتّخاذه مادّة ذات ضمانات ومصداقيّة.   وللنوازل، فوق هذه الوظيفة، وظيفةٌ معرفيّة غير تقليديّة نظرا إلى أنّها تَدفَع بالباحث إلى ممارسة الكتابة التاريخيّة من زاوية جديدة وذلك من خلال تشجيعه على “التحرّر من إكراهات المصادر التقليديّة، وكتابة تاريخ إشكاليّ بعيد عن السرديّة والوصف. كما أنّها تتيح استحضار الشخصيّات المنسيّة في التاريخ، وتساهم في تغيير أمكنة الأحداث التاريخيّة”[6].

                  والواقعُ أنّ تيّار الكتابة التجديديّة الذي يُعْتَبَرُ الدكتورُ بوتشيش من أعلامه البارزين شرع، منذ سنوات، يُوسِّعُ من دائرة اهتمامه بالنوازل الفقهيّة من جهةِ ما توفّره من مادّة غير فقهيّة للمرور بواسطتها إلى الوقائع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وأصبح بالإمكان اليوم الحصول على دراسات في التاريخ الاجتماعيّ والاقتصاديّ وتاريخ الذهنيّات[7].

                  إنّ ما سقْناه من ملاحظات احترازيّة لا يقلّل إطلاقا من قيمة المستندات الدفينة. فالمعلومات التي في حوزتها تُمثّلُ خزّانا مهمّا بالنسبة إلى المؤرّخ الجديد الذي يسعى إلى إنتاج معرفة تاريخيّة أفقيّة. والمصادر غير التاريخيّة بالدلالة التقليديّة غنيّة بالأخبار المنغرسة في جزئيّات حياة الناس. بلْ قد يكونُ للمستند الدفين دورٌ حاسم في تقرير مسألة تاريخيّة تكون محلّ اختلاف بين المؤرّخين. وضرب محمّد المنّوني على ذلك أمثلة منها مسألة لقاء الغزالي بابن تومرت، “وهي نقطة ثار حولها جدل لم ينته بعد، غير أنّ كتيّبا صغيرا للغزالي يحمل اسم “سرّ العالمين” وردت في أوائله هذه الفقرة، فيقول حجّة الإسلام عن مؤلَّفه: “… فأوّل من استحسنه وقرأه علي بالمدرسة النظاميّة سرّا من الناس… رجل من أرض المغرب يُقال له محمّد بن تومرت” والكتيب منشور”[8]. وواضح من هذا المثال أنّ خبر اللّقاء بين الرجليْن لم يأتِ في وثيقة تاريخيّة “موضوعيّة”، وإنّما جاء في نصّ لا علاقة له بالتاريخ إلاّ أنّ عين المؤرّخ النابه التقطتْه فسدّتْ به فراغا، وأنهتْ به سِجالا. وما كان المنوني مبالِغا وهو يقول: “… على أنّ هذه المستندات قد تأتي بمفاجآت تاريخيّة”[9].

                  في هذا السياق يقول بوتشيش عن نفسه، بعْدَ أنْ وفّر ما به يَطمئنّ ويُطَمْئِنُ قارئَه: “يلتزم الباحث (يقصد نفسَه) بهذه الخطّة في التصنيف المصدريّ، معتمدا في هذه الدراسة على الصنف الثاني أي المصادر الدفينة دون مجانبة المقولة التي ترى أنّ كلّ المضانّ المشار إليها في هذا التصنيف تصبّ جميعها في المادّة التاريخيّة”[10]. وبناءً على هذا القرار، يَسْحَبُ بوتشيش المادّة التراثيّة والمستند الدفين إلى فضاء الوثيقة التاريخيّة.

                  هل يُمثِّلُ هذا المَخْرَج حلاّ حقيقيّا لأزمة الكتابة التاريخيّة الأفقيّة؟ من الضروريّ طرْحُ هذا السؤال لأنّ الطريق الذي تمّ اختيارُه يخالف ما تواطأتْ عليه تقاليد الكتابة التاريخيّة. وليس مُستَبْعَدا أنْ نجد مَنْ لا يتّفق مع بوتشيش على أنّ الموروث الموضوع تحت باب “المصادر الدفينة” يرقى إلى مرتبة الوثيقة التاريخيّة بالمعنى الاصطلاحيّ الكلاسيكيّ. قد يقول قائلٌ: صحيحٌ أنّ في المصادر الدفينة مادّة غزيرة. وهي تصلح، دون شكّ، لِأنْ تَكُون مدخلا إلى دراسات ثقافيّة عامّة، أو مجالا ينشط فيه نقّاد الأدب، والباحثون عن قضايا الجدل، والهاربون من ضغوط الواقع الباحثون عن راحة نفسيّة أو انخلاع ثقافيّ من الواقع، غيْرَ أنّها لا تَصْلُح في كتابة التاريخ صلاحيّةَ الوثيقة التاريخيّة رغم ما قد تحتويه من معطيات. فمن شأن هذا الاختيار الاضطراريّ أنْ يُعَقِّدَ “تقنيّا” مهمّة المؤرّخ. فقد تُبْنَى على كاهل الرواية التراثيّة والمصدر الدفين أحكام قِيميّة بلا أصل تاريخيّ. لذلك تظلّ دائما محلّ ارتياب، فلا يُلْتَجَأُ إليها إلاّ في حال الضرورة القصوى. ولا يخالجنا أدنَى شكّ في أنّ إعادة كتابة التاريخ العادل ضرورةٌ قصوى أكاديميّا وأخلاقيّا. وفي سياق هذه الضرورة يتنزّل مشروع بوتشيش التاريخيّ.

                  ربّما يكسب هذا الاعتراض شيئا مِنَ الوجاهة مِنْ جهةِ ما قدْ يتسرّبُ إلى هذا النوع من الموادّ الخَبَريّة مِنْ تَزيُّد أو وضْع واختلاق، خاصّة في باب النوازل الفقهيّة. فقد دَرَجَ الفقهاء- القضاة، استعدادا لاحتمال وقوع الحادثة، على أنْ يستبقوها “بالفتوى”.

                  اُضطُرَّ بوتشيش إذنْ، من أجل إنجاح مشروع الكتابة في التاريخ الاجتماعيّ والاقتصاديّ، إلى أنْ يستدعِيَ “المادّة التراثيّة” و”المصادر الدفينة” بديلا عن “الوثيقة التاريخيّة”. وعلى هذا الأساس، يمكن أن نقولَ إنّ الاتّجاه نحو إحداث عمليّات توسعة في مفهوم “الوثيقة التاريخيّة”، مثلما تقدّمتْ الإشارة إلى ذلك، يندرج في إطار محاولة المؤرّخ الجديد فكّ العزلة عن محتويات التاريخ المنسيّ، والتسلّح بما يستطيع أن يلتقطه من أدوات غير تقليديّة. فكيف أفادتْ مباحث الدكتور بوتشيش من المستندات الدفينة تقنيّا وقيميّا؟

                  لمّا لم يكن الغَرَضُ من هذه الدراسة مضمونيّا، فإنّنا سنقتصر على أمثلة ممّا جاء في كتابات بوتشيش، وسننظر في نوع التعاطي معها والنتائج المستخلَصة منها. إنّ من المسائل التي أدار عليها بوتشيش دراساته في التاريخ الاجتماعيّ مسألة “السكّان والديمغرافيا”. وهي ذات تعقيدات وصعوبات كثيرة نظرا إلى كونها تتنزّل في ملتقى تقاطعات معرفيّة متنوّعة من جهة، وعُسْر توفير المادّة التاريخيّة الخامّ للإجابة عن الأسئلة المرافقة لعمليّات بناء التاريخ الخاصّ بها من جهة ثانية. وكان لا بدّ للباحث في السكّان والديمغرافيا أن يُعالج موضوع نَسَب الجماعة التي يشتغل على تاريخها. والبحث في الأنساب تخصّصٌ دقيق وخطير لِما يترتّب عنه نتائج تتعلّق بالهويّة والقرابة والثقافة والعرق… صحيح أنّه ليس كلُّ باحث في الأنساب نَسّابةً. ولكنْ، صحيح أيضا أنّ مباحث التاريخ الاجتماعيّ تفرض على المؤرّخ حين يُباشر المسألة السكّانيّة أنْ يُدليَ بدلوه في النسب خاصّةً إذا كان هذا النسب محلّ تنازع بين المختصّين، أو كان التاريخ الاجتماعيّ نفسه في طور التشييد. ونظنّ أنّ كتابات بوتشيش واقعةٌ في هاتيْن المساحتيْن معا: التنازع والتشييد. لذلك كان له إسهام في المسألة السكّانيّة من جهة النسب. وما ورد حول أصل قبائل صنهاجة الحميري يدخل في هذا الباب.

                  ولمّا كانت المستندات الدفينة هي العُمدَةَ لإنجاز هذه المهمّة، انصرف بوتشيش باحثا في مضانّها، مؤلّفا بينها عساه ينتهي إلى رأي في المسألة. عاد إلى “كتاب الجغرافيا” لابن سعيد لاشتماله على كلام حول عادات السكّان ومظهرهم، وعاد إلى مخطوط كتاب “ترتيب الرحلة في الترغيب للملّة” لأبي بكر بن العربيّ لأنّ فيه “إشارات عفويّة تؤكّد الأصل الحميري”[11]، وعاد إلى ما وصفه بـ”المصادر غير المباشرة” مثل كتاب “اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار” لأنّ فيه تأكيدا على الأصل الحميري لقبائل صنهاجة، وعاد إلى الشعراء فظفر في إحدى قصائد ابن الزقاق بما يؤكّد انتساب صنهاجة إلى حمير.

                  وقبْل أنْ نُبديَ بعض الملاحظات حول مُخْرجات هذه المستندات الدفينة نشير إلى أنّ بوتشيش كأنّه شعر بأنّه لم يصِلْ إلى منطقة الاطمئنان المعرفيّ، فعزّز جهده بقراءة نوعيّة طريفة من داخل الحقل التاريخيّ نفسه هذه المرّة وليس من خارجه. فقد تصيّد لابن خلدون شيئا من التناقض وجعله لصالح أطروحته. قال: “ومع أنّ ابن خلدون أشار إلى أصل يوسف بن تاشفين البربريّ، فإنّه أثبتَ في موضع آخَر انتماء صنهاجة إلى حمير”[12]. ومن داخل منطق “المؤرّخين الرسميّين” الذين كانوا السبب الرئيس في محنة المؤرّخ الجديد، يقيم بوتشيش مِنْ أفواههم الدليل على نسب صنهاجة العربيّ: “لو كان نسب صنهاجة المرابطين بربريّا، لما توانى مؤرّخو الموحّدين ثمّ المرينيّين بعدهم في دحض نسبهم العربيّ للتنقيص من شأنهم، لأنّ النسب العربيّ اعتُبِرَ آنذاك من الأسس التي تزيد الدولة قوّة واحتراما أمام الرعايا”[13]. ولا شكّ في أنّ العملَ على أنْ تتعاضد المعطيات الخبريّة، والحرصَ على التقاط الإشارات حتّى العابرة منها للبناء عليها يكشفان بجلاء عن المشكلات الحقيقيّة التي يواجهها المؤرّخ الاجتماعيّ والاقتصاديّ المختصّ في العصر الوسيط والتحدّيات الناهضة في وجه المشروع التاريخيّ الجديد.

                  ما يُمْكن تسجيله في هذا الصدد هو أنّ تعامل بوتشيش مع المعطى الخلدونيّ رغم ما فيه من ذكاء حادّ، يظلّ مشجِّعا على طرح السؤال التالي: ما الذي يُغري في إحدى المادّتيْن الخَبريّتيْن الخلدونيّتيْن (أصل يوسف بن تاشفين بربري/ انتماء صنهاجة إلى حمير) حتّى نجعلها في باب الصدق، ونرفض الأخرى؟ لماذا استخدم بوتشيش عبارتيْن مُشبعتيْن بما بدا لنا أنّه انطباع ذاتيّ؟ بَنَى المادّةَ الخبريّة التي سيرفضها على الفعل “أشار”. قال: “ابن خلدون أشار إلى أصل يوسف بن تاشفين البربريّ”، وبَنى المادّةَ الخبريّة التي سيتبنّى محتواها على الفعل “أثبت”. قال: “أثبتَ في موضع آخَر انتماء صنهاجة إلى حمير”. ولسنا في حاجة إلى التوسّع في الفروق المعنويّة بين الفعل “أشار” والفعل “أثبت”، غير أنّنا نحتاج إلى تأكيد أمر وهو أنّ هذيْن الفعليْن فعلان خارجيّان أراد بوتشيش أنْ يستعمل أحدهما في مقام، وأن يستعمل الآخَر في مقام مغايِرٍ استعمالا تصبح بمقتضاه المادّة التاريخيّة كأنّما تنطق بِما ليس فيها.  إنّهما فعلان خارجيّان لأنّهما ليسا من داخل المَتْن الخلدونيّ. فلو كانا من داخِله، لكان حكم الصدق حكما تاريخيّا موضوعيّا لأنّه مُصاغ داخل المادّة الخبريّة. ولمّا لم يكونا كذلك، فلا شيءَ يمنع باحثا آخَر على غير مُهجة بوتشيش مِنْ أن يُوزّعَ هذيْن الفعليْن توزيعا عكسيّا فيقول: “ابن خلدون أثبت أصل يوسف بن تاشفين البربريّ… وأشار في موضع آخَر إلى انتماء صنهاجة إلى حمير”.

