الحجر الصحي: شروطه ومحدداته(أبو يعرب المرزوقي)
لا يمكن الكلام في حل أي مشكل إذا لم يتقدم عليه تحليل علة الإشكال في الأمر وخاصة إذا كان الإشكال شاملا لكل أوجه الحياة بحيث لا يستطيع أحد أن يزعم تفرده بالحل باسم الاختصاص قبل تحديد تراتب المجالات التي تتنوع فيها الاختصاصات.
وهذه العملية -تحليل منطقي وكشف ميداني لعناصر الإشكال- متقدمة على علاج المختصين لأنها تفرز الأدوار وتحدد تراتبها حتى ننتقل مما ينتسب إلى فرض العين في فكر الجماعة إلى ما ينتسب إلى فرض الكفاية في فكر أهل الاختصاص بحسب المجالات التي تتفرع إليها الإشكالية.
لا بد إذن من بيان عناصر الاشكال في الحجر الصحي العناصر التي تحدد دوره فتعين الحل المنتظر منه وشروط فاعليته تحديدا يجعله حلا لتلك العناصر بحسب ترتيب أدوارها فيه وسلسلة التعليل فيها.
وهذا هو مطلوبي لأني لا ادعي اختصاصا في الطب ولأن المسألة ليست مقصورة على اللجان الطبية. ولذلك فقبل الوصول إلى تعيين من يحق له أن يتكلم في المشكل ومن لا يحق له لا بد من تعيين من يفصل بين ابعاد المشكل التي تحتاج إلى علاج.
فإذا كان الحجر حلا لمشكل العدوى وحددنا كيفية حصول العدوى فإن حصره في المسافة بين البشر -متر ونصف- لا يمكن أن يكون حلا كافيا وعلى العموم. ولو كان كافيا لكان يمكن الاكتفاء به والاعتماد على وعي المواطنين دون حاجة إلى الحجر في البيوت بهدف تقسيم المكان الذي قد يحد من اتساع العدوى إذا حصلت.
وإذن فالحجر ليس لمنع العدوى كما يقد يتوهم الكثير بل للحد منها عند حصولها وبصورة أدق من سرعة تفشيها. وهو ما يعني أن الحجر حتى يكون ذا فاعلية ينبغي أن تراقب المحاجر بحيث يصبح الحجر هادفا لتحديد محلات معينة لفرز المصابين ضمن تلك المحاجر.
فيكون الحجر معدا لشروط التخلص منه بفرز حوامل الفيروس وعزلها. وفي هذه الحالة نكون أمام عاملين كلاهما يتعلق بالمكان أي:
1. المسافة بين الأفراد في نفس الحيز المكاني
2. ثم المسافة بين الجماعات المتمايزة بالمكان.
لكن ذلك يجعلنا وكأننا نعتبر المسافة بين المنازل محققة لهذا الغرض لكأنها واحدة. وهو ما ليس مضمونا في كل المساكن. فنكتشف أن المسافة الثانية ليست متوفرة للجميع لأن المنازل في الاحياء الشعبية لا تحقق هذا الشرط لتلاصقها وضيقها.
وهذا الفرق بين المساكن علته الطبقة الاجتماعية الاقتصادية المتعلقة بالعمران والمسافة الفاصلة بين المنازل بعضها عن البعض. وهو عامل ثالث. وضمن هذا العامل نكتشف عاملا رابعا. وهو شبه امتناع المسافة بين الافراد في منازل الفقراء لضيقها.
بل إن هذه العلة مضاعفة فهي أولا ضيق المساكن وهي ثانيا كثرة السكان في المنزل الواحد. والعلة ديموغرافية لأن الاسر الفقيرة غالبا ما تكون عديدة الافراد. ولا يمكن التعامل بالحجر معها كما نتعامل مع من لهم مساكن واسعة واسرهم قليلة الأفراد.
وإذن فمعيار:
1. المسافة بين الأفراد
2. والالتزام بها بمقتضى الوعي
3. ومعيار المسافة بين المساكن أو الطبقة الاجتماعية وحظها من التوزيع العمراني في المكان
4. ومعيار سعة المساكن وعدد الغرف مثلا
5. والكثافة السكانية في المنزل الواحد (الديموغرافيا) كلها معايير ينبغي أن تعتبر في الحسبان.
وكلها ذلك صلة بعاملين هما الحظ من المكان والطبقة أو ا لحظ من الثروة.
