المقالات

التربية بالفتوى في الخطاب الفقهي المعاصر(محمد عصام تليمة)

مما أخذ على الفتوى في مراحل متعددة من تراثنا الفقهي: خلوها من الجانب الروحي، أو التربوي، أو الربط بين الفتوى والتربية بكل مجالاتها، وعرضنا لبعض محاولات الوصل بين التربية والفتوى في تراثنا الفقهي، وازداد الجفاء أو الفصل بينهما في تراثنا الفقهي المعاصر، لكن اللافت للنظر أن الخطاب الفقهي في المائة عام الأخيرة، بدأ ينتبه بعض فقهائه إلى هذا الجانب، فلا تقف الفتوى عند ذكر الرأي الفقهي، أو الإجابة عن السؤال فقط.
وحتى يكون لدينا دقة علمية، فهي ليست ظاهرة عامة في الخطاب الفقهي المعاصر، بل ينعدم عند فقهاء، ويوجد عند آخرين، ومن يوجد عندهم ليسوا في كل سياق يستدعون أو يستحضرون الهدف التربوي في الفتوى، لكنه موجود بشكل ما، يتسع عند البعض، ويضيق عند آخرين، ونعطي بعض النماذج والملامح لوجوده، للدلالة على تواجد هذ الخطاب بدرجة ما، وتحليل ما وراء هذا التوجه عند بعض الفقهاء المعاصرين.
حسنين مخلوف والمفاضلة بين التقي الأعمى أم البصير:
من أصحاب الفتاوى الذين عنوا بأن يتخذوا من الفتوى وسيلة تربوية، الشيخ حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق رحمه الله، وله فتاوى من جزئين في مجلد واحد، فقد سئل رحمه الله: أي الرجلين أفضل عند الله تعالى، تقي أعمى لا يرى بعينيه المنكرات، أو تقي بصير يراها ويجاهد نفسه فيها؟ فأجاب، بعد أن بين حكمة الله في جعل بعض عباده مبصرين، وبعضهم عميانا.
فقال: (على أن الأعمى وقد فقد حبيبتيه، إذا صبر على بليته عظم أجره، وعوض عنهما الجنة، كما في حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله عز وجل قال: إن ابتليت عبدي بحبيبتيه (أي: عينيه)، فصبر عوضهته عنهما الجنة” رواه البخاري، فله بذلك كبير فضل على البصير من هذه الجهة.
وإذا نظرنا إلى أنه هو البصير وإن اشتركا في ثواب جهاد النفس، فيما يدرك من الموجودات بالسمع، وباقي الجوارح، عدا البصر، فقد انفرد البصير بمجاهدة النفس فيما يدرك بحاسة البصر، وليس هو بالأمر القليل، فإذا وقى نفسه من هذه المرئيات الفاتنة، كان ثوابه أعظم من الأعمى من هذه الجهة فلكل فضيلة ومزية، وقد يكون الشيء الواحد فاضلا من جهة، ومفضولا من جهة أخرى).
فالشيخ مخلوف رحمه الله في فتواه، لم يذهب للنصوص التي تفاضل بين العمى والإبصار، وهي موجودة لو أراد الاحتكام إليها، لكنه ذهب للمعنى التربوي المهم هنا، والذي ينبغي أن يغرس في نفس المستفتي، وهو مجاهدة النفس، وترويض الحواس على طاعة الله، سواء كانت موجودة، كمن يبصر بعينيه، فعليه صونها عن النظر الحرام، ومن فقدها، فيجاهد بها نفسه، بالصبر على البلاء، ومنع نفسه من الحرام، فإنه يمكنه الحس والذوق واللمس، وهو ما يستعاض به عند فاقدي البصر.
وهذا التوجه أعتقد أن الشيخ مخلوف أفاد منه من كثرة اطلاعه على تراث شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وبخاصة الأخير، فقد عني مخلوف بتحقيق فتاوى ابن تيمية، وغالب الفقهاء الأزهريين المعاصرين الذين اطلعوا على تراث هذه المدرسة أفادوا منها إفادة كبرى، وتجنبوا ما أخذ عليها من مآخذ، وهو شأن كل عمل بشري، يؤخذ منه ويترك.
معاملة زهايمر الأب كمرض لا جنون:
ومن هذا النوع من الفتاوى، والتي تحمل دلالات مهمة، ما حدث من ورود بعض الأبناء على الشيخين الجزائريين: الشيخ موسى إسماعيل، والشيخ الطاهر آيت علجت، فقد توجه إليهما أبناء أصيب والدهم بالزهايمر، فذهبوا يستفتون الشيخين في هذا الأمر: فقالوا للشيخ موسى إسماعيل: والدُنا مريض بـالزهايمر، فهو يأكل ناسيًا في نهار رمضان فماذا علينا فعله؟
فأجابهم: أبوكم قد زال عقله، والعقل مناط التكليف، فهو غير مكلف بالصوم أصلًا، وبالتالي فلا شيء عليه. ثم ذهبوا للشيخ الطاهر بنفس السؤال، فأجابهم بهذه الإجابة اللافتة للنظر، فقال: أطعموا عن والدكم عن كل يوم مسكينًا، فلئن تعاملوا والدكم معاملة المريض، أحب إليَّ من أن تعاملوه معاملة المجنون. فسمع الشيخ موسى إسماعيل بهذه الفتوى، فبكى وقــال: حفظ الله الشيخ الطاهر، فالفتوى قبل أن تكون فتوى، يجب أن تكون تقــوىٰ.
فالملاحظ هنا أن فتوى الطاهر كانت فتوى تقوى وبر، وأدب مع الوالد، رغم أنها ستكلفهم إما الصوم عن والدهم، وإما الإطعام عنه، لأنهم سيعاملونه معاملة المريض، ولو أنهم عاملوه معاملة من ذهب عقله، فحاله كحال المجنون، وهو مرض أيضا، لكنه مرض له دلالات نفسية وانطباعية ليست جيدة في النفس، في المعاملة مع الوالدين. ورأى أنه من العقوق أن يعامل الأبنـاء أباهـم معاملة من ذهب عقله حاله كحال المجنون، بل أمرهم أن يعاملوه معاملة المريض.
القرضاوي رائدا للتربية بالفتوى:
وللإنصاف والحقيقة العلمية، فإن أكثر من تجلى عنده هذا الملمح في عصرنا، في ربط الفتوى بالدعوة والتربية، بل الفتوى بلغة أدبية رشيقة، وعالية، مما يعد رائدا للتربية بالفتوى في العصر الحديث: العلامة المرحوم الدكتور يوسف القرضاوي، فقل أن تخلو فتوى من فتاويه – أو تناول قضية فقهية – من الجانب التزكوي، أو التربوي، رغم أن الفتوى أو القضية المتناولة، قد تكون فقهية بحتة، ولكن الحضور التربوي بارز في تناول القرضاوي لها. ولا يتسع المقام لذكر نماذج من فتاويه، لكنا نذكر نموذجا من باب التدليل على ما ذكرنا.
أجر التائب من المال الحرام:
سؤال متكرر في الحياة المعاصرة، وهو قديم حديث، حول التوبة من المال الحرام، وبخاصة ما يكون من الأموال المشبوهة، أو المأكولة من الربا، فنجد جل من يفتون في المسألة، تكون إجابتهم كالتالي: للتائب من مال الربا، أن يسترد رأس المال، لقوله تعالى: (وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون، ولا تظلمون) البقرة: 280، وعن ماذا يفعل التائب بالمال المكتسب من الحرام؟ يجيب المفتون بأنه يتطهر منه، ولا يحل له أن يتصدق به، ولا يخبر الجهة التي أعطاها المال الحرام بأنه محرم، وإلا حرم عليها الانتفاع به، ولا أجر له في ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا”.
إلى هنا تنتهي فتوى معظم بل جل المشايخ، وهي فتوى صحيحة من حيث النظر الفقهي المجرد، لكن القرضاوي ينحو منحى آخر لم نجد من تناوله قبله في المسألة، فهو يقر بكل ما مضى من أقوال الفقهاء، بالتوبة من المال الحرام، وعدم الانتفاع به، ولكنه ينفي عنه الأجر هنا من حيث ثواب الصدقة، لكنه يجعله مأجورا من جهتين أخريين:
(الأولى: أنه تعفف عن هذا المال الحرام، ومن الانتفاع به لنفسه بأي وجه، وهذا له ثوابه عند الله تعالى.
الثانية: أنه كان وسيط خير في إيصال هذا المال إلى الفقراء والجمعيات الإسلامية التي تستفيد منه. وهو مثاب على هذا إن شاء الله).
التربية الروحية مستندا للفتوى عند القرضاوي:
والملمح الأبرز لحضور التربية في الفتوى عند القرضاوي، هو اتخاذ القرضاوي التربية الروحية مستندا للفتوى، فقد يكون المستند الفقهي يميل للجواز، أو ينتهي بالفتوى للجواز، لكن النظر إلى الأثر التربوي والمجتمعي، يدفع الفقيه للمنع، وهو ما رأيناه في فتاوى عدة عنده، ولكنها أوضح ما تكون في فتويين للقرضاوي، في موضوع واحد، وهو موضوع: جوائز السحب، حيث تقوم بعض الشركات والمحلات التجارية، بصرف كوبونات سحب على المشتريات، وتكون نتيجة ذلك: مكافأت، وجوائز، وقد أفتى القرضاوي أولا بجوازها، وقد دلل على جوازها بالنظر الفقهي، من حيث خلوها من القمار والميسر.
ثم أفتى بعد ذلك في فتوى أخرى بحرمتها، واستند في التحريم إلى أسباب تتعلق بالأخلاق والتربية الروحية للمجتمع، فقد استند القرضاوي في التحريم على أن هذه المعاملة تزكي روح الأنانية، وتنافي روح الأخوة، ويقتل في الإنسان روح الإخاء، ويزكي روح الأنانية والجشع، والاستئثار بالمال والربح، وهي روح غرستها الرأسمالية في مجتمعاتنا، كما أنها تشتمل على ظلم مجموع المستهلكين لحساب واحد، وتغرس في الناس روح الإسراف، وشراء ما لا يحتاجون إليه، وتحول المجتمع إلى مجتمع استهلاكي.
وهناك فتاوى أخرى كثيرة تسير على هذا المنوال، من حيث التأصيل والتدليل، بل قلَّ أن تخلو فتوى من هذا المزج بين الفقه والتربية الربانية، وقد أزالت هذه الميزة عن فتاوى القرضاوي، ما اتصفت به الفتاوى عند غيره بالجفاف، سواء من حيث الجفاف الروحي، أو الجفاف الأدبي، فقل في عصرنا من يكتب الفتوى والفقه بلغة أدبية رائقة، وسلسة، وربط الفتوى بالتربية، وقبل ذلك كله: التمهيد والمدخل الذي يقوم به القرضاوي في الفتوى، مما يهيئ السائل أو القارئ للموضوع، وهو ما امتاز به القرضاوي بين فقهاء عصره.
وفي تقديري: أن هذا الاهتمام بالربط بين التربية والفتوى في الخطاب الفقهي الحديث عند الفقهاء الذين ذكرناهم وغيرهم، سببه الرئيس: هو اشتغال عدد منهم بالجانب الدعوي، من حيث الممارسة، والانشغال بها، وليس مجرد الاهتمام بالدعوة إلى الله، بل ممارسة الخطابة، والكتابة، والعمل الدعوي، مما ولد لدى المشتغلين منهم بالدعوة – وهم في الأصل فقهاء – احتكاك بالناس، وإلمام بحاجاتهم، ولمس أهمية هذا الربط، بل العمل على وضعه ضمن الفتوى، كروشتة للعلاج الفقهي والدعوي معا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق
إغلاق