الحداثة في مهب الريح(أحمد بن يحيى)
تكون الأزمات الكبرى مصحوبة على الدوام بقلق وجودي ولا تنفك تستتبع تأملات ميتافيزيقية حول الوضع البشري.
ان جائحة كورونا 19 التي تجتاح العالم حاليا، مخلفةً وراءها أرواحا بشرية تعد بالآلاف وهلعا ورُهابا، لم يفُتها أن تضبط عقارب الساعة بإجبارها الإنسانَ الحديث على أن يرى صورته في المرآة أكثر مما يرضى بشتى ضروب السراب التي خلقها لنفسه وانتهى به المآل إلى أن يومن بها، وهو ما منعه من تقدير مكانته في الكون بكل موضوعية.
مع هذه الجائحة يجد الإنسان نفسه شاهدا على فشله أمام عدو لامرئي وعلى كسوف عظمته التي سلبها منه خصمٌ أتى من بُعْدٍ أقل من الذرة. هذا المنافس المجهول هزم عجرفة الإنسان الذي أضحى مُصابا بجنون العظمة بقدر ما تقدم العلم والتكنولوجيا وسجَّلا إنجازاتٍ جديدةً في الوسط الطبيعي والاجتماعي.
هذه الوضعية لا يمكن أن تكون إلا شبيهة بوضعية الشخصية الأسطورية ”إيكار” الذي شارك إلى جانب أبيه وأبطال آخرين في قتل المينوتور، الوحش الخرافي الذي كان مسجونا في كهف. ولكي يفلت ”إيكار” من هذا المكان الجحيمي، طار ليحلق في الأجواء بفضل الجناحين الذين صنعهما له والدُه وثبَّتهما على كتفيه بالشمع. بيد أن الأب أسدى لابنه نُصحاً مفاده ألا يحلق عاليا في السماء وألا يقترب من الشمس. أما وقد انتشى ”إيكار” بنشوة الأعالي ولم يتبع نصائح أبيه، فإنه حلق في الأعالي ليدنوَ كثيرا من الكوكب المنير. وكان تهور ”إيكار” مأساويا إذ ذاب الشمع فهوى في البحر.
يبين هذا المحكي بكل جلاء الطموحات غير المحدودة للحداثة، ويمكن أن يكون ”إيكار” صورة للحداثة الفارغة من المعنى حتى لا نقول المنحرفة الممسوسة بجنون العظمة. حداثة لا تمتحُّ إلا من حب الثروات لا من عظمة الفكر، كما نادى بذلك فولتير على الدوام.
يتصور الإنسان الحديث مشاريع عملاقة ويطمح أن يكون له حضور في كواكب أخرى تبعد عن كوكبنا بملايين الكيلومترات. لكننا نراه أمام كوفيد 19 يتحرك كدمية ويغمغم مثل مبتدئ ضائع لا يعرف اتجاهه ولا ما يقدم أو يؤخر. وهذه الوضعية المماثلة لمأساة قديمة حيث القدر ينقض على فريسته مثل نسرٍ تكشف عن عجز الحداثة في إيجاد تعويذة ترفع هذا الشر الذي يُعَدُّ من الطفيليات التي تنعدم فيها الحياة ولا تتكاثر، حسب ما نعلم، إلا في الكائن البشري.
تجد الحداثة نفسها إذن مضطرة إلى أن تفصح عن ضعفها الذي أخفته لمدة طويلة تحت قناع الثقة بالنفس والغرور، وأن تعيدَ النظر في الأمور على مستوى الإنساني وأن تعيد التفكير في نظام قِيَمها مع إعطاء الأولوية للقيم التي تشجع البساطة والتواضع بعيدا عن الغدر أو العار، وأن تتلافى المغالاة أو تكبحها مطلقا. على الحداثة أن تتسلح بوضوح الرؤية وبعد النظر والرصانة حتى يمكنها رفعُ التحديات التي تهدد وجود الإنسان على هذه الأرض التي استُغِلَّت بإفراط. على الحداثة ألا تهتم بالكم والإنتاجية – وهي بارامترات تثمّن مجتمع الأشياء – بل بنمط عيش الناس وبسعادتهم. آن الأوان للكف عن المجازفة ومحاولة انتهاك القوانين الطبيعية والمخاطرة بعيش القدر الرهيب الذي عرفه شخوص الشريط الطويل الموسوم بـ “الدكتور جيكيل والسيد هيد” لمخرجه فكتور فليمنغ. آن الأوان لتوجيه التقدم صوب تعايش متناغم مع أشكال الحياة الأخرى التي تسكن هذه الأرض، نحو الذات لكبح أي حماسٍ غايتُه تجاوزُ وضعِنا الإنساني. آن الأوان لتغيير الأهداف من الحياة وتعريتها من كل التفاهات، وإرجاعها إلى شكلها الأكثر بساطة، الذي هو سعادة الجميع، بمنأى عن أي نرجسية وأي رغبة في تجاوز وضع البشر.
نرجم المقال عن الفرنسية: إدريس البوشاري