فحضور دور الوعي مرتهن بشرط إمكان الاختيار بالنسبة إلى المسافة بين الافراد في الفضاء العام وبشرط عدم إمكانه عند امتناع الاختيار في حالة المشكل العمراني المضاعف ضيق المساكن وتلاصقها والمشكل الديموغرافي بالنسبة إلى الطبقات الفقيرة.
وكل هذه العوامل تتعلق بالمسافة المكانية في علاقة بالوعي وبشرط توزيع المكان بين البشر في علاقة بالعامل الاقتصادي والديموغرافي.
ولا زلنا في الكلام على المكان والديموغرافيا والثروة.
لكن المسافة بين البشر في حالة العطالة للجميع واحدة لو جردناها عن هذه العوامل وكان التجريد منها باختيارنا. لكنه ليس دائما باختيارنا وخاصة في حالة الاضطرار للعمل لئلا تتوقف الحياة الاقتصادية. فالعمل يمكن تقسيمه على نوعين مضاعفين:
1. العمل الذي يمكن أن يكون عن بعد والعمل الذي لا يمكن أن يكون عن بعد. والأول هو في الغالب متعلق بالعمل الإداري والمكتبي وليس العمل الذي يتطلب الحضور البدني للعامل مثل الذي يمكن الاستغناء عنه في حالة العمل الثاني.
ففي البناء أو في الخدمات الغذائية لتواصل الحياة والصحية التي تعالج المرضى أو الأمنية التي تحفظ ذلك كله إلخ.. فهذه أعمال لها علاقة بعاملين هما: طبيعة العمل ودور الزمان فيه. بمعنى أنه لا يمكن أن تفصل عناصره فتتوالى في الزمان فتتمكن من المحافظة على المسافة بينهم بل لا بد من حصول هذه الاعمال في نفس الوقت.
2. ثم في العمل الذي يقع في المدن يمكن التقليل من عدد العمال للمحافظة على المسافة. لكن العمل الذي يقع في البوادي الأمر مستحيل. فهنا الأعمال ليست قابلة للوقوع عن بعد وليست قابلة للتوزيع في الزمان بسبب الطابع البدائي للزراعة وتربية المواشي مثلا.
ففي البلاد التي تقدمت تقنياتها في الزراعة وفي تربية المواشي يمكن اعتبار هذا النوع الثاني قابلا للرد إلى النوع الأول.
لكن ذلك مستحيل على الأقل عندنا حيث إن رعاية المزروعات وعلاجها وجمع الثمرات كلها تقتضي يدا عاملة كثيفة وفي زمن قصير لأن الثمرات تفسد إذا بقيت دون جني.
والحصيلة هي أن طبيعة حيز الوجود الإنساني في المكان والعمران وعلاقتهما بالوعي وبالطبقة والديموغرافيا وبطبيعة العمل بحسب قابليته للحصول عن بعد أو وجوب القرب فيه مكانا وزمانا يقتضي الا يوجد نوع واحد من الحجر في المنازل ويوجب التمييز بين المنازل الواسعة والمنازل الضيقة بين النازلين القلة والنازلين الكثرة وبين المدينة والريف خاصة إذا طالت مدة الحجر.
وفي المدن لا بد من التمييز بين المدينة ما حولها من حزام قصديري وفي الارياف لا بد من التمييز بين القرى الصغيرة والريف المعزول لأن العلاج والوقاية لا يمكن يكونا من نفس الطبيعة وأهم شيء الاستعلام في متابعة الداء والعدوى ليس من نفس الطبيعة خاصة بعدما توقف النقل والحركة أو يكادان.
وإذن ينبغي أن تتخذ السطلة الحاكمة مبادرات وقائية وعلاجية في نفس الوقت: فنحن نزعم أننا في حرب مع الجائحة. وفي الحروب سواء مع الجوائح أو مع الاعداء لا بد من علاج أمرين:
1. التعامل مع العدو مباشرة وهو ما ذكرنا في الكلام على العلاج الأول أو الحجر الذي ليس علاجا بل هو في الحقيقة تقنية للصمود في انتظار العلاج أي الحل الطبي لأن الحجر إذا لم يكن مشفوعا بأفق السعي لكشف العلاج يعني الانتحار لأنه من لم يقتله الداء سيقتله توقف الانتاج الشارط للحياة.
