التطرُّف ومعركة المصطلحات(التيجاني بولعوالي)_1_
تُعالج هذه المقالة مسألة التطرُّف التي كتب عنها الكثير شرقاً وغرباً، وخضعت مختلف حيثيّاتها وأبعادها وتجلّياتها للتحليل والمدارسة، وقد استرعى انتباهي تركيز الباحثين أكثر على البُعد الميداني الملموس في مقاربة هذه الظاهرة دون تأمّل المراحل القبليَّة التي تسبق نشوء التطرُّف في الواقع المعيش، لا سيَّما على مستوى الوعي السيكولوجي والذهنيّ، ثمَّ مستوى اللّغة والتخاطب، فهناك تشهد نزعة التطرُّف تكوُّنها في شكل مشاعر وانفعالات وردود أفعال قبل أن تُترجم إلى سلوكات وممارسات ملموسة في الواقع.
وقد اكتفيت في هذا التناول بالمجال اللّغوي والتواصلي، الذي يشهد ما يشبه معركة للمصطلحات والرموز والإشارات عادة ما يعتريها الغموض الدلالي والتداخل المعنوي والتوظيف الإيديولوجي. وتجاوزاً لذلك، ميّزت بين مصطلحي الجذرانيَّة والتطرُّف اللذين غالباً ما يُستعملان بالدلالة نفسها رغم الفارق الواسع بينهما. ثمَّ حدّدت مفهوم التطرُّف التحديد المعجمي والاصطلاحي والفقهي الأنسب، الذي يكشف عن تعارضه مع روح الإسلام السمحة والاعتداليَّة. وهذا ما يكاد يغيب في شقّ كبير من الخطاب الإعلامي والفكري الغربي، حيث يتمُّ الخلط بين شتى المفاهيم كالأصوليَّة والأرثوذوكسيَّة والراديكاليَّة والتطرُّف، كما أنَّه قلّما يتمُّ تقديم التطرُّف بكونه ممارسة مردودة في الإسلام؛ كتاباً وسنَّةً وإجماعاً وثقافةً.
صراع على مستوى اللّغة قبل الواقع
يُعتبر “الصراع” من بين المفاهيم التي تشغل حيّزاً مهمَّاً في لغة الإنسان، فهو نزوع نحو إثبات الذات مقابل نفي الآخر، والتمسُّك بأسباب البقاء مقابل درء كلّ ما قد يُفضي إلى الفناء. وهذا يعني أنَّ القابليَّة للصراع شيء غريزي لدى الإنسان، ينشأ في النفس مشاعر وانفعالات تخضع لعمليَّات ذهنيَّة ومنطقيَّة في وعي الإنسان، وعندما يكون الموقف الباعث على الصراع قويَّاً لدى الإنسان يعجز عن التحكّم في الجانب الانفعاليّ، الذي تتحقّق له الغلبة على حساب الجانب المنطقي، غير أنَّه عندما يكون الموقف عاديَّاً يمكن للإنسان أن يتجاوز انفعالاته السلبيَّة، فيجنح إلى السلم والمصالحة بدل الصدام والمشاحنة. وتختلف قوَّة التحكّم السيكولوجيَّة من شخص إلى آخر، وهي تتأثّر بعوامل متنوّعة كالتركيبة النفسيَّة وطبيعة التربية والبيئة الدينيَّة والثقافيَّة والتأثيرات السياسيَّة والاقتصاديَّة.
وهذا يعني أنَّ الصراع في المقام الأوَّل قيمة معنويَّة ونفسيَّة قبل أن تنتقل من الذات إلى الوجود، من الذهن إلى الواقع ومن التصوُّر إلى اللغة، حيث تخضع لطبيعة السياق، فتصطبغ بظروفه وملابساته وتحدّياته، لتتحوَّل إلى قيمة ماديَّة يصبح فيها فعل الصراع ملموساً من حيث تأثيره وآثاره. لذلك ينبغي التركيز أوَّلاً على تكوُّن المفهوم، ليس على المستوى الاشتقاقيّ Etymological فقط، بل على مستوى الوعي النفسيّ والذهنيّ أيضاً؛ هناك ينولد ويتشكّل المعنى الذي تحمله أيَّة لفظة قبل أن تخرج إلى الوجود، فتخضع لتوافق المجتمع، وتصبح مصطلحاً معتمداً بمجرَّد ما يصطلح الناس عليه.
