الجابري مهندسا للعقلانية والحداثة(محمد الشرقاوي)_1_
بيني وبين المفكّر المغربي محمد عابد الجابري أكثرُ من تقارب فكري وتواصل شخصي سواء خلال حياته أو بعد رحيله في مثل هذا الأسبوع قبل عشر سنوات. وكلّما أتأمّل واقعنا في حقبة الغمامة الكورونية العالقة فوق رؤوسنا والجاثمة على صدورنا، وتردّي أوضاعنا السّياسية في ظلّ مؤامرات إقليمية في ليبيا واليمن وسوريا، وحراك شعبي مفتوح في الجزائر ولبنان والعراق، وتنامي أطماع “إمبراطورية” بتدبير خليجي يتقاطع مع استراتيجيات إسرائيلية وأمريكية، فضلا عن محاولات خنق النَّفَس الثّوري لانتفاضات شعبية تتوخّى التّنوير والتّجديد و وبناء الديمقراطية منذ تسع سنوات، أجدني أعود بالتّفكير مليّا إلى أربعة أمور أساسية دافع عنها الجابري في مشروعه الفكري خلال أربعة عقود، لكنّ لايزال تحقيقُها يواجه التعثّرات ويرتهن بها مستقبل العرب بعد 2020، وهي العقلانية، والحداثة، والديمقراطية، والقطيعة المعرفية. فقد أوضح أنّ مشروعه “هادف”، وأنّه لم يمارس النّقد من أجل النّقد، بل “من أجل التحرّر مما هو ميّت ومتخّشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي. والهدف فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها”، كما خطّ في كتابه “بنية العقل العربي”.
بعد عشر سنوات من رحيل الرّجل، تتباين المواقف بين سائر التّيارات المؤيّدة لفكره وأحلامه في تركيب عقل عربي يصنع الفعل الحضاري، أو المتحاملة عليه بشتى التأويلات بسبب خشيتها من النّقد والتغيير ورُهاب القطيعة ليس المعرفية فحسب، بل وأيضا القطيعة مع الوضع السياسي والاقتصادي القائم لتبقى دار لقمان على قدر تعثّر حفدة لقمان. لا زلنا عالقين في أكثر من عقدة منشار وحيارى أمام أكثر من متاهة، ولا زلنا “نفكّر في الحاضر والمستقبل بواسطة الماضي. فنحن نربط، صراحة أو ضمنا، بين الفلسفة والتاريخ. لكنّ أيّ تاريخ وأية فلسفة؟”، كما قال في كتابه “التراث والحداثة” الصادر منذ ثلاثة عقود.
الجابري جليسُ المرحلة
يراودني شخصيا سؤالٌ ملحٌّ منذ 2011 حول نقطة الدخول العربي إلى القرن الجديد، ومدى انتمائنا إلى عصر الأمن الديمقراطي، قبل أن أوصلتنا جائحة كورونا إلى متاهة الأمن الإنساني. كان أملي وأمل بعض الأصدقاء كبيرا في عقد ندوة دولية حول تقييم أفكار الجابري في هذا الاتّجاه، وحصيلة تمحيصه في جدلية التراث والحداثة، وكيف يمكن أن تتمّ المصالحة بين العقلانية والتقليدانية وترميم الطّريق أمام التغيير والابتكار العربي فكريا وسياسيا وتنمويا، وهو القائل “يشعر الواحد منّا نحن المثقّفون العرب أنّ التراثَ العربي بمضامينه ومشاكله الفكرية في وادٍ، والعصر الحاضر وحاجاته في وادٍ آخر”.