2. التعامل مع شروط البقاء التي تجعل الصمود ممكنا لأن الحرب قد تطول: وهذه الشروط ترد كلها إلى عدم توقف الانتاج الذي يحافظ على الرعاية والحماية: أي في حالة الحرب العادية الغذاء والسلاح والدواء وفي حالة الحرب مع الفيروس كل ذلك باستثناء السلاح الذي يرد إلى البحث العلمي في البايولوجيا والطب وهما ضروريان حتى في الحرب القتالية.
والأمر الوحيد الذي يعزي هو أن القضية ليست خاصة بنا وإلا لكنا في وضعية ما كان عليه جدودنا من فقدان الحلية في غياب أفق البحث عن الحل العلمي لهذين التعاملين. ولذلك فنحن ننتظر رحمة الله التي لن تأتينا مباشرة بل نحن ننتظرها ممن ستأتيهم قبلنا لأنهم عملوا بواجب السعي إليها لأنها جزاء الاجتهاد في النظر والعقد لتعمير الأرض والجهاد في العمل والشرع لرعاية الجماعة.
فليس لنا القدرة على التعامل المباشر مع العدو سواء كان عسكريا أو فيروسيا بسبب ما عليه فتات الجماعة التي جعلت كل قبيلة تسمي نفسها دولة وهي في الحقيقة محمية لا تستطيع توفير شروط بقائها رعاية وحماية. صحيح أن بعض العلماء يحاولون تقديم شيء.
لكننا نعلم أن امكانيات الفتات لا تسمح بعلاج ما يتطلب وحدته: لذلك فالحل لن يأتي إلا من عند من يشمت فيهم الكثير بدعوى أنهم مهددون بفقدان الريادة انهم عليهم أن يعترفوا بالهزيمة والرجوع إلى الله لكأن الدين يعتبر الإيمان شرطه العجز وليس العلم بأن علم الإنسان وعمله على نسبيهما هما ما به يكون الإنسان مؤمنا.
وذلك هو مدلول سروة العصر: فالإيمان والعمل الصالح شرطهما التواصي بالحق أي الاجتهاد لمعرفة الحقيقة (البحث العملي) والتواصي بالصبر لتحقيقها (التطبيق العملي للاجتهاد) في معرفة قوانين الطبيعة وهو معنى الاستعمار في الأرض والعمل بسنن التاريخ وهو معنى الاستخلاف.
ولأن علماءنا أهملوا فصلت 53 فلم ينظروا في الآيات التي يرينها الله في الآفاق (الطبيعة والتاريخ) وفي الأنفس (كياننا العضوي والروحي) ليفهموا ما يذكرنا به القرآن من واجبات البحث العلمي وتطبيقاته العملية لتعمير الارض
ولم ينشغلوا إلا بما نهو عنه آل عمران 7 أصبحنا في حرب أهلية دائمة بسبب زيغ القلوب وابتغاء الفتنة متوهمين أن ما يذكرنا به القرآن يمكن اكتشافه بتأويل المتشابه: وهذا بين من الجدل الدائر في التواصل الاجتماعي من زيغ وفتن هي حطب الحرب الاهلية الدائمة.
كل ما أسمعه من تنابز بين المتحاورين حول الحجر معه أو ضده يكتفي اصحابه بكلام عام حوله وكأنه ظاهرة بسيطة يكفي المقابلة فيه بين العمل به أو رفضه في حين أنه شديد التعقيد وأنه ليس علاجا بل تنقية للصمود لها شروط يمكن ردها إلى نوعين:
1. الأول ليس الحجر بل الحجر الذي يمكن من تيسير كشف الحاملين للفيروس لعزلهم حتى نعد لتجاوز الحجز: إذن الحجز يصبح الاستعداد لفكه. ذلك أن عزل الحاملين للفيروس يسهل علاجهم فيحول دون تعميم العدوى في الأسر التي تصبح بؤر بعدد الأسر التي فيها حاملون.
2. تكييف الحجز مع المحددات التي وصفت وشرطه أن يتعامل معه الجائحة وكأنها حرب بمعنى أن الجيش عليه أن يعد مستوصفات ميدانية في كل قرية حتى يسهل عزل من يثبت حملهم للفيروس كما يحدث مع جرحى الحروب لئلا يصبح الحجز -وخاصة إذا طال-تكثير البؤر وليس الحد من العدوى إلا وهميا إذ ما أن يفك الحجز ستعم العدوى.