الحراك العربي والشعبوية وآليات هيكلة الاستبداد(يوسف بناصر)
توقّع عالم المستقبليات المغربي، المهدي المنجرة، أنّ عمر الأنظمة الاستبدادية قصير، وأنّ مداه لن يتجاوز سقف انبعاث الإرادة الشعبية لأبناء هذا الوطن الجريح، وأنّ الزمن العربي ليس بالضرورة ما نراه بأعيننا المجرّدة، التي قد تخدعنا، إنّما هو تلك التحوّلات التي تنضج في داخله لتنفجر في ما بعد على شكل “انتفاضات في زمن الذلقراطية”، وهو عنوان مثير من عناوين كتبه المهمة.
لقد عملت الأنظمة الشمولية في كثير من البلدان العربية على تأطير الأحزاب السياسية لتلعبَ دورًا ثانويًا في الحياة السياسية والتدافع مع النظام في تدبير الشأن العام، بل من الأنظمة ما وظّف المؤسّسات المدنية والسياسية لبناء نظام مستبد يتسم بالنعومة في التعاطي مع المجتمع لترويض المفاهