إن خـصـوصـيـة كل دولة تـنـشـأ بالأساس مـن مـحـيـط جغرافي متميز يعزلها عن باقي الكيانات السياسية الأخرى و يضفي عليها هوية سياسية تجعلها تختلف عن هذه الكيانات . وهكذا تميز المغرب منذ القديم بانعزاله في إطار جغرافي مقفل بلور فيما بعد و بالتدريج خـصوصيـتـه السيـاسيـة . لـذا ، فـقـد اتـفـق المؤرخون القدامى على أن مـوريـطـانـيا كانـت لـهـا حـدود طبيعية و اضحة؛ بـحيث كـان يحدها غربا المحيط الأطلسي ، وشمالا البحر المتوسط و شرقا نهر ملوية و جنوبا وادي درعة. (1)
ولعل ميزة هذه الحدود هي أنها كلها حدود طبيعية و ليست مصطنعة ؛ الشيء الذي ساعد على تكريس و بلورة خصوصية الدولة بالمغرب . فهذه الحدود الطبيعية لعبت وظيفتين رئيسيتين :
– الوظيفة الأولى تجسدت في التحديد المبكر لهوية السكان الذين استوطنوا هذه المنطقة بحيث كان اتـصـالـهـم بباقي الشعوب الأخرى اتصالا ظرفيا نتيجة لوجود هذه الحواجز الطبيعية ؛ إذ إن المحيط الأطلسي لم يكن يسمح بتواصل بشري مكثف نظرا لخطورته ؛ كما أن الصحراء شكلت هي أيضا ” فاصلا أو حاجزا بين المغرب و قلب افريقيا “. (2) . أمـا الجـهة الشـرقية ، فـرغم أنـها كانـت ” مـنطـقـة الـهجـرات البـشـرية سـواء مـن المغرب و إليه” (3)، فإن طبيعة المنطقة الصعبة قلصت كثيرا من تأثير هذه الهجرات مما حافط على هوية سكان المنطقة و شعورهم بتميزهم .
– الوظيفة الثانية تجلت في بلورة حدود سياسية قارة(4). فالمحيط الأطلسي و البحر المتوسط و الصحراء كلها حواجز طبيعية من الصعب تغييرها أو التأثير فيها الشيء الذي أدى إلى تـمـاهي الـسكان معها و اعتبارها “حدودا مادية” كـرسـت شـعـورهـم بـهـويـتـهـم . أما نهر ملوية الذي يعتبر مـن الحـدود الـتي يمكن تجاوزها و التأثير فيها(5) ؛ فـإنـه قـد شـكـل مـع ذلـك حـدودا تـاريـخـيـة بين موريطانيا و باقي الكيانات السياسية التي تواجدت بمنطقة شمال افريقيا و ذلك في مختلف المراحل التاريخية . (1)
ثانيا : الوحدة السوسيولوجية
إن المـوقـع الـجـغـرافـي لـلمـغـرب وصـعــوبة مسالكه الطبيعية أدت إلى انصهار المكونات السكانية المحلية و التي كانت تـتـكـون في اغلبها من البربر. فـقـد حافظ هؤلاء على طابعهم الأصلي نتيجة لوقوعهم في إطار جغرافي مقفل . و يفسر مارسي هذه الظاهرة بقوله :
” هناك بين المغرب و تـونـس مـفارقة جغرافية أساسية لم يستطع التاريخ أن يخفف من مضاعفاتها . فإذا
كانت تونس تطل على الـمـتــوسـط ، فإن المغرب يطل مباشرة على الأطلسي أي على الفراغ، مما جعله
يحافظ على أصالته البربرية و يتمسك بعراقة بنياته الاجتماعية “. (2)
كما أن المورفولوجية الطبيعية و المناخية التي تميز بها المغرب أثرت كثيرا في المكونات البشرية التي سكنت المغرب الشيء الذي جعلها تختلف عن المكونات السكانية في البلدان المجاورة. و يستدل على ذلك من خلال المقارنة الـتي قـام بـها أحـد الـباحثين فـي هـذا الـمـجـال بين المغاربة و سكان الجزائر و تونس . فـهـو يـرى أن ” الجزائر و تونس تـعـتـبران بـلـدان متوسطيان في حين أن المغرب يعتبر بلدا أطلسيا بالأساس له نظام طبيعي و مناخي مـخـتلـف ؛ الشيء الـذي يـفـسـر الخـصوصية السياسية للمغاربة” . (3) وتزداد هذه الخصوصية حدة بفـعل العوامل التالية :
– و عورة جبال الريف التي شكلت حاجزا أمام أي اكتساح بشري أجنبي .
