التعايش بين الغرب والإسلام، هل تكون القضية التي ضاعت للأبد؟(عبد الهادي المهادي)
“ليس بإمكان أي كان أن يجعلني أصدق أن شيئا طيبا يمكن أن يأتي من المسلمين”
بيترارك (1304 ـ 1374)
نحن نعي جيدا أننا ـ في نظر البعض ـ نرتكب خطأ أكاديميا جسيما بمقابلتنا في العنوان بين الإسلام والغرب؛ فالأول دين، والثاني أصبح ـ في نهاية التحليل ـ مفهوما يختزل متن حضارة ويختصرها. وفي الحقيقة فإن هذه الثنائية لم تَعدْ تُعدُّ خللا في التصنيف، بل أضحت الأصلح للتعبير عن “رؤيتين متعارضتين للعالم”.
منذ البداية وجد الإسلام نفسه يعيش بشكل متجاور مع ما سمي لاحقا بـ”الحضارة الغربية”، ومنذ التدشين عاش معها في تنافس غالبا، وعدوين أحيانا. وقد مرّت هذه الخصومة بسلسلة طويلة ومعقدة من الهجمات والحروب والغزوات والفتوحات، والنتيجة تجدّر العداوة في نفوس الأجيال، وتصرفهم في أغلب الأحيان محكومين بـ”مخيال جمعيّ” مؤثّث بكل مفاهيم الصراع ومشتقاته. ويعترف الجميع بهذه الضدية، ويفكر البعض، بل قل يعمل جهده قصد إنهاء وجود مقابله وإبادته، أو على الأقل إدامة ضعفه وتبعيته، ويخرج بعض المستشرقين بنظريات “إمبريالية” تشير بأصابع الاتهام الدائم للإسلام والمسلمين، وأنه لا يفهم العداء الإسلامي الكلاسيكي ضد التراث اليهودي والنصراني وللقيم العلمانية الذي يودّ الغرب نشرها وتوسيع مجالها.
شقٌّ معتبر من الغربيين يعتقدون أن إرهاب بعض المسلمين وعنفهم أساسه مخزونهم النفسي المتمثل في الإسلام، وللأسف فإن بعضنا يسهّلون عليهم المأمورية، فيدعّمون، بأفعال لا تقبل التأويل، قابليتهم لتعميم هذا الحكم على كل المسلمين، إلى درجة أن جعلوا من كل مسلم إرهابي حتى تثبت براءته، وأن هذا الدين يشكل حاجزا صلبا أمام قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. والقليل من الدارسين المنصفين من يضع أعمال العنف التي تهدف إلى الإضرار بالغرب ومصالحه في خانة الأعمال الانتقامية، على اعتبار أن كل سياسة الغرب تجاه الشرق تهدف إلى إرادة السيطرة والهيمنة والاستتباع. وفي المقابل، ما أكثر المسلمين الذين يعتبرون الغرب بمثابة “لصّ” متحفز، و”نصّ” دخيل.
وعلى هذا الأساس فإن الطرفين ينظران إلى كون القيم الغربية تتعارض مع القيم الإسلامية، ولذلك يستحيل أن يتعايشا.
وتأكيدا لما سبق، فإن مُنظّري صدام الحضارات وصراعاتها، مثل ماسنيون وهينتجتون، يتهمون الإسلام مباشرة بأنه السبب وراء تخلف المسلمين، ومن ثم ينصحون بضرورة القطيعة معه إن أرادوا تقدما، ومرجعهم في ذلك تجربتهم التاريخية التي أثبتت بأن تدشين التقدم كان بإزاحة “الدين” من إدارة الشأن العام. وبهذا المعنى فإنهم يلحّـون ـ من منطق المستعلي كما هو واضح ـ بأن على الإسلام أن يقوم وحده بمراجعات ونقد ذاتي.
وفي هذه الضفة يحتفظ أغلب المسلمين بنظرة نمطية للغرب تتسم بالجمود، واتهام بأنه وراء التخلف الذي يعيشونه، وأنه مسؤول أوّل عن كل أنواع الكوارث التي أصيبوا بها في تاريخهم المعاصر.
يُلاحظ أن الغرب عامة لا يقوم بأي مجهود للتعرف على التوجه المعتدل في صفوف المسلمين؛ فوسائل الإعلام الغربية منشغلة جدا بالبحث والتقصي عن صور تدعم ما يذهب إليه دعاة الصدام، إلى درجة أنهم استطاعوا في نهاية المطاف أن يستخبثوا الإسلام ويجعلوا منه “خبرا جارحا” كما يشير إدوارد سعيد. بينما مازال أغلب المسلمين ـ أيضا ـ ينظرون إلى الغرب باعتباره بنية واحدة منسجمة تشكل “عدوا” حقيقيا.
السؤال المحير هو: إذا كانت العلاقة بين الغرب والإسلام بهذا التوصيف، هل يمكن أن نطمح في المستقبل لعلاقة تحكمها مبادئ التسامح والتعاون والاعتراف المتبادل؟
لن نكون مثاليين وندعي إمكانية ذلك في جو مشحون بالتهديدات وإرادة الهيمنة.
نعتقد أن الحلّ، في جزئه الأكبر، يوجد الآن بيد الغرب باعتباره الغالب وحضارته المسيطرة؛ فيجب عليه أولا أن يفهم ويعترف بأن ما يصدر من بعض المسلمين ما هو إلا سخط المظلوم على سلوك قوة متسلطة، وأن يتعامل مع الحركات الإحيائية الإسلامية باعتبارها تحديا وليست تهديدا. وأن يتخلى عن “علاقة القوة” التي يقيمها مع كل الشعوب التي يهيمن عليها.
ونحن ندعي أن الغرب إذا استمر في التنكر للمبادئ التي مافتئ يبشر بها في العلن، وفي محاولة “خلق” وضع في بلاد الإسلام يخدم مصالحه الآنية والمستقبلية بعيدا عن أية توافقات فإنه ـ بدون أدنى شك ـ سيكون قد ضمن وجود واستمرار عدوّ عقدي شرس لا يمكن التنبؤ بردات فعله. أما إذا أنصت إلى شكاوى المسلمين، وتفهم آلامهم، وعمل على تقاسم المصالح معهم، فإنهم سيشكّلون إضافة نوعية في بناء نظام عالمي عادل. نطمح إذن أن ينظر الغرب إلى “الحركات الإسلامية” باعتبارها تعبيرا أصيلا داخل مدرسة الإسلام تهدف إلى جعل المسلمين يلعبون دورا في بناء مستقبل البشرية
وطبعا فإننا لا نخلي مسؤوليتنا في هذه المأساة التي تدور فصولها منذ زمن بعيد، من أجل ذلك نواجه “ذاتنا” بالسؤال / القضية: ما العمل لتحسين صورة الإسلام في الغرب؟
واقعنا، ومنطق تفكيرنا اليوم يجعلنا قليلي الأمل في إمكانية قيام تعايش بين الإسلام والغرب؛ لأنه مفهوم جدا ومبرر أن يعمل “القوي” دائما على ضمان مصالحه، وأن لا يتقاسمها مع من يعتبره ضعيفا وتابعا.
هي الخصومة والصراع الأبديين إذن؟
مرة أخرى ـ للأسف ـ وبمنطق تفكير واقعنا اليوم ـ وأركز على ذلك ـ لا حلّ يلوح في الأفق غير ذلك. ولا نملك بين أيدينا مؤشرات تقنعنا بالعكس.
حقيقة لا يمكن إنكارها مطلقا؛ فنحن ـ تبعا لفاتحة قرآننا ـ نقسّم مكونيْ “الغرب” إلى فئتين اثنتين: “مغضوب عليهم” و” ضالين”، وهم كذلك يعتبروننا منحرفين دينيا. ومن ثمّ هناك “عدم اعتراف” ديني متبادل بيننا. إلا أننا نعتبرهما يشكلان جزءا من دائرة أكبر نسميها بـ “أمة الدعوة”، ونعتقد أن علينا مسؤولية كبيرة اتجاهها؛ هي مسؤولية التبليغ.
ولكن، منذ متى كان الدين عائقا أمام مخالطة الناس ومسالمتهم والتوافق معهم على مستوى المصالح؟
نؤمن ـ حقيقة ـ بأن المعتقد الديني هو أكثر ما يثير انقسامات الناس وخصوماتهم ( القاتلة في الكثير من الأحيان ) لكن هل صراعنا مع الغرب مصدره هذا المعتقد؟
تتفاوت الإجابات عن هذا السؤال باختلاف زاوية النظر، لكن الجميع يلح على دور الدين، والاختلاف قائم حول السبب الأهم.
ينطلق البعض من مسلمة كون “الغرب مصالح”، ومن ثم يلحُّ على أن أي حوار معه لا ينطلق من هذه الأرضية إنما هو انزلاق وسقوط في المغالطة والتمويه، وعلى هذا الأساس فإن الصراع المستقبلي سيكون استمرارية للصراع القديم بين شعوب متطلعة إلى العدل والحرية مع قوى مهيمنة، وهذا ما يؤكده غراهام فولر الذي يشير إلى أنه “إذا وقع صراع الحضارات فلن يتعلق ذلك بالمسيح أو كونفيشيوس أو محمد، وإنما سيكون بشأن الجور والظلم في توزيع الثروات ومصادر القوى الدولية والتأثيرات”.
نوقن ـ بما معنا من أحاديث نبوية كثيرة ـ بأن البشرية في المستقبل البعيد مقبلة على معارك وصراعات ذات طبيعة ملحمية، طرفاها ما نعتقده حقا وباطلا. طبعا على المستوى الديني فإننا نعتبر أنفسنا خير ممثل للطرف الأول. إذن ـ بهذا الفهم ـ سنجد أنفسنا نقاتل العالم أجمع تقريبا ؟! وبذلك سنثبت زعم الخصوم باعتبارنا مجموعة من الإرهابيين القتلة، وحدودنا التاريخية والجغرافية غارقة في الدموية !
التحدي الكبير الذي ينتظرنا؛ أن نساهم في الفصل بين شقي الامبريالية العالمية؛ فنحرر الجسد؛ وهو العالم المسيحي، من الروح اليهودية التي تقمّصته، وتحكّمت فيه. وبذلك سنكون وجها لوجه مع “أمة” تأبى إلا أن تعيث في الأرض فسادا منذ أن وجدت.
ضميمةٌ:
تحيرني فكرة كون القاعدة التي تحكّمت في التاريخ البشري كله تقريبا جعلت منه سلسلة من الصراعات والحروب والاقتتال والاستتباع، والاستثناء الذي وقع في زمان ومكان محدودين جدا جدا هو التعايش. لقد كانت الغلبة دائما للظلم والدم.
بدأت الحياة في هذه الأرض بـ” فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ”، وستنتهي بقيامة “على شرار الخلق”[1].
[1] . استفدتُ أثناء كتابة هذه المقالة من الكتب التالية: الإسلام والغرب: برنارد لويس وقضايا في الفكر المعاصر: محمد عابد الجابري، والإسلام والحداثة: الانسحاب الثاني من مواجهة العصر، وهو مجموعة من المقالات لعدة باحثين.