هذا الانفصام بين الذّات التي تحمل هموم المرحلة من ناحية وطبيعة البيئة الثقافية والسياسية التي انتهى إليها واقع الحال العربي من ناحية أخرى ليس من تأملات الجابري نفسه في مغزى تدرّج حياته بين قرن وآخر فحسب، بل وأيضا من حتمية التحوّل الاجتماعي المستمرّ ومن عمق الحِكَمِ المتأصّلة في التراث العربي الإسلامي أيضا، إذ قال علي بن أبي طالب “لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فإنهم خُلقوا لزمن غير زمنكم.” من ميزات الجابري دعوتُه لمراعاة السّياق، قبل التبيئة، في تفكيك أيّ قضية أو تحليل أي مفهوم، ومن عباراته الشهيرة قوله “لا معنى للحديث عن أي شيء لا يرتبط بمرجعية، لا يستند إلى أصل.”
قبل أربع سنوات، لاحت في الأفق فكرة واعدة خلال لقاء ودّي جمعني بالصديقيْن عبد الله ساعف وعبد العزيز سارت في مقهى Google في حيّ أكدال في الرّباط في يوليو/تموز 2016 حول مشروع ندوة عن فهم العالم لفكر الجابري وتأثير كتاباته في الشّرق والغرب. لكن يبدو أنّ هناك صلة روحانية غريبة بين ما تمرّ به الأمكنة من أقدار ومصير بعض الأفكار وتخليد قيمة هؤلاء الكبار. لم تبق من ذلك المقهى آثار سوى إسم ممحيّ ذابل على الجدار بعد إغلاق أبوابه. واليوم يمتدّ حكم قرقوش باستبداد الملكة كورونا إلى قطع الطريق على تنظيم أيّ ندوة أو حتى زيارة قبر الرّاحل العزيز. لقد أوصى الجابري خلال حياته بالتفكير في مؤسّسة فكرية لمتابعة تركته ونشر مخطوطاته شبه الجاهزة ومراسلاته مع عدد من المثقفين في أوروبا والشرق، وأن يتولّى تنسيقَها الأستاذ عبد الله ساعف ويكون الوصيّ على توجيه مسارها الفكري في المستقبل.
ويتذكر صديقه الوفيّ الآخر عبد القادر الحضري كيف كان الجابري “شديد الحرص على إرساء مؤسّسة تحمل اسمه، وهو لا يزال حيّا يرزق، وفي أوج عطاءاته الفكرية. يتولّى تأسيسَها والإشرافَ عليها مثقفُون ملتزمُون واكبوا مسيرته النّضالية والفكرية، وتمكّنوا من استيعاب المرامي والأبعاد التي استمرّ يناضل من أجلها: فكرا وممارسة.”
دارت بين المفكّر الرّاحل وصديقه الحضري عدة مناقشات أوّلية حول فكرة المؤسسة وطبيعة الأشخاص المتوخّى اختيارهم للتأسيس والإشراف، وتحديد الدور المنوط بها، وهو “العمل لتفعيل مشروعه الفكري/السياسي أو السياسي/الفكري كما كان يحلو له أن يقول: المشروع الذي ألزم نفسه بإنجازه انطلاقا من سنة 1966 عندما شرع في كتابة مقالات خصّصها للجواب عن سؤال: أية اشتراكية نريد، وأنجز منها مقالتين وتوقّف، ليتبين له أن الموضوع يتطلّب استعدادا أكبر. فعاهد نفسه وقتها بأن يعطي الجوابَ في صيغة رؤية علمية شاملة قطريا وقوميا”، كما يستعيد الأستاذ الحضري من يوميات تفاعله المستمرّ مع الجابري.
لكن من سوء الحظّ أنّ تعثّرت المؤسسة الأولى لمحمد عابد الجابري بعد سنوات قليلة من تأسيسها بين حساسيات وحسابات ضيّقة بين دائرتي العائلة والأصدقاء يبدو أنّها تخنق تركة مفكّر يستحقّ الامتداد في الزمان والمكان. وقد تنكّر لهم بعض رفاقه القدامى في “الاتحاد الاشتراكي” وهو من نظّر لمشروع “الكتلة التاريخية” في سياق مغربي على أنّها “تجسيم وفاق وطني” يفوق تصنيفات “يسار-يمين”، وليس “مجرّد جبهة بين أحزاب” خاضت مفاوضات مطوّلة مع الملك الحسن الثاني منتصف التسعينات. كما أنه وأحمد الحليمي تعاونا في بلورة “التقرير الأيديولوجي” عام 1975. عُرف الجابري بهدوئه المعهود ونبرته الخافتة وبتمسكه أيضا بأن “المعارضة ضرورية للملك، وأنّ الملك ضروري للمعارضة”، وهي معارضة تتحدر في رأيه من “الحركة الوطنية التي تجرّ معها كتاريخ مشترك بينها وبين الملك ذلك الحلف الذي قام بينهما منذ 1943، والقاضي بالتّعاون من أجل تحرير المغرب وبناء استقلاله، فهي معارضة شريك.”
تنكّر متواتر بين الاتحاديين الجدد فيما لا يزال يسأل الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي عن الإصدارات التي لم تظهر بعد من كتابات الجابري. وثمة أكثر من تنكّر وخذلان عندما يستكثر عليه بعض طلابه السابقين تلك المكانة الفكرية التي نالها في الخارج أكثر من الداخل أو يلوحون بشطحات نقدية لبعض الذين استكثروا عليه شهرته الفكرية في العالم ووفرة أطروحات الدكتوراه التي انكبّت على دراسة جوانب من مشروعه الفكري. في المقابل، ثمّة مواقف إنسانية وتاريخية كانت للجابري خلال حياته إزاء بعض المعارضين والمثقفين ومع بعض حفظة العروة الوثقى في صداقته ممن لم يسردوها بعد، وأتمنى ألاّ تظلّ حبيسة في صمت صدورهم. كانت أمنية الجابري كبيرة في تشييد مؤسسة فكرية يتم انتقاء من يتولاها “على مستوى وعي الشخص ونظافة مسلكه وصلابة مواقفه، خاصة بالنسبة للذين كانوا لا يزالون في الخنادق النضالية متمسكين بمواصلة المساعي. وكان يفضل أن يكونوا على مستوى من الاستقلالية أوفياء للقضايا لا للأشخاص”، كما يروي الأستاذ الحضري في أحدث تأملاته بعد عشر سنوات من وفاة الرّاحل.
لم تتوقّف ألمعية الجابري عند حدّ الكتب الأحد والثلاثين التي نشرها، بل كانت لديه مخطوطات أخرى ونقاشات مكتوبة من بعض مفكري العصر. ولا شكّ أنّ عدم نشر هذه العطاءات الفكرية وحرمان قرّائه وجمهور الباحثين من الإطّلاع على الأعمال الكاملة لمن اعتبره النّقاد ابن رشد القرن العشرين بمثابة جريمة فكرية وحضارية وضرب من ضروب الجاهلية التي تؤرّق الرّاحل في قبره. لا أوجّه لومي إلى أيّ شخص بذاته أو جهة بعينها، بقدر ما آمل أن تستنهض الذكرى الهمم من أجل الإفراج عن مخطوطات قد يقتلها الإهمال وتصيبها هجمة الحشرات والفطريات، فنكون جميعا قد هضمنا ذكرى رجل لم تستهويه المناصب ولا غنائم السياسة أو الكسب المادي، بقدر ما تمسّك بتحقيق ذاته في التدريس وبلورة الفكر والمساهمة في النبوغ المغربي.
في قاعة الندوات في مكتبة الكونغرس في واشنطن عام 1996، دار بيني وبين الجابري حوار مطوّل بعد أيام من مشاركته في ندوة نظّمتها جامعة ييل الأمريكية لمناقشة أطروحة صموئيل هنتنغتون بعد أشهر قليلة من صدور كتابه المثير للجدل “صدام الحضارات وإعادة تركيب النظام العالمي”. كان الجابري المدعوّ الوحيد من العالم العربي بين خمسة وعشرين من مثقّفي العالم. وكان له ردّ يدحض فكرة الصدام الذي اعتبره مفتعلا لدى هنتنغتون عند نهاية حقبة الحرب الباردة لصالح المعسكر الغربي الذي حاول إعادة تركيب نظام دولي بديل وقلب موازين القوة في العلاقات الدولية بعدائية جديدة.
