الجويني وكارل شميث وسؤال النازية (إبراهيم هلال)_1_
لطالما شُغِل المسلمون بمسألة العدل والسلطان، ودأب علماؤهم على صياغة تقليد طويل من العلوم الشرعية المنبثقة عن الوحي والمشتبكة بأوضاع الناس منذ نزل الإسلام في مكة، بيد أن قلة هي التي انشغلت بمسائل لم تظهر آثارها جلية إلا في العصر الحديث، وأبرزها حالة الاستثناء، أو ما نعرفه عادة بمصطلح حالة الطوارئ، حيث يُعطَّل العمل بالقانون والدستور، وتتسع رقعة سلطان الدولة بشكل استثنائي بسبب حرب أو أزمة أو غير ذلك، وهي حالة شغلت فلاسفة القانون ومُنظِّري السياسة، بيد أنها شغلت فيما يبدو أحد أئمة الإسلام الكبار قبل حوالي ألف عام.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط زعيم ألمانيا النازية “أدولف هتلر” أُسِّست محكمة نورمبرغ عام 1945 بغرض محاكمة مجرمي “الحرب النازية” التي شنتها ألمانيا على أوروبا والعالم، وقد استدعت المحكمة المفكر السياسي والقانوني الألماني الشهير “كارل شميت” للمثول أمامها عام 1947، إذ وجهت له المحكمة تهمة “التنظير للنازية وجرائمها”، لكن المحكمة لم تستطع إثبات اتهامها عليه، رغم أن شميت انتمى بالفعل للحزب النازي عام اعتلائه سدة الحكم في ألمانيا (1933)، وبقي منتميا له حتى عام 1936 حين انسحب من الحزب لأنه “لم يكن نازيا بشكل كافٍ” كما قال زعماء النازية حينذاك.(1)
تُسلِّط هذه الواقعة الضوء على ثغرات النظام القانوني الوضعي الذي لا يمكنه إثبات أي جرم إلا بعد ربطه بوقائع مادية ملموسة، وهو ما استطاع القانوني كارل شميت استغلاله لنفي التهم الموجهة إليه بكل سهولة، بل حوَّل شميت مرافعته عن نفسه إلى محاضرة حول علاقة الأفكار بالأفعال ومدى صعوبة الجزم في تلك القضية الفلسفية التي أفنى الفلاسفة أعمارهم فيها ولم يحسموها، وبذلك برَّأت المحكمة شميت بعد أن نجح في إيقاع المحكمة في شراك فخه الذي نصبه بعناية، فلا أحد من الحاضرين كان يعلم أن الأساس النظري للتهمة التي وجَّهتها المحكمة لشميت (أي علاقة الأفكار بالأفعال والقرارات) قضية فكر فيها شميت وكتب عنها طوال عشر سنوات سبقت صعود هتلر للحكم، وأن انتماء شميت للحزب النازي كان فرصة للرجل لتجريب ما كتب عنه عام 1922 في كتابه “اللاهوت السياسي”، الكتاب الذي طرح فيه نظريته حول “السيادة” وقرر فيه أن “السيد هو مَن يستطيع أن يتخذ قرارا بشأن حالة الطوارئ/الاستثناء”(2)، تلك الحالة “الاستثنائية” التي يمكن فيها لصاحب القرار أن يُعلِّق كل القوانين العقلانية بقراراته التي لا تعتمد على أي أساس منطقي أو عقلاني.
قبل كل تلك الأحداث بحوالي 9 قرون، عاد إمام الحرمين “أبو المعالي الجويني” إلى مدينة “نيسابور (نيشابور)” بعد أن خرج منها هربا من الحبس والقتل، وقد توطدت علاقته بالسلطان السلجوقي “ألب أرسلان” ووزيره “نظام الملك الطوسي”، فوضع كتابه الأهم في السياسة الشرعية “غِياث الأمم في التِياث الظُّلَم”، وعلى غير العادة لم يكتفِ “الجويني” في كتابه ببحث مسألة “صفات الإمام الشرعي”، بل جاء كتابه نقدا حادا لكتاب “الأحكام السلطانية” الذي ألَّفه “أبو حسن الماوردي”، الذي جمعته علاقات سياسية بالدولة البويهية (الشيعية)(أ)، وهي دولة اصطدمت بها دولة السلاجقة حتى قضت عليها نهائيا عام 447 هجرية(3)، وقد طرح “الجويني” في كتابه معالجة فريدة من نوعها لمسألة “السيادة” التي اهتم بها كارل شميت، فخصص جزءا من كتابه لبيان وظيفة الحاكم، وكيفية التصرف في حالات الاستثناء، وكأنه يطرح ردا مسبقا للاتجاه الذي كتب عنه كارل شميت فيما بعد.
بينما اعتقد شميت بأن حالة الاستثناء تكشف عن جوهر السيادة وعن قصور الرؤية الليبرالية بأكملها، رأى “الجويني” الأمر بشكل معكوس، فبدلا من رؤية الاستثناء بوصفه تعبيرا عن السلطة التي تُعلِّق أي قوانين أو معايير عقلانية في حالة الطوارئ، استخدم الجويني تعريفه لحالات الاستثناء كي يُظهِر الكيفية التي تُحدِّد بها الشريعة نطاق السلطة وممارستها سعيا للوصول للعدل والعقلانية بين الناس(4)، لذا فإن ما دوَّنه هذا الإمام الأشعري في القرن الخامس الهجري يمكن اعتباره بمثابة تفكيك وحجة مناقضة لنظرية شميت التي مهدت لظهور هتلر واعتلاء الحزب النازي للسلطة في ألمانيا، كيف يرى الإمام الجويني إذن الطريقة الأمثل لبناء العدالة إذا كنا نعيش في حالة استثناء يغيب عنها العدالة والقانون؟ هذا ما تكشفه دراسة للباحث أحمد عبد المجيد بعنوان “بين الجويني وشميت.. حالة الاستثناء الإسلامية” نُشِرت ترجمتها في مركز نهوض، ونناقش هنا أهم أفكارها.