                  الحاصِلُ من هذه الملاحظة هو أنّ حضور المؤرّخ حضورا غير سرديّ خوّل له أنْ يُمارس على النصّ، بناءً على معطيات توفّرتْ له، ضربا من التصرّف أشْبَهَ بتحويل الوجهة من خلال ما يُضيفه إليه من مفردات ذات قدرة دلاليّة على تصريف المعنى إلى حيثُ يشاء المؤرّخ. وقد يزداد الأمر تعقيدا إنْ قرأنا لابن خلدون في هذه المسألة تخصيصا ما يُفيد عكْسَ المنحى المُعْلَن عنه في عبارة “أثبت” سالفة الذكر. قال مستخلصا بعد أنْ استعرض الروايات المتعلّقة بالنسب البربريّ وأظهر خَطَأَها: “والحقّ الذي شهد به المواطن والعجمة أنّهم بمعزل عن العرب إلاّ ما تزعمه نسّابة العرب في صنهاجة وكتامة”[14]. فكلمة “الحقّ” ههنا جزء من متن النصّ الخلدونيّ، وليست من خارجة عنه. وقد تصطدم بكلمة “أثبت”، فيضيع المعنى التاريخيّ.

                  ولكنْ، ينبغي أنْ ندقّق أمرا وهو أنّ هذا النوع من التصرّف غير المصرّح به في المادّة الخبريّة، لئن كان في المطلق مُضِرّا بمسار العمليّة التاريخيّة، يُضْحِي في حالات محدّدة مساعدا على تأمين متانة الحُكم التاريخيّ المستخلص من “الظنّيّات”[15] أو من المستندات الدفينة. وهذا ما ينطبق تمام الانطباق على المثال الخلدونيّ في مقاربة بوتشيش للنسب الصنهاجيّ. وبيانُ ذلك كالتالي: كانت وجهة بوتشيش المستنداتِ الدفينةَ. وأمْكنَ له الوقوعُ فيها على معطيات، إنْ تضافرت، ساعدتْ على بناء حكم تاريخيّ يخصّ مسألة النسب التي يتصدّى لها بالبحث. والواضحُ أنّه وفّر المعطياتِ المطلوبةَ. وكان يُمْكنُ الاكتفاءُ بها. لكنّ المستنداتِ الدفينةَ، رغم خطاب الطمأنة الذي أشاعه بوتشيش، يبدو أنّها ما كانت مُقنِعةً له على كثرتها وتضافرها. ولا ريب في أنّ صوت المؤرّخ المنغرس فيه كان يدفعه إلى عدم الاكتفاء بها رغم كلّ شيء. ومِنْ هذا المدخل طرق بوتشيش بابَ ابن خلدون. وهو إذْ يستخدم الفعل “أثبت” وليس الفعل “أشار”، فلأنّ المادة التي جَمَّعَها من المستندات الدفينة هي التي أغرتْه بذلك. والإغراء في هذا المقام أكاديميّ وليس ذوقيّا.

                  هذا إذن عَرْضٌ تحليليّ مُوجَز أحببْنا مِن خلاله أنْ نُلامِسَ في مستوى أوّل من البحث الأرضيّةَ التي انطلق التفكيرُ فيها لبناء مرتكزاتٍ جديدة للكتابة التاريخيّة بعْدَ أنْ استقرّ في وجدان المؤرّخ العربيّ المعاصر أنّ ما وصَلَنا من المؤرّخ التقليديّ لا يستطيعُ تأمين قراءة تاريخيّة جامعة وشاملة. وبدا لنا من مُراقبة المسالك التي تحرّك فيها بوتشيش أنّ مُعالَجة النقص الفادح في إستراتيجيا الكتابة التاريخيّة التقليديّة لا يَكُون فقط بالتصحيح الجزئيّ. فالمطلوبُ إرساءُ فلسفة مغايرة لمِا كان عليه الأمرُ مِنْ قَبْلُ. وما اتّجاهُ بوتشيش إلى عَدَمِ التوقّف عند الجوانب التقنيّة ذات الصلة بالوثائق، والتعامل مع أسئلةٍ تخصّ هُويّة الحقل التاريخيّ ذاته إلاّ دليلا على أنّ مشروع التجديد مشروعُ تأسيس وليس مشروعَ تصحيح. وسنواصل في الفصل الثاني الإحاطةَ بمعالِمَ أخرى منه.


[1]  نفسه، ص: 65.

[2]  بوتشيش، تاريخ الغرب الإسلاميّ، مصدر سابق، ص: 30. ومحمّد المنوني، المصادر العربيّة لتاريخ المغرب من الفتح الإسلاميّ إلى نهاية العصر الحديث، الجزء الأوّل، (الرباط: منشورات كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، 1983)، ص: 9.

[3]  نفسه، ص: 125.

[4]  نفسه، ص: 124.

[5]  بوتشيش، “النوازل الفقهيّة في الأطروحات الجامعيّة: التوجّهات، الإضافات المعرفيّة والإشكالات المنهجيّة”، عصور الجديدة، عدد: 16- 17، شتاء- ربيع 2014- 2015، ص: 44.

[6]  نفسه، ص: 46.

[7]  من ذلك على سبيل المثال: محمّد فتحة، النوازل الفقهيّة والمجتمع: أبحاث في تاريخ الغرب الإسلاميّ من القرن6 إلى 9 هـ- 12- 15 م، (الدار البيضاء: منشورات كلّيّة الآداب، 1999). ومن ذلك: محمّد المختار ولد السعد، “الفتاوى الفقهيّة والتاريخ الاقتصاديّ والاجتماعيّ الموريتاني”، الكراسات التونسيّة، عدد 175، سنة 1996. ومن ذلك: الشيباني بنبلغيث، “أهمّيّة الفتاوى الفقهيّة الشرعيّة كمصدر لكتابة تاريخ الحضارة الإسلاميّة في العصور الحديثة”، آفاق الثقافة والتراث، عدد 12، سنة 1996. ومن ذلك: بوبة مجاني، كتب النوازل والأحكام مصدرا للتاريخ الاجتماعي: العصر الزياني نموذجا، (قسنطينة: منشورات مخبر الدراسات التاريخيّة والفلسفيّة بجامعة منتوري، 2001).

[8]  محمّد المنوني، المصادر العربيّة لتاريخ المغرب، مرجع سابق، ص: 9.

[9]  نفسه، ص: 9.

[10]  بوتشيش، تاريخ الغرب الإسلاميّ، مصدر سابق، ص: 124.

[11]  بوتشيش، مباحث في التاريخ، مصدر سابق، ص: 13.

[12]  نفسه، ص: 14.

[13]  نفسه، ص: 14.

[14]  ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون المسمّى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق خليل شحادة، الجزء السادس، (بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 2000)، ص: 129.

[15]  نستعير مصطلح الظنّيات من علم الأصول في مقابل القطعيّات. فإذا كان القطع، كما عرّفه التفتازاني مثلا، يُطلَق “على نفي الاحتمال أصلا وعلى نفي الاحتمال الناشئ عن دليل”: شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، الجزء الأوّل، (بيروت: دار الكتب العلميّة، [د.ت])، ص: 35)، فإنّ الظنّ عند الأصوليّين هو “تجويز أمريْن فزائدا أحدهما أظهر من الآخر. وغلبة الظنّ زيادة قوّة أحد المجوّزات”: أبو الوليد الباجي، المنهاج في ترتيب الحجاج، تحقيق عبد المجيد تركي، (بيروت: دار الغرب الإسلاميّ، 2001)، ص: 11. ونعتقد بأنّ الاختلاف بسيط بين المعنى الوارد في عبارة الظنّيات التي استخدمناها في سياق علم التاريخ ودلالتها المتمحّضة لعلم الأصول، وكذا الأمر بالنسبة إلى القطعيّات. فالوثيقة التاريخيّة وثيقة في القطعيّات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق