المقالات

التحول السياسي في شمال إفريقيا ثقل التاريخ وتحديات التوازنات الدولية (حالتا تونس وليبيا) (محمد باسك منار)_3_

3. استشراف أفق التحول الديمقراطي في ضوء التوازنات الراهنة:

لقد تأكد من خلال ما سبق أن للعوامل الخارجية آثار واضحة في عملية التحول السياسي بشمال إفريقيا. بكل تأكيد ليس ذلك أمرا خاصا بالمنطقة، ولكنه يشكل حالة عامة، مع بعض الاختلاف في درجة التأثير، التي لا شك نسبتها أعلى في الدول العربية بسبب وجود عوامل داخلية تساعد على ذلك. فقد استعمل أحد الباحثين تركيبا اصطلاحيا هجينا للدلالة على أهمية “التشابك العضوى” بين العوامل الداخلية والخارجية، خاصة في المنطقة العربية والمنطقة الجنوبية بشكل عام، ألا وهو: “Intermestics”، جمع فيه الحروف الأولى من كلمة international أى دولى مع الحروف الخمس الأخيرة  من Domestics أي محلي وداخلي، وأكد أن هذا التشابك يكون على عدة مستويات؛ سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية[1]، لذلك لامناص في  كل نظرة استشرافية لمستقبل التحول الديمقراطي في المنطقة من استحضار تأثير التوزنات الدولية، كما لامناص في كل فعل سياسي أو مدني من الموازنة بين المواقف المبدئية والحساب الموضوعي في العلاقة بالمحيط الدولي وما يفرضه من تحديات.

1.3_ فرص وتهديدات التوازنات الدولية الراهنة

لو ألقينا نظرة على القرون السابقة لوجدنا أن النظام الدولي اتسم دائما ب”تعددية قطبية”، و”توازن القوى”، إذ لم يكن يُسمح لدولة بمفردها أن تحقق تفوقا أو سيطرة، دون أن يستطيع تحالف الدول الأخرى التصدي لها بدرجة أكبر من القوة والجبروت[2] ، لا شك أن هذه النظرة تغيّرت شيئا ما مع نظام الثنائية القطبية، الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، ومع الهيمنة الأمريكية الواضحة بعد سقوط الاتحاد السوقياتي، لكن اليوم، ودون حماس زائد، يمكن القول أن هناك توجه من جديد نحو تعددية قطبية، من ملامحها، التي لم تتحول إلى معالم بعد، بروز قوى دولية تعارض أحيانا السياسات الأمريكية، كما هو حال الصين مثلا على المستوى الاقتصادي، وروسيا على المستوى السياسي، وهذا يبدو مفيدا لمستقبل التحول الديمقراطي في شمال إفريقيا، لكنه يتوقف على حسن استثمار القوى الداخلية للتوازنات الدولية، التي قد تكون في ظل التعددية القطبية أكثر فعالية. ومن مؤشرات تراجع الهيبة الأمريكية؛ خاصة بعد فوز “رونالد ترمب” بالانتخابات الرئاسية في 8 نونبر 2016، استخفاف العديد من الدول بالمساعدات الأمريكية، التي عرفت في الواقع تقلصا ملحوظا، و التصويت ضد اختيارات الولايات المتحدة الأمريكية رغم التهديد بمنع تلك المساعدات؛ كما حدث يوم 21 دجنبر 2017 عندما صوتت 128 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح قرار يدعو الولايات المتحدة إلى سحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، فيما اعترضت 9 دول، وامتنعت 35 دولة عن التصويت، يُضاف إلى ذلك تنامي المشاكل السياسية والاقتصادية بالولايات المتحدة الأمريكية، لكن كل ذلك لا يعني في الوقت الراهن التخلص من الهيمنة الأمريكية والتحول نحو القطبية المتعددة، إذ لا تزال أمريكا تتمتع بنفوذ عسكري وسياسي واقتصادي كبير، ولا تزال هي اللاعب الدولي الأول في الساحة العالمية، وهذا ما يُفسر استمرار الإدارة الأمريكية في غطرستها وتحديها للمنتظم الدولي، كما حدث مثلا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس بتاريخ 14 ماي 2018، وانسحابها من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومن منظمة اليونسكو، وقرارها بوقف تمويل “الأونروا”، لذلك يبقى من المهم التساؤل بخصوص تأثير الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة شمال إفريقيا.

لقد غابت استراتيجية كبرى لدى الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب الباردة[3]، ولم تظهر هذه الاستراتيجية إلا بعد أحداث 11 شتنبر 2001، وتمثلت منذ ذلك الحين في “الحرب على الإرهاب”. وكما تأثر شمال إفريقيا بعمليات إرهابية، تأثر بشعار “الحرب على الإرهاب”، و من أبرز تجليات ذلك تسويق بعض الأنظمة المستبدة لنفسها بأنها محاربة للإرهاب، لتكسب غض طرف الإدارة الأمريكية، والمجتمع الدولي بشكل عام، عن ممارساتها الاستبدادية في حق المعارضين. واليوم، يمكن القول، خاصة بعد الاندحار الواضح ل “داعش”، أن الولايات المتحدة الأمريكية تعيش من جديد شبه فراغ استراتيجي، خاصة على مستوى الاستراتيجية الكبرى، رغم محاولات التركيز المتكررة على “الخطر الإيراني” واستمرار العزف على وتر الإرهاب. واتضح ذلك مع وصول “ترمب” إلى البيت الأبيض، الذي ذهبت الكثير من التحليلات إلى أنه لا يتوفر على رؤية كلية متناسقة[4]، ولعل أبلغ تعبير عن ذلك هو ما عبر عنه “جيرمي شابيرو”، مدير الأبحاث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إذ قال: “ينبغي أن لا يعتقد أحد أنه يعرف ما سيقوم به “ترمب”، حتى لو كان هذا الشخص هو “دونالد ترمب” نفسه”[5]، ولكن مع ذلك يمكن القول أن “ترمب” ينتمي إلى المدرسة “الجاكسونية” في السياسة الخارجية، نسبة إلى الرئيس “أندرو جاكسون” (1829-1837)،  الذي كان قوميا وشعبويا وانعزاليا يكره العالم الخارجي[6]، هذا من جهة، ومن جهة أخرى اتضح جليا إلى حدود الساعة أن الرئيس الأمريكي الحالي يدير السياسة الخارجية بمنطق مالي محض، أي من خلال تقدير حجم الربح والخسارة المادية، لذلك يدعو إلى تخفيف الولايات المتحدة الأمريكية من الأعباء المالية للتحالفات العسكرية والأمنية، ويطالب بالمقابل المادي عن حمايتها لبعض الدول، ويهدد بمنع المساعدات المالية. لكن إذا كان “ترمب”  لا يرى أي دور للولايات المتحدة الأمريكية في ليبيا سوى ملاحقة “داعش”[7]، فإن أطراف أمريكية أخرى ترى ضرورة دعم الاستقرار في ليبيا، في هذا السياق يقول “توماس فالدهاوس”، قائد القوات الأمريكية في إفريقيا ( AFRICOM ) أن عدم الاستقرار في ليبيا له تأثير واضح على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في إفريقيا[8]، بهذا التصور، ورغم ما يظهر من دعم أحيانا للجنرال المتقاعد حفتر، يمكن القول أن الولايات المتحدة الأمريكية ربما تزيد من دعمها لبعثة الأمم المتحدة من أجل  تسوية النزاع بين الأطراف الليبية،  ليس فقط رغبة في الاستقرار الضروري لمصلحتها في إفريقيا، ولكن أيضا من أجل الحد من تأثير قوى دولية أخرى كإيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة وروسيا وتركيا، وقد يكون ذلك أمرا مفيدا للتحول السياسي في ليبيا. وباستثناء ذلك، يبدو أنه لن تحتل منطقة شمال إفريقيا مكانة هامة في السياسة الخارجية الأمريكية في المرحلة المقبلة، الأمر الذي يُشكل فرصة في اتجاه استقلال القرار الوطني، إلى حد ما، عن التأثير الأمريكي المباشر، لكنه يُشكل أيضا تهديدا، إذ يفسح المجال للاعبين دوليين أو إقليميين، قد يكونوا مناهضين للتحول الديمقراطي بالمنطقة، كما هو حال السعودية والإمارات اللتان تحضران بشكل بارز في ليبيا. وتونس هي الأخرى ليست في منآى عن ذلك، من خلال الدعم الإمارتي بالخصوص لبعض الجهات الإعلامية والسياسية، ولعل ما يؤكد ذلك وثيقة  “الإستراتيجية الإماراتية المقترحة تجاه تونس”، التي تسربت على الإنترنت، في منتصف سنة 2017، والتي تهدف إلى تشكيل قوة سياسية موالية للإمارات من أجل التحكم في الحياة السياسية بتونس، والحد من الحضور السياسي لحزب النهضة[9]. صحيح أنه توجد دول إقليمية أخرى، تدعم بشكل أو آخر، التحول الديمقراطي بالمنطقة، لكن ليس لها حضور من نفس حجم حضور الدول المناهضة للتحول الديمقراطي، بسبب ما تعانيه من ضغوط وحرصها على حسن علاقتها مع الأنظمة القائمة  في شمال إفريقيا.

وعلى عكس السياسة الخارجية الأمريكية المتوقعة اتجاه شمال إفريقيا يُلاحظ أن روسيا بدأت تشق لنفسها طريقا في المنطقة، ربما لما تشكله من فرصة  لبيع الأسلحة، وبناء شراكات في قطاع الطاقة، والاستثمار في تطوير البنية التحتية[10]. فقد حاولت موسكو خلال السنوات الست الماضية تنفيذ مجموع الصفقات التي سبق إبرامها مع ليبيا، كما شرعت شركة النفط والغاز الروسية الحكومية “روسنفت”، ابتداء من يوليو 2017، بشراء النفط من “المؤسسة الوطنية للنفط” الليبية. ويتطلع بوتين إلى مرفأ طبرق وغيره من الموانئ لإبرام اتفاقات محتملة لرسو السفن. وعلى المستوى العسكري و السياسي تدعم روسيا الجنرال حفتر وحكومة الوفاق الوطني. ولا تتحدد مصالحها الاستراتيجية فقط في بناء قاعدة عسكرية و بيع الأسلحة، ولكنها تريد إثبات قوتها في منطقة تكتسي أهمية خاصة لدى القوى الغربية، وبذلك ترد على تحدي الناتو لها في محيطها الإقليمي[11]، ومنذ عام 2011 ركزت العلاقة الثنائية بين روسيا وتونس على مكافحة الإرهاب والطاقة النووية والسياحة. وفي عام 2016، زار نحو 600 ألف سائح روسي تونس، في زيادة بواقع عشرة أضعاف عن العام الذي سبق، وبنسبة تخطت 10 في المائة من عدد زوار البلاد في ذلك العام[12]. هذا الحضور الروسي في المنطقة قد يُشكل فرصة لتحقيق نوع من التوازن الدولي خاصة مع الاتحاد الأوربي، الذي قد يضطر أمام هذا التنامي الروسي لتفعيل شراكاته والتقدم خطوات في دعمه للاختيارات الليبرالية، وما يرتبط بها من ديمقراطية وحقوق الإنسان وتعددية سياسية، كما فعل سابقا في علاقته بدول أوروبا الشرقية. ولا شك سيُشكل التقدم الروسي أيضا فرصة تساعد على تحرير القرار السياسي والاقتصادي بالمنطقة من الهيمنة الفرنسية. لكنه قد يشكل في نفس الآن تهديدا بالنظر إلى الاختيارات السلطوية للإدارة الروسية، هذه الإدارة التي نظرت بعين الريبة لاحتجاجات الربيع العربي، ودعمت النظام الاستبدادي بسوريا.

ويبقى لفرنسا الحضور السياسي والاقتصادي الأول في المنطقة، ولا يمكن تصور إلغاء هذا الحضور في المرحلة الحالية، ولكن قد يكون من الضروري التخفيف منه إلى أبعد الحدود، إذ  يبدو أن ارتهان بعض النخب للنمط الثقافي والسياسي الفرنسي يُسهم في تأجيج الصراع العلماني الإسلامي، الذي يكون في بعض الأحيان صراعا مفتعلا، في بلدان لها سياق تاريخي مخالف للسياق التاريخي الفرنسي، وما يزيد في خطورة ذلك أن هذه البلدان لا يوجد فيها الحد الأدنى من البناء المؤسساتي القمين باحتواء ذلك الصراع، وتحويله من اختلاف “تقاتل” إلى اختلاف “تداول”.

كما يشكل النظام الاقتصادي العالمي تأثيرا واضحا على عمليات التحول السياسي. وتأكد ذلك بشكل ملموس منذ انتهاء الحرب الباردة[13]. وإذا كانت المساعدات والقروض التي تقدمها دول كبرى ومنظمات مالية دولية مشروطة في كثير من الأحيان بسياسات التحرير الاقتصادي، والحد الأدني من قواعد الحكم الديمقراطي، خاصة في بعده الإجرائي، المتمثل في السماح بالتعددية الحزبية، وإجراء انتخابات تعددية حرة، فإن ذلك لا يكون غالبا انطلاقا من اعتبارات قيمية أو معيارية تتعلق بمبادئ الديمقراطية في حد ذاتها، وإنما رغبة في تأمين المصالح الاستراتيجية لتلك الدول المانحة[14]. ومن ثم، “فقد يكون النظام الاقتصادي العالمي، وفي القلب منه منظومة المعونة، محايدا إزاء مسألة الديمقراطية، أو حتي معوقا لها، في حالة التعارض مع مصالح أخرى جوهرية”، سواء من وجهة نظر المؤسسات المالية، أو القوي الكبري الفاعلة في إطارها[15]. كما أن “نوع الديمقراطية التي قد يلعب العامل الخارجي، وبخاصة النظام الاقتصادي العالمي، دورا في تحفيزها أو دعمها، هي في الأغلب ذات طابع إجرائي”[16]، تتمثل في إقرار بعض الإجراءات المتعلقة بالانتخابات أو التعددية الحزبية، الأمر الذي لا يكون دائما مجديا، إذ لابد لتلك الإجراءات من ثقافة حاضنة ومن توافقات داعمة للتحول من نظام سياسي مغلق إلى نظام سياسي منفتح، أو من الشرعية الثورية إلى الشرعية الانتخابية، وإلا فيمكن أن تتحول فرصة الدعم الدولي للإجراءات الديمقراطية إلى تهديد، ويمكن السقوط في “سلطوية انتخابية”، أو في تنازع الشرعيتين الثورية والانتخابية، كما حدث في ليبيا، الأمر الذي يعوق البناء المؤسسي والتحول السياسي نحو الديمقراطية. هكذا يتأكد أن استغلال بعض الفرص الداعمة للتحول الديمقراطي، والتي قد تسنح بها التوازنات الدولية، يتوقف إلى حد بعيد على العوامل الداخلية، وإلا قد تتحول تلك الفرص إلى تهديدات حقيقية، وفي مقدمة تلك العوامل الداخلية قوى التغيير، وما يرتبط بها من تفاهم وفعل في مسار التحول الديمقراطي، الذي يبقى مسارا شديد التعقيد، ومحفوفا في كثير من الأحيان بالتردد وعدم اليقين.

3-2 قوى التغيير و التوزنات الدولية: من الارتهان إلى الحساب الموضوعي

إن ثقل التاريخ وواقع تعثرات “الربيع العربي” وتحدي الضغوط الدولية والإقليمية يزيد من ثقل مسؤولية قوى التغيير، بمختلف تشكيلاتها السياسية والفكرية والمدنية والنقابية، بل إن حساسية المرحلة، التي تمر منها المنطقة العربية عموما، تجعل هذه المسؤولية الثقيلة تخرج عن نطاق البلد الواحد؛ إذ من الضروري “أن تُدرك القوى السياسية في كل بلد من بلدان الثورة أنها مؤثرة في الشعوب العربية الأخرى، وأن هذه المسؤولية شرف عظيم، وليست عبئا”[17]. إن أي استمرار لتقهقر مسارات التحول، أو أي ارتداد نحو السلطوية، خاصة في الدول التي عرفت “ثورات”، سيُشكل لا محال إحباطا عاما تصطلي بناره النخب والشعوب العربية. وقد حدث شيء كبير من هذا بسبب الانقلاب العسكري في مصر، وبسبب مآسي سوريا واليمن وليبيا. لكن هذا الإحباط العام لا يحجب بعض ما يلاحظ من جهود، على اختلاف حجمها ومستوى تأثيرها، من أجل استعادة الثورة بمصر، واستكمالها بسوريا واليمن، وتأسيس ما بعدها من انتقال في ليبيا، واستخراج هذا الانتقال من اللايقين إلى اليقين في اتجاه الديمقراطية بتونس. وقوى التغيير، والقوى السياسية أساسا، تتحمل هذه المسؤولية التاريخية في الاستعادة والاستكمال والتأسيس والانتقال. تَطلع مشروع تؤكده تجارب التحول السياسي، التي تؤكد أن التحول يكون من خلال موجات وليس موجة واحدة، وأن خط التحول لا يكون دائما تصاعديا بل تتجاذبه خطوات إلى الأمام وأخرى إلى الوراء.  

فلا يمكن التأسيس لتحول ديمقراطي ودعم هذا التحول دون وجود فاعلين محليين ملتزمين بالديمقراطية حقا، وليس شعارا فقط. ومن الخطأ اختصار الديمقراطية في عمليات انتخابية محضة، إذ تبقى الانتخابات، رغم أهميتها في البناء الديمقراطي، محدودة المفعول إذا غابت متلازماتها من حرية في التعبير والتنظيم، والحق في الوصول إلى المعلومة من مصادر مختلفة، ومواطنة كاملة[18]، بل قد تُسهم تلك الانتخابات في المزيد من الانقسام، كما حدث في ليبيا، سواء عند الإعداد لانتخابات المؤتمر الوطني العام في  يونيو 2012، أو بعد الانتخابات البرلمانية في يونيو 2014، ليتأكد مع ذلك ” أن التنافس السياسي والانتخابي من الأمور الجيدة على المدى الطويل، لكن المبالغة الكبيرة بذلك في وقت مبكر ستؤجج من حالة عدم الاستقرار”[19]، خاصة إذا كان البلد المعني لم يجرب الانتخابات لعقود من الزمن. لا يعني هذا المماطلة في تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، التي هي العمود الفقري في الديمقراطية التمثيلية، ولكن يعني ضرورة الاهتمام بالسياق السياسي والسوسيو ثقافي للانتخابات بنفس قدر الاهتمام  بإدارتها وإجراءاتها، وربما أكثر. وإذا كان تهديد الانقسام صاحب إجراء الانتخابات في ليبيا، فإن تهديد الفساد بمفهومه العام قد يصاحب الانتخابات في تونس، كما حدث في تجارب أخرى، ف”هناك اعتقاد بأن إطلاق انتخابات تنافسية في كل من كينيا وأندونيسيا قبل توفير الموارد المشروعة ونظام قضائي وحزبي فاعل جعل الفساد يتفاقم فيها”[20]. بل إن انتخابات على درجة عالية من النزاهة والحرية لا يعني القطيعة مع السلطوية، ولعل هذا ما جعل “اندرياس شيدلر” يتحدث عن الاستبدادية الانتخابية، و”ستيفن ليفتسكي” و “لوتشان أ. واي” يتحدثان عن الاستبدادية التنافسية، و”لاري دايموند” يتحدث عن الأنظمة الهجينة.

ومع الالتزام بالديمقراطية، ومن صميمها، الالتزام بما يمكن تسميته الشروط الثلاثة للتحول الديمقراطي، وهي: المأسسة والمشاركة العامة والتوافق. الالتزام بالمؤسسات والعمل المؤسساتي لاحتواء تهديد الفوضى والشخصنة، والعمل على تحقيق المشاركة العامة لضمان التعبئة العامة الضرورية لكل تحول ديمقراطي و لاحتواء تهديد الإقصاء واحتكار السلطة، والتشبث بالتوافق باعتباره الضرورة التي تفرضها المراحل الانتقالية لتحقيق المشاركة العامة ودعم المسار المؤسساتي. و قد خطت تونس خطوات فيما يتعلق بالمأسسة والتوافق، لكن يلاحظ أن البناء المؤسساتي الذي أقره دستور 2014 لم يتم تفعيله بشكل كامل، إذ لا تزال بعض المؤسسات الدستورية الهامة مجرد حبر على ورق، في مقدمة ذلك المحكمة الدستورية، التي لم يتم التوافق بشأنها. وهناك تحديات واضحة على مستوى المشاركة العامة، والضعف الواضح في نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية، التي أجريت بتاريخ 6 ماي 2018، من أبرز مؤشرات ذلك؛ إذ لم تتجاوز النسبة 34 في المائة، وهي نسبة من عدد المسجلين في اللوائح الانتخابية، وليس من مجموع من يحق لهم التصويت. فعدد المصوتين لم يتجاوز مليونا و89 ألفًا و390 مقترعًا، من أصل 5 ملايين و369 ألفًا مسجلا في سجلات الناخبين. في الوقت الذي عرفت انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 مشاركة 4 ملايين و439 ألف ناخبا. مع أنه يُفترض ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية مقارنة مع الانتخابات التشريعية، نظرا لما يتحقق فيها من قرب ومن تعبئة تغطي شرائح واسعة من الناخبين. والتراجع في المشاركة يُضعف المأسسة، وربما ينبيء باختلالات في العملية التوافقية، ولعل ما حدث، قُبيل وفاة الرئيس التونسي باجي قايد السبسي، من توتر بين حزبي النهضة ونداء تونس يؤكد ذلك[21]. هذا عن تونس، أما في ليبيا فلا يزال هناك تعثر واضح على مستوى تلك الشروط بأكملها، بما فيها الشرط التأسيسي الذي هو التوافق، لكن مع ذلك يمكن القول أن ما تعرفه ليبيا من انقسام وتناحر على خطورته من شأنه أن يُسهم في بناء “الوعي المدني”، هذا الوعي الذي غاب في مسار ما بعد الثورة، والذي أحدث ما أحدث إلى حدود الساعة  من تعطيل في التأسيس للانتقال. فالتجربة الأوروبية تؤكد أن ذلك الارتباط القيمي للمجتمعات الأوربية عموما بمجموعة من القيم، كقبول الآخر وتدبير الاختلاف سلميا والتسامح، ما كان ليتأتى لولا تجارب العنف المريرة التي عرفتها أوروبا. لا مندوحة أن الأفضل والأنجع هو الاستفادة من تجارب الآخرين في مخرجاتها الإيجابية دون تكرار سياقاتها وتفاعلاتها السلبية، لكن يبدو أن ذلك صعب المنال في غياب ثورة ثقافية و”قيمية” سابقة لثورة الميدان ومصاحبة لها.

ولا معنى للالتزام بالديمقراطية والالتزام بشروط التحول الديمقراطي دون الالتزام بالوطن، بما هو تجسيد للهوية الجامعة والمصلحة العليا. هذا الالتزام بالوطن يقي من خطر الهويات الضيقة، سواء كانت عرقية أو مذهبية أو قبلية أو سياسية، كما يقي من الانجرار إلى تمثل صراعات دولية وإقليمية داخل الوطن، يكون أكبر خاسر منها الوطن نفسه.

إن الهدف من الإشارات أعلاه التأكيد على أهمية العامل الداخلي في التحول الديمقراطي، خاصة ما يرتبط بقوى التغيير والتزاماتها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تحديد معيار حاسم يكون على أساسه التعامل مع التوازنات الدولية والإقليمية المحيطة. إنه معيار الالتزام الثلاثي الأبعاد؛ الالتزام بالديمقراطية وبشروط التحول الديمقراطي و بالوطن. على أساس هذا المعيار يمكن التعامل مع تأثيرات العامل الخارجي وما يطرحه من تحديات “قيمية” و”مصلحية”.

فالتوازنات الدولية تحكمها مصالح، كما يحكمها نشر قيم معينة لتأمين تلك المصالح والحفاظ عليها، لكن الوعي بذلك لا ينفي ضرورة الحساب الموضوعي، والموازنة بين ما قد تُشكله التوازنات الدولية من تهديد وتتيحه من فرص بحسب كل مرحلة. فإذا كان الارتهان للخارج خطر ينسف التحول الديمقراطي، فإن من الخطر أيضا الانجرار وراء مواقف عاطفية تتصور إمكانية القطيعة مع هذا الخارج ومع تأثيراته، والانجرار وراء تعميمات فاسدة ترى الخارج كثلة واحدة، ولا ترى فيه إلا التهديدات. “فإذا كان هذا الخارج مليئاً بالفعل بالقوى التي تتبع سياسات استعمارية، فهو غني أيضا بقطاعات واسعة من الرأي العام والهيئات والمنظمات الدولية التي تؤمن بقيم التضامن والحرية والعدالة والمساواة، وتدافع عن مبادئ التعايش السلمي والتبادل المثري”[22] ، ولا مانع من استثمار ما تقدمه تلك القطاعات الواسعة من تضامن ودعم لمسار التحول الديمقراطي على أساس المصلحة المشتركة والالتزام الثلاثي الأبعاد (الديمقراطية، الشروط المؤسسة للتحول الديمقراطي، الوطن)، الذي من المفترض أن يجعل الدعم الخارجي لا ينصرف إلى أطراف سياسية بعينها، ولكن ينصرف إلى بناء هياكل الدولة وأجهزتها، وإلى المأسسة بما فيها مأسسة الحوار المفضي إلى التوافق، وإلى دعم المشاركة العامة وما يرتبط بها من إجراءات وقيم مشتركة. ولا يتعلق الأمر فقط بالمنظمات غير الحكومية بل “هناك حكومات ودول تسعى إلى تحقيق مصالح مشروعة وطبيعية وتنحو في تعاملها مع غيرها نحو الالتزام بقواعد قانونية تقوم على الاحترام المتبادل للسيادة والمصالح المشتركة”.[23] مع التأكيد على أن التعامل على أساس توازن المصالح وتبادلها يتطلب بناء قدرة داخلية، بمشاركة كل القوى الراغبة في التحول الديمقراطي، من خلال ميثاق وطني يجسد الالتزام الثلاثي الأبعاد الآنف الذكر، ويُشكل أساسا مذهبيا للدولة، يُبعدها عن تقاطبات “دولة إسلامية”/ “دولة علمانية” المعطلة للتحول الديمقراطي.

استنتاجات على سبيل الختم

الاستنتاج الأول: إن الفترة الاستعمارية بشمال إفريقيا شكلت ثقلا معيقا للتحول السياسي، نظرا لما خلفته من ارتباط لمصالح غير مشروعة بين القوى الاستعمارية ونخب حاكمة. فقد دعم الاستعمار الاستبداد بشمال إفريقيا رغم بعض مظاهر التحديث التي خلفها. واستمر ذلك التبادل المصلحي غير المشروع حتى بعد الحصول على الاستقلال، مما كان له أسوأ الأثر على طبيعة الأنظمة السياسية بدول شمال إفريقيا، وعلى المسارات السياسية التي عرفتها هذه الدول، لتتأكد الحاجة إلى إصلاح، ظل مفقودا رغم بعض المشاريع والمبادرات، بسبب تراكمات الاستبداد والفساد، التي انتهت إلى تآكل الكثير من وسائل الإصلاح نفسها.

الاستنتاج الثاني: لقد شكل الربيع العربي محاولة جدية لتحول سياسي في شمال إفريقيا، وتأكد منذ البدايات الأولى للاحتجاجات المنحى الديمقراطي الذي يرغب فيه المحتجون، لكن مسارات هذا التحول ومآلاته اختلفت من بلد إلى آخر باختلاف مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية. وقد كان للمحيط الدولي والإقليمي تأثير واضح في بعض الانعطافات التي عرفها مسار الثورة الليبية والتونسية، لكن مع ذلك، هناك نقص واضح في الدعم الدولي للدمقرطة بالمنطقة رغم كل الوعود والإعلانات. وقد كان للتوازنات الدولية والصراعات المرتبطة بها، في غياب تفاهمات استراتيجية بين الفاعلين المحليين، تأثير سلبي على عملية التحول السياسي في ليبيا التي أصبحت ساحة للحرب بالوكالة.

الاستنتاج الثالث: لقد تأكد أن للتوازنات الدولية، قديما وحديثا، تأثير في منطقة شمال إفريقيا، لذلك لا يمكن التطلع لتحول ديمقراطي دون استحضار ذلك التأثير، الذي لا ينبغي تهويله، كما لا ينبغي التهوين منه؛ إذ يُطلب من الفاعل السياسي والمدني التخلص من “وضعية المستقيل”التي تجعله مستسلما لفكرة عدم إمكانية التحول الديمقراطي في ظل الظروف الدولية والإقليمية الحالية، ومن “وضعية المرتهن” بارتمائه في أحضان قوى دولية وإقليمية لتحقيق التحول، وأيضا التخلص من “وضعية المغامر” الذي لا يقيم أي وزن لتلك التوازنات إلى أن يصطدم بها.

الاستنتاج الرابع: تأكد من خلال الهبات الشعبية للربيع العربي أن الأولوية في التحول الديمقراطي للعامل الذاتي ، لكن تأكد أيضا، من خلال مسارات ما بعد الحراك، ضرورة استحضار ما للتوازنات الدولية من تأثير، و إخضاعها لحساب موضوعي لتجنب تهديداتها وحسن استثمار ما قد تتيحه من فرص. ويبقى ذلك رهين إلى حد بعيد بنضج قوى التغيير والتزامها بالديمقراطية وبالوطن، بما هو مصلحة عليا وهوية جامعة. والتزامها بمتطلبات التحول الديمقراطي من توافقات تاريخية ومأسسة فاعلة ومشاركة عامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق