التطرُّف ومعركة المصطلحات(التيجاني بولعوالي)_2_
التطرُّف في مواجهة وسطيَّة الإسلام:
إنَّ المعادل اللّغوي للفظة التطرُّف في الكثير من اللّغات الأوروبيَّة المعاصرة هو Extremism، وتستعمل في اللّغة العربيَّة مرادفات قريبة من هذا المعنى كالتشدُّد والتزمُّت. ويُعرَّف هذا المصطلح في المعاجم العربيَّة بكونه نقيضاً للاعتدال والوسطيَّة، وذلك تأسيساً على الدلالة المعجميَّة الأصليَّة، حيث تشتقّ لفظة التطرُّف من الجذر الثلاثي (طرف)، وهو “حَدُّ الشيءِ وَحَرْفُهُ”، ويدلُّ أيضاً على عدم الثبات في الأمر، والابتعاد عن الوسطيَّة، والخروج عن المألوف ومجاوزة الحَدِّ، والبُعد عمَّا عليه الجماعة. ويضيف لسان العرب إلى ذلك معنى “الابتعاد عن الوسط والوقوف في الطرف”. وفضلاً عن ذلك، تعتبر المعاجم اللّغويَّة أنَّ للإنسان طرفين: لسانه وذكره، وكلّما مال إلى أحدهما أصبح متطرّفاً أو تطرُّفاً! ورجل طرف ومتطرف ومستطرف: لا يثبت على الأمر. وامرأة مطروفة: تطرف الرجال، أي لا تثبت على واحد9.
تأسيساً على هذه التعريفات اللّغويَّة والمعجميَّة يتَّضح أنَّ مصطلح التطرُّف المشتق من الجذر “طرف” يعني نقيض الوسط أو التوسُّط، ليس بالمفهوم الفيزيقي الذي يشغل فيه الوسط مساحة محدَّدة بين طرفين، بل بالمفهوم المعياري الذي يحيل فيها كلّ تموقع على قيمة أخلاقيَّة أو إيديولوجيَّة معيَّنة؛ فالوسط يشير إلى الاعتدال أو التوفيق، واليمين يعني المحافظة، واليسار يرمز إلى التقدّميَّة. والإنسان الذي يخرج عن حدود الوسط أو المركز يُنظر إليه بأنَّه يكسر المألوف، وينحرف عن الجماعة، لا سيَّما عندما يغلو في الخروج، ويبتعد أكثر عن القيم المعتادة ليس في الوسط فقط، بل في اليمين واليسار التقليدي أيضاً، ما يترتَّب عنه إمَّا تطرُّف يميني، وإمَّا تطرُّف يساري.
ولم يخْلُ المصدر الأوَّل للتشريع الإسلامي الذي هو القرآن الكريم من ورود لفظة الطرف في ثمانية مواضع بمعانٍ مختلفة، منها ثلاثة مواضع بدلالة واحدة، وهي الآية 48 من سورة الصافات (وعندهم قاصرات الطَّرف عين)، والآيتان 52 و56 من سورة الرحمن؛ (وعندهم قاصرات الطَّرف أتراب)، (فيهن قاصرات الطَّرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان). وأثناء مراجعة تفاسير القرآن الكريم يُلْحظُ أنَّ قاصرات الطَّرف تعني حابسات الأعين على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم. وحسب استيعابي لهذا التأويل يبدو لي أنَّ الأزواج هنا بمثابة “الوسط” الذي تتمسك به هؤلاء الزوجات اللواتي لا يملن إلى “طرف” غيره.
ويُستنبط أيضاً من التحديدات المذكورة أعلاه أنَّ مفهوم التطرُّف يتَّسم بجملة من الأوصاف مثل: عدم التوسُّط، الخروج عن الوسط إلى طرف معيَّن، عدم الثبات على أمر معيَّن، عدم الالتزام. وهذه كلّها أوصاف تنطبق على الشخص المتطرّف. ثمَّ لا يمكن حصر معنى التطرُّف في صفة عدم التوسُّط فقط، لأنَّ هناك من الناس من يقف في طرف معيَّن، غير أنَّه يبقى متسامحاً في تعامله ومتمسّكاً بقيم مجتمعه. وهناك أيضاً من الناس من لا يثبت على أمر معيَّن، لأنَّ سُنَّة الحياة تقتضي التجدُّد والتغيُّر، لذلك فإنَّ مفهوم التطرُّف لا يكتمل ولا يستقيم إلّا بحضور أغلب هذه الأوصاف والملامح.