ثمَّ إنَّه عادة ما ينصرف الإنسان إلى مفهوم الصراع في بعده الواقعي المادّي دون أن يتأمَّل جذوره السيكولوجيَّة والذهنيَّة والاشتقاقيَّة، وهذا ما ينطبق على اللّغة بصفة عامَّة، التي نشأت أوَّل ما نشأت في وعي الإنسان قبل أن تنتقل إلى الواقع. ولعلَّ هناك من سوف يعزو التركيز على “ماديَّة” الصراع أو الصراع “المادّي” إلى طبيعة المجتمع المعاصر المعولم، الذي ساهم في إبراز البُعد الماديّ لهذه القيمة، فترتَّب عن ذلك ظهور نظريَّات معرفيّة في هذا الاتجاه، كصدام الحضارات، والهويَّات القاتلة، وما بعد الحداثة، وتفكيك التطرُّف، وغيرها كثير. لكن ما يكاد يُغفل في هذه النقاشات الفكريَّة هو كون تلك الصراعات تبدأ أوَّلاً في سيكولوجيَّة الإنسان، ثمَّ تنتقل بعد ذلك إلى المجال اللغوي التواصلي قبل أن تترجم على أرض الواقع في شكل صدامات وحروب وعمليَّات ميدانيَّة.
بين سياسة الكلمات ومعركة المصطلحات
إنَّ السؤال الإشكالي هنا ينصبُّ بالدرجة الأولى على مسألة الصراع في تجلّيها اللّغوي التواصلي؛ وأُقدّم نموذجاً لذلك مصطلح التطرُّف (الدّيني) الذي بات يهيمن اليوم على لغة الإعلام والسياسة والأدب والفكر، كأنَّ الصراع الذي يشهده الميدان يوازيه صراع آخر على مستوى الخطاب والمفهوم، وهذا ما أستعير له عبارة “معركة المصطلحات” التي نعثر على صدى لها لدى المفكّر إدوارد سعيد في حديثه عن “سياسة الكلمات”، والمفكّر محمَّد عمارة في كتابه حول معركة المصطلحات بين الإسلام والغرب2.
يتحدَّث إدوارد سعيد في كتابه تغطية الإسلام عن مفهوم سياسة الكلمات الذي يعني به التراشق بين الغرب والإسلام، وهو يتَّسم بـ”التحدي والإجابة، وفتح مجالات تعبيريَّة معيَّنة وإغلاق غيرها، وكلُّ ذلك هو ما يشكّل “سياسة الكلمات” التي يحاول عن طريقها كلّ طرف إنشاء مواقف معيَّنة، وتبرير أفعال معيَّنة، وفرض بدائل معيَّنة على الطرف الآخر”3. وهذا يدلُّ على أنَّ الصراع بين الغرب والإسلام صراع على مستوى الخطاب والرموز والمصطلحات، ففي هذا المستوى تتشكَّل العوامل الأولى للمواجهة الميدانيَّة التي ما هي إلّا نتيجة لصراع سيكولوجيّ ولغويّ ورمزيّ. بل إنَّ الأطراف المتصارعة تحدّد مسبّقاً مواقفها وأفعالها وبدائلها من خلال سياسة الكلمات. وهذا ما ينطبق بشكل أو بآخر على معركة التطرُّف التي تبدأ في الوعي والتأويل، ثمَّ تترجم في اللّغة التخاطبيَّة أو الرّمزيَّة قبل أن تُنزّل على أرض المواجهة.
أمَّا محمّد عمارة، فيرى أنَّ العلاقة بين الإسلام والغرب تنطبع باختلاف معاني الكثير من المصطلحات المشتركة بين الطرفين، ما يخلق التناقض والإبهام، ويجعل الحوار والتواصل ضعيفاً وباهتاً. يعبّر عن ذلك بقوله: “إذا نحن نظرنا إلى هذه الألفاظ والمصطلحات من زاوية “المضامين” التي توضع في أوعيتها، ومن حيث “الرسائل الفكريَّة” التي حملتها “الأدوات/ المصطلحات” فسنكون بحاجة، وحاجة ماسَّة وشديدة، إلى ضبط معنى هذه العبارة، وتقييد إطلاقها وتحديد نطاق الصلاح والصلاحيَّة التي يشيع عمومها من عموم ما تحمل من ألفاظ”4. وقد تناول الباحث العشرات من المصطلحات التي يختلف مفهومها بين الاستعمال الإسلامي والتوظيف الغربيّ، ليثبت أنَّ ثمَّة معركة مصطلحات بين العالمين الإسلامي والغربي. غير أنَّ تركيزه انصرف أكثر إلى التعارض الدلالي القائم في استعمال المصطلح الواحد بمعنيين مختلفين ومتضادَّين، إذ يدلُّ في الإسلام على معنى ما يختلف جذريَّاً عن المعنى المعتمد في الغرب.
ما يهمُّ أكثر في هاتين الرؤيتين هو جانب الصراع الذي ينشأ أوَّلاً في اللّغة والخطاب، ويمارس سلطة نافذة ومصيريَّة على القرارات الواقعيَّة، فـ”سياسة الكلمات” هي التي تحدّد طبيعة التعامل السياسي والعسكريّ مع مختلف بؤر التوتّر، و”معركة المصطلحات” هي التي تكشف عن الفجوة المعرفيَّة والإيديولوجيَّة والنفسيَّة بين الذات والآخر. ولمَّا نتأمل مفهوم التطرُّف في ضوء هذا التصوُّر، ندرك أنَّه يحضر بشكل مكثّف في لغة الإعلام والفكر والتخاطب، حيث يخضع لقولبة رمزيَّة وتعبيريَّة واستعراضيَّة، غير أنَّ هذا الحضور الدلالي يشوبه أكثر من خلل وإسفاف.
حول الراديكاليَّة والتطرُّف
إنَّ معالجة مفهوم التطرُّف لا سيَّما في الخطاب اللّغوي التواصلي (الإعلامي) تُلقي بنا في زخم من المصطلحات المثيرة، كالأصوليَّة والأرثوذوكسيَّة والراديكاليَّة والتطرُّف والإرهاب. وعادة ما تُستعمل هذه المصطلحات في وسائل الإعلام الغربيَّة بشكل متقاطع وأحياناً متماثل، رغم أنَّها لا تدلُّ على الشيء نفسه. فكلُّ مصطلح يختلف عن الآخر من حيث حمولته الدلاليَّة وسياق تكوُّنه الاشتقاقي والنفسي والتاريخي. بل إنَّ أغلب هذه المفاهيم غربية المنشأ والسياق والشروط، غير أنَّه غالباً ما يتمُّ إسقاطها على الواقع العربي الإسلامي بشكل حرفي وقسري لا يراعي طبيعة الدّين والتاريخ واللّغة والثقافة. وهكذا نشهد معركة مفاهيم حامية الوطيس يتمُّ فيها ربط كلّ ما هو ديني إسلامي بالتطرُّف، وإن كان الإسلام في روحه يتعارض مع التطرُّف؛ فالقرآن الكريم الذي يزخر بقيم ومفردات الرَّحمة والتسامح والسلم، يوصم من قبل البعض بأنَّه كتاب يدعو إلى العنف والهيمنة والحرب.
كما أنَّ كلَّ مفهوم يحيل في الذاكرة الغربيَّة على دلالة سلبيَّة عادة ما تُلصق بالإسلام دون أيّ تمحيص أو موازنة، فالإسلام أصولي، رغم أنَّ الأصوليَّة ترتبط في التاريخ الأوروبي بالبروتستانتيَّة، والإسلام أرثوذوكسيّ، رغم أنَّ الأرثوذوكسيَّةOrthodoxie مذهب مسيحي يدعو إلى العودة إلى أصول العقيدة النصرانيَّة، والإسلام راديكالي، رغم أنَّ الراديكاليَّة Radicalism ترتبط تاريخيَّاً بمصطلح الراديكاليَّة الليبراليَّة الذي ظهر أواخر القرن التاسع عشر، ويعني الراديكاليّين التقدميّين الذين كانوا يواجهون المؤسَّسة الليبراليَّة التقليديَّة، وغير ذلك من الإطلاقات المصطلحيَّة. ولا يمكن تفسير هذا الإسقاط المسف لكلّ ما يحمل نوعاً من التمرُّد أو العصيان في التاريخ الغربي على راهن الإسلام إلّا بنزعة الإفراغ السيكولوجي التي عبَّر عنها مونتجومري وات بقوله: “في عالم اليوم، وبفضل ما أسهم به فرويد من أفكار، نعلم جيّداً أنَّ الظلمة التي ينسبها المرء إلى أعدائه ما هي إلّا إسقاط للظلمة الكامنة فيه هو، والتي لا يريد الاعتراف بها. وعلى ذلك فإنَّه ينبغي علينا أن ننظر إلى الصورة الشائهة للإسلام باعتبارها إسقاطاً لما اكتنف عقول الأوروبيين من جهالة”5. ومع أنَّ الغرب بلغ اليوم ذروة التقدُّم المعرفي والتكنولوجي، إلّا أنَّه ما زالت توجد بين ظهرانيه طائفة تتمسّك بالنرجسيَّة الغربيَّة التي تعتبر الآخرين أطرافاً لا معنى لها، أو أطرافاً مُهدِّدة يحقُّ للغرب كسر شوكتها على مستوى الخطاب والواقع.