التـاريخ ليس خطّيـا(عبد السلام ديرار)
ما أن نتخلص من التصور الماركسي الدوغمائي للتاريخ و نقترب من معناه عند حنّا أرندت التي كشفت كون طبيعة مساره مرتبطة بما سمّته “العوامل الفاعلة” و التي يعتبر الإمساك بها المهمة المركزية لعالم التاريخ ، أو عند أرنولد توينبي و هو يؤرخ لصعود و أفول الحضارات، و الذي لا يختلف كثيرا عما ذهبت إليه أرندت من حيث مركزية “العوامل الفاعلة”في مسار الحضارات، أي التاريخ ، أو عند فردناند بروديل و هو “يوَلّد” “نحوا” (Grammaire) للحضارات، حيث يتقاطع فهمه و حفره مع ما انتهت إليه أرندت و ما خلص إليه أرنولد توينبي أو عند إدوارد بالمر طومسون في رفضه للمسبقات النظرية (a-priori théoriques) و اشتغاله العميق على “التاريخ الاجتماعي و الثقافي”، و هو الماركسي المعلن عن ماركسيته، و لكن الذي يأخذ مسافة من الاستوغرافيات، مفضلا تاريخ التنظيمات من أجل إعادة مركزة البحث حول “الفاعلين” (les acteurs) ، ما أن نقترب من معنى التاريخ عند مثل هؤلاء المؤرخين، و غيرهم كثيرون، حتى ندرك كون التاريخ لا يشتغل خطّيا إلّا بمعنى كون الذي حدث في الماضي، حدث، و أنه وراءنا و لا يمكن تصحيحه أبدا، أو كما يقول القول المأثور: “ليس هناك من طبّ للندم”!، كما ندرك أننا حين نجعل الماركسية تتحدث عن تتابع أنماط الإنتاج، و بالتالي أصناف المجتمعات (بشكل دوغمائي)، أو بالتفكير بالمتمنّي، بالتعبير الانجليزي (Wishful – thinking)، فإننا ندفع الماركسية إلى ترك المجال لماركس”النبي” و ماركس “الطوباوي”، لا ماركس الاقتصادي و السياسي ، و نسحب منها، بذلك، صفة “المنهج” التي كثيرا ما نبّه لها ماركس في كتاباته، و هي الصفة التي تفتح الباب واسعا للتطوير و الإغناء، وتنبّه لآفات “التوثين” و “الدّغمنة” (dogmatisation)، كما تشكل ردّا على الحكم العام بكون الماركسية ارتكبت خطأ مشابها تماما للذي شجبه كانط في حجاجه الأنطولوجي، أو للذي كان ماركس نفسه يؤاخذ عليه هيجل، و هي كونها تقوم ب “قفزة قاتلة” من الوجود في النظرية إلى الوجود في الواقع، أو حسب تعبير ماركس: “من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء” .
لا، ليست أنماط الإنتاج بمتتابعة، ينفي اللاحق منها السابق (و يدفنه) إلى الأبد، و ليس بمعنى مقاومة قوى النمط القديم من أجل تأبيده و عرقلة تَبَنْيُن الجديد فقط، بل بمعنى عودة القديم بأبشع تقاطيعه، مقنّعا و مخادعا بشعارات الجديد، فالنظام العبودي الذي ساد بالغرب (و طبعا بكل بقاع الأرض) لقرون، و كان بلغ أوجه باليونان القديمة كما هو مشهور في كتب التأريخ للفلسفة، و الذي كانت المجتمعات الغربية، بانتقالها إلى النمط الفيودالي، باتت تحسبه من ماضيها، و معنى ذلك سوسيولوجيا أو “اجتماعيا”، سيادة طبقة اجتماعية جديدة هي “النبلاء” تختلف (نظريا وضمن التصور الدوغمائي لتتابع و توالي أنماط الإنتاج) عن الطبقة السائدة القديمة (الأبشع!) التي هي طبقة الأسياد أو ملاكي العبيد، و بالضبط – و فيما يخص عملنا – طبقة تقبل (نهائيا!) ألا ينزل من تستغلّهم و تحيا البذخ و الاستهلاك السفيه على حسابهم، إلى مستوى أن يكونوا “عبيدا” يباعون و يشترون كباقي “الأشياء”، بل “أقنانا” لهم نصيبهم (و إن كان تافها) فيما ينتجونه، كما لهم الحق في الجنس و الإنجاب و الملكية الخاصة (و إن كانت إسمية)، و هو ما اعتبر في زمانه،و بالقياس إلى “ماضي” تلك اللحظة التاريخية، إنجازا كبيرا في السيرورة العسيرة للتحول الاجتماعي، هذا النظام العبودي، ما أن حلّت مرحلة الاكتشافات (بالغرب) و وصل المغامرون الأوربيون إلى أمريكا، في القرن الخامس عشر، حتى عاد ببشاعة تتحدى القديم المتوهّم كونه انتهى (بالغرب) إلى الأبد! و باتت شواطئ إفريقيا الغربية موانئ “همجية” لشحن (همجي) لمئات الآلاف من العبيد الذين يساقون إلى مستوطنات “العالم الجديد”، لاستعبادهم على طريقة “نمط الإنتاج” القديم، و لربّما أبشع. و لسنا نقصد هنا نظام العبودية بإفريقيا، و الذي يستمر إلى اليوم، لعوامل تخصها (ليست موضوع عملنا)، فمنذ سنوات قليلة حضر صحفيون أوربيون متنكرون عملية بيع وشراء مباشرين للعبيد بأحد الأسواق بشمال موريطانيا، و هي ليست حالة شاذة! إذ علاقات الاستعباد ما تزال الكثير من تقاطيعها حاضرة بمعظم البلدان الإفريقية و الشرق أوسطية، بل نقصد كون نظام العبودية (العائد) في القرن الخامس عشر على الخصوص، فاعلوه الأساسيون هم “الطبقة الجديدة” في “المجتمع الجديد” آنذاك، أي النبلاء الذين يفترض (نظريا) ألا يقابلهم ضمن النسيج الاجتماعي للمجتمع القروسطي إلا الأقنان (لا العبيد)، و الأرض التي يمارسون عليها هذا الاستعباد ليست إفريقيا، بل “الأرض الجديدة”! بأمريكا.
و مع الثورات البورجوازية، انطلاقا من نهاية القرن الثامن عشر، و ما صاحبها من “تمجيد” لإنجازاتها بالرواية و الاقتصاد و التاريخ و السوسيولوجيا…، سادت بالغرب علاقات رمزية، هي في نفس الوقت أفعال للإقناع السرّي و الخضوع و الطاعة، و التي باعتبارها كذلك، أي باعتبارها تشغّل أشكال نماذج للإدراك و “سماع” رنّات محددة للواقع و الوقائع حول الحشود، جعلت الإنسان الغربي يسلّم بأن النظام القديم (أي الفيودالي هذه المرة) بات من الماضي و تمّ دفنه إلى الأبد! و أن “العهد الجديد” هو عهد مجتمع جديد و نظام جديد، هو المجتمع البورجوازي و النظام الليبرالي، بكل ما تمّ الترويج لهما به من وعود فادحة الإغراء (الحرية ، المساواة، العدالة الاجتماعية، الديمقراطية، الخلاص من أثقال الكنيسة…)، و خصوصا (فيما يخص عملنا)، التناقض الكلي للمجتمع الجديد مع سابقه! و عدم إمكانية تصور عودة هذا السابق! كيف لا و “الملك” (رمز القديم) تمّ قطع رأسه !!دون أن يتم الانتباه إلى أن نبلاءه لم يتم قطع رؤوسهم هم الآخرين ببريطانيا مثلا كما يقولMarc Roche، و “المدرسة” (بكل إغراءاتها) حلّت محل الكنيسة، و المعمل و العمل المأجور محل الإقطاعية و العمل السخروي المضني، و الديمقراطية محل السلطة المطلقة، و المواطنون، و المواطنة و…و… . و هو ما ستمسّه الشروخ و يهاجمه التآكل و تحجيم و عوده، بعد سيرورة تطور، نالت اعتراف و إعجاب فلاسفة حتّى! بل ذهب سوسيولوجيون، في أوج تفعيل وعود النموذج الاجتماعي الجديد (و هو في أوج صراعه مع النموذج المختلف المهدّد بإغراء المسودين في الأول، أي الاشتراكي)، إلى حد وصفه ب”المجتمع الاستهلاكي”! ليس بمعنى المفهوم كما هو متداول اليوم، بل بمعنى توفير هذا المجتمع لعموم “المواطنين” فرص الاستهلاك حسب الحاجة!! (لا حسب الإمكانيات!)، فالإمكانيات،ضمن هذا التصور ( الذي تراجع اليوم بشكل ملفت، مما له الكثير من المعنى ضمن عملنا) يوفرها النظام الاجتماعي الجديد للجميع كما سنفصل ذلك لاحقا.