– صعوبة الاستقرار بالشواطىء الأطلسية و التي لا تسمح بأي توغل أجنبي لداخل البلاد.
– علو جبال الأطلس المتوسط و قوة شكيمة القبائل التي كانت تسكنها .
– الجدار الصحراوي و وقوفه أمام كل تنقلات بشرية آتية من الجنوب . (1)
و هذه العوامل كلها أفرزت” نسيجا سوسيولوجيا و اجتماعيا ” خاصا و متميزا عن التكوينات السكانية المجاورة .
و قد تنبه المؤرخون الـيونان و الرومان القدامى إلى هذه الخصوصية ؛ فعمدوا إلى التمييز بين أربع مكونات بشرية في منطقة المغرب العربي مابين الفترة الممتدة بين القرن الرابع ماقبل الميلاد و القرن الثالث الميلادي :
– فهناك المور الذين كانوا يتواجدون بين المحيط الأطلسي و نهر ملوية.
– و هناك النوميديون الذين كانوا يعيشون مابين منطقة المور و قرطاجة.
– و هناك الجيتوليون الذين كانوا ينتقلون في الصحراء. (2)
كما يؤكد كامبس إلى أن الاختلاف بين المور و النوميديـين كان واضحا و كان سابقا عن الفترة الفينيقية . (3)
و يبدو أن هذا الاختلاف لـم يـكـن ولـيـد الـظـروف الـطبـيـعـية و الاقتصادية فقط ؛ بل يمكن أن نعزوه أيضا إلى اختلاف في العادات و التقاليد التي كان يتميز بها المغاربة . و يمكن الاستناد في ذلك إلى ما أشار إليه بعض المـتـخـصـصـين في الانثربولوجيا و علم الاجتماع.
وهكذا يرى برتلون إلى أن سكان منطقة شمال افريقيا القدامى لم يكونوا من نسيج بشري واحد فالبربر كانوا يشكلون شعوبا مختلفة و ذلك بشهادة هيردوت(4) و كذا المؤوخ بلين الذي يؤكد هو أيضا على اختلاف الشعوب البربرية لمنطقة شمال افريقيا مستندا في ذلك إلى عدة معايير اجتماعية و ثقافية من أهمها :
– اختلاف في اللغات
– اختلاف في التقاليد و العادات
– اختلاف في البنيات الاجتماعية و التنظيمية . (5)
و قد ساهمت كل هذه العوامل في بلورة وحدة سوسيولوجية مغربية ذات هوية عميقة عملت على إدماج كل المكونات السكانية التي وفدت على المغرب إما من جراء الغزو أو الهجرة .
و هـكـذا أشار بعض الباحثين إلى أن المغرب، نظرا لتوفره على هذه الوحدة السوسيولوجية، استطاع أن يستوعب كل الاكتساحات البشرية الغازية من فينيقيين و رومان و وندال وعرب و كذا الهجرات التي وفدت عليه من شبه الجزيرة الايبرية من موريسكيين سواء كانوا مسلمين أو يهودا . فشكل من كل هذه ” الفسيفساء البشرية ” تركيبة سكانية مندمجة (1). كما أن هذا الاندماج السوسيولوجي هو الذي حمى المغرب من كل الأخطار الأجنبية التي هددت وجوده الـسـيـاسـي ، و الـتـي تـمـثـلـت عـلـى الـخصوص في الاحتلالات التي تعاقبت على المغرب كالاحتلال الروماني ، و الاحتلال البرتغالي و الاحتلال الاسباني (2) ، و فيما بعد الاحتلال الفرنسي .