الجويني وكارل شميث وسؤال النازية (إبراهيم هلال)_2_
سيادة الشريعة في وجه الوجودية السياسية
عاش الإمام الجويني جل حياته في القرن الخامس الهجري، حين كانت الدولة العباسية في طور تدهورها وانحلالها الذي بدأ في القرن الرابع حين انفصل أكثر حكام الولايات عن بغداد ووجهوا سهامهم إلى الدولة العباسية، فظهرت الدولة الفاطمية بمصر ساعية لإقامة خلافة شيعية، كما ظهر الحمدانيون في حلب والموصل، والبويهيون الشيعة في فارس والعراق، وغيرهم، وكادت الدولة العباسية أن تندثر حتى ظهر السلاجقة السُّنَّة في منتصف القرن الخامس الهجري ودخلوا فارس وبغداد والشام، وقد عاصر الجويني في النصف الأول من القرن الخامس الصراعات السياسية بين السلاجقة والبويهيين، فتارة غلب البويهيون وحاولوا نشر التشيُّع، وتارة انتصر السلاجقة فأعادوا الأمور إلى نصابها، حتى استقرت الأمور للسلاجقة وجاء أول سلاطينهم “طُغرُلْبِك” السلجوقي السُّنِّي الحنفي، لكن وزيره “عميد المُلك الكُندُري” كان معتزليا رافضيا، وفي عهده وقعت الفتنة “الكُندُرية” التي أجبرت الإمام الجويني على الفرار من نيسابور.(5)
قبل ذلك كان المذهب الأشعري قد أُسِّس على يد “أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري”، وأصبح من أكثر المدارس الكلامية نفوذا وانتشارا طيلة أكثر من ألف عام، إذ سعى هذا المذهب لإيجاد موقف وسط بين مذهب المعتزلة ومذهب أهل الحديث (السلفي) الذي أسسه الإمام “أحمد بن حنبل”، ففي مسألة “صفات الله” مثلا جادل المعتزلة بأن العقل لا يمكن أن يتصور أن لله صفات، لذلك ذهبوا إلى تأويل صفات الله بوصفها معاني كلية، “بينما أكد أهل الحديث أنه لم يُنقَل عن النبي أي محاولة لتحديد العلاقة بين ذات الله وصفاته، فينبغي أن تؤخذ صفات الله بنصها” دون أي تأويل(6)، أما الأشعري فقد اتخذ موقفا وسطا، حيث قَبِل الحجة العقلانية للمعتزلة، ورفض أن تكون صفات الله زائدة على ذاته، غير أنه رفض التعامل معها على أنها معانٍ مجازية كما فعل المعتزلة.
وفقا للمذهب الأشعري “فإن الله يتعالى على نطاق المعرفة العقلانية وتصنيفاتها المرتبطة بحدود الزمان والمكان وكل ما هو متناهٍ، لذلك فأي أحكام بشأن العلاقة بين ذات الله وصفاته مجرد تكهنات محددة بمساحات المعرفة العقلانية”(6)، لكن هذا الموقف “الوسط” لم يكن مجرد رأي “مذهبي” أو “نظري”، بل فتح بابا من الجدل المستمر حتى يومنا هذا أساسه ما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري واتبعه فيه أبو المعالي الجويني حول حدود استخدام العقل، فقد اتفق كلاهما مع المعتزلة على أن للعقل دورا محوريا في البحث عن الحقيقة ومعرفة العالم، لكن استخدام العقل له حدود في فكر الرجلين، فما هي إذن؟
يتَّبِع المعتزلة في بناء حجتهم منطق البرهان العقلي، وينبني هذا النوع من التفكير البرهاني على عدد من الخطوات الاستدلالية المتوالية التي تبدأ بمعطى مثل “وجوب علة أولى للعالم”، وتنتهي إلى نتيجة محددة مثل “وحدة الله وعدم قابليته للتركيب”، في المقابل رأى الأشعري والجويني أن باب التأويل لا يمكن إيقافه، كما أن هذا البرهان العقلي اعتمد بالأساس على التجريد والتأمل(6)، لذا فمن غير الواقعي أن تكون هذه الطريقة أساس الاعتقاد، ومن ثَم التزم الأشاعرة الموقف الوسط، فاتفقوا مع المعتزلة على أن صفات الله ليست منفصلة عن ذاته، لكنهم رفضوا اعتبار هذه الصفات مجرد مجازات.(6)
يرى الدكتور أحمد عبد المجيد في ورقته “بين الجويني وشميت.. حالة الاستثناء الإسلامية” أن الإجابة التي قدَّمها الأشاعرة، وتنطوي على موقف غامض وتناقض ظاهري، تمثل في الوقت نفسه التزاما بحماية التعددية في التفسيرات العقلانية، إذ تؤكد هذه الإجابة أنه “يمكن أن تكون هناك تفسيرات عقلانية صحيحة بالقدر نفسه للمفهوم ذاته”، كما يدعو هذا الموقف إلى استخدام العقل، ولكنه يشدد على أهمية التحقق من هذا الاستخدام لتجنب الوقوع في المثالية المطلقة، وبحسب “عبد المجيد” يرسم هذا الموقف الإطار النظري لنظرية السيادة التي طرحها الجويني في كتابه، حيث حدد الجويني أن وظيفة “الإمام” هي حماية النظام السياسي الذي يمكن بداخله استيعاب المواقف والتفسيرات المختلفة، والتي يمكن أن يصل إليها علماء الفقه حول القضية نفسها في ضوء المنهجيات المختلفة التي يستخدمها كل مذهب من مذاهب الشريعة الإسلامية، وبذلك تضمن سيادة الشريعة قيام نظام يقبل بالتعددية العقلانية والفقهية ومن ثَم السياسية.(6)
ومن أجل “حراسة الدين وسياسة الدنيا”، وهما الدوران الأساسيان اللذان حددهما الجويني للإمام، يجب على الإمام حماية العامة من الانزلاق إلى اتجاهات فكرية خاطئة أو حملهم على ما قد لا يستطيعون استيعابه، فقد انتقد الجويني موقف “المأمون” من بدعة “خلق القرآن” واضطهاد علماء السُّنَّة، حيث قال إن الدور الرئيس للإمام عنده هو “تأمين مجال يتيح لكل فاعل سياسي العيش وفقا لأحكام المنهجية الشرعية التي يرغب في تبنيها”، فلا يتمتع “الإمام” بسلطة مطلقة، بل يتوقف دوره على تأمين المجال العام للفاعلين السياسيين ذوي التوجهات العقلانية المختلفة(6)، وتختلف هذه الرؤية جوهريا عما طرحه شميت في النصف الأول من القرن العشرين، إذ قدَّم شميت في كتابه “اللاهوت السياسي” (الصادر عام 1922) رئيس الدولة بوصفه “ديكتاتورا ذا سلطات مطلقة” تُمكِّنه من إيقاف العمل بالقانون وتعطيل الدستور في حالة الطوارئ، ما يكشف عن حقيقة “السيادة” في الدولة الحديثة في نظره، فالسيادة ليست سيادة القانون أو المؤسسات، بل سيادة “الزعيم” وقراراته التي لا تستند إلى أي تبرير عقلاني في لحظات الطوارئ التي تُهدِّد نظام الدولة.(7)
وهكذا فإن سلطة اتخاذ القرار التي تكشف عن جوهر السيادة تعتمد وفق شميت على “بصيرة أرقى من بصيرة العقلانية البشرية العادية”، وهذه القدرة على إعلان حالة الطوارئ الاستثنائية إنما تحمل دلالة وجودية عُليا، “إذ يتحدَّى الزعيم معايير العقلانية بفضل وجوده المحض”، وقد بنى شميت أطروحته على ما عُرِف بـ”المذهب القراري (Decisionism)” المشتق من “فلسفات الأزمة” التي ظهرت في أوروبا منذ عصر “نيتشه”، وأشهر تلك الفلسفات هي “الفلسفة الوجودية” التي مكَّنت شميت من بناء أطروحته حول “حالة الاستثناء” فما تلك الفلسفة إذن؟ وكيف بنى عليها شميت أطروحته؟(7)