وتزخر السُّنَّة النَّبويَّة بمواقف ترفض كلَّ مظاهر التطرُّف والغلو، وتجدر الإشارة هنا إلى الحديث النَّبوي حول المتنطّعين، حيث ورد أنَّ الرسول ـصلّى الله عليه وسلّم ـ قال ثلاثاً: هلك المتنطّعون، “أي المتعمّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم”، كما جاء في حاشية شرح النّووي على مسلم10. والتنطّع بهذا المعنى لا يختلف عن التطرُّف الذي قد يصدر عن أيّ شخص بغضّ النظر عن توجُّهه الفقهي أو المذهبي؛ فالأصولي الذي يبالغ في ليّ النّصوص الشرعيَّة إلى الدرجة التي تجعلها تتعارض مع روح الإسلام قد يكون متنطّعاً ومتطرّفاً، والعقلاني الذي يغلو في توظيف النّظر العقلي والفلسفي قد يكون أيضاً مجاوزاً ومتطرّفاً. أمَّا القتالي الذي يخضع النصوص الدينيَّة لإيديولوجيَّته المذهبيَّة، فإنَّ تطرُّفه يتخطَّى كلَّ المعايير الدينيَّة والمنطقيَّة والعرفيَّة.
ونخلص هنا إلى ثبت ثلاث مسائل جوهريَّة تعتري توظيف مصطلح التطرُّف في المجال اللّغوي المعاصر: أوَّلها أنَّه عادة ما تستعمل لفظة التطرُّف في تداخل أو تماثل مع غيرها من الألفاظ القريبة منها دلالة، بل ولا يتمُّ التمييز في أحيان كثيرة بين الجذرانيَّة Radicalism من جهة والتطرُّف Extremism من جهة أخرى. وثانيها أنَّ مفهوم التطرُّف اللّغوي والمصطلحي والفقهي يثبت أنَّ هذه القيمة السلبيَّة تتعارض مع مبادئ الدّين الإسلامي الذي يتأسَّس على الوسطيَّة والاعتدال. وثالثها أنَّ التداول الإعلامي والفكري الغربي للتطرُّف غالباً ما يتَّسم بالتعميم والإسقاط، إذ تكاد تنعدم الإشارة إلى موقف الإسلام الحقيقي من سلوك التطرُّف، وهو موقف رفض وإنكار.
1 نشر في الملف البحثي “التوحيـد بين الأصل الإسلامي والتأويل الجهادي: الأعلام والنُّصوص” بتاريخ 22 فبراير 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، إشراف بسام الجمل، تقديم أنس الطريقي.
2ـ محمّد عمارة، معركة المصطلحات بين الإسلام والغرب، مصر، نهضة مصر، 2004.
3ـ إدوارد سعيد. (2006). تغطية الإسلام (ترجمة: محمَّد عناني). القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع. ص 39.
4ـ محمَّد عمارة، معركة المصطلحات بين الإسلام والغرب، ط 2، القاهرة، نهضة مصر. ص 3، 4.
5– مونتجومري وات، (1403-1983)، فضل الإسلام على الحضارة الغربيَّة، ط1 (ترجمة: حسين أحمد أمين). القاهرة، مكتبة مدبولي، ص 113.
6. Luther, M. (2012) 95 stellingen. Middelburg: Stichting De Gihonbron.
7. De Morgen. (10 januari 2017) ‘Wallonië start 24 projecten tegen radicalisme’. http://www.demorgen.be. Geraadpleegd op 3 maart 2017.
8ـ ينظر الموقع الرّسمي للوكالة: www.belga.be
9ـ ابن منظور. (بلا تاريخ). لسان العرب. القاهرة: دار المعارف. ص 2657-2661.
10ـ النووي، أبو زكريا (1416هـ – 1996م). شرح النووي على مسلم (رقم الحديث: 2670). القاهرة، دار السلام.