من صدف التاريخ أيضا أن أتقاسم مع الجابري الاهتمام الأكاديمي بتركة عبد الرحمن بن خلدون الذي أعدّ عنه أطروحته في الفلسفة في جامعة محمد الخامس حول موضوع “فكر ابن خلدون العصبية والدولة”. على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، اهتممتُ بدراسة لماذا تنشطر المجموعات البشرية إلى مجموعات فرعية طائفية أو عرقية أو لغوية تتمسك بهويات بديلة عن الهوية الوطنية، وتنزع نحو الاقتتال الأيديولوجي إنْ لم يصل حدّ الصّراع المسلّح. وبعد تحميص شتّى النظريات والمفاهيم في السوسيولوجيا الغربية عند تالكوت بارسنز، ويورغ زيمل، وآلن تورين، وماكس فيبر، وإيميل دوركهايم، وغيرهم، توصّلت أبحاثي إلى أن أفضل ما يقدّم نسقا ديناميا أو متحركّا بين البنية والفرد والمجموعة ويساعد على تفكيك أسباب توحّد أو تفتّت الذريات والقبائل والمماليك في الماضي وانقسامات المجتمعات المعاصرة وتنامي قوة الحركات الاجتماعية وسقوط الأنظمة السياسية في الحاضر كان ضمن الرصيد المعرفي لابن خلدون، فركّزت أطروحتي على دراسة العصبية باعتبارها قوّة التضامن المتحوّل قديما وحديثا في مرحل التغيير السياسي والاجتماعي.
أظلّ وفيّا لضرورة تعريف السوسيولوجيا السياسية وعلم فض الصراعات لدى الغرب، خاصة في الولايات المتحدة، على تركة ابن خلدون الذي لم تترجم مقدمته إلى الإنجليزية إلاّ عام 1957 بفضل أستاذ الأدب العربي واللغات القديمة في جامعة ييل فرانز روزنتال Franz Rosenthal في كتاب نشرته دار نشر جامعة برينستون. وصدرت ترجمة أخرى مختصرة عام 2014 بعنوان “المقدمة: مقدمة إلى التاريخ”. وحتى اليوم، يحتار الباحثون الغربيون في الترجمة الدقيقة لمفهوم العصبية بعد أن نحتوا لها أربعة وعشرين مرادفا محتملا منهاgroup feeling, esprit de corps, clan spirit, clannism, communitarism, fellow feeling, group spirit, group solidarity, agnatic solidarity, groupdom, we-ness, relation by sameness, social cohesion, social connectedness, social capital, or trust.
تظل كتابات الجابري عن ابن خلدون مهمّة في اعتبار العصبية والدولة وعلاقة الجدلية القائمة بينهما مفتاحا إلى فهم تحوّلات التاريخ الإسلامي، وتجسد نبوغ ابن خلدون في تحليل تشكّل العمران البشري وحركية التاريخ. وأجدني أنطلق من حيث انتهى الجابري، إذ لا أعتبر مفهوم العصبية تركيبة إسلامية أو عربية فحسب، بل يختزل أيضا آليات التحوّل الاجتماعي وخاصة وظيفة التضامن، أو التلاحم كما يسميه الجابري، في أكثر من مظاهرة، وأكثر من حراك، وأكثر من ثورة في الشرق وفي الغرب. وقد تفيد العصبية أيضا في دراسة سباق القوى العظمى، ولن يغيب ابن خلدون عن ذهني إذا انغمستُ في تحليل تفكك الاتحاد الأوروبي بعد البريكست، وأزمة كورونا أو التنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة بتنامي عصبية اجتماعية، وحتى تكنولوجية، صينية لتجاوز الحقبة الأمريكية في زعامة العالم، أو كما أشار فريد زكرياء إلى قرن ما بعد أمريكي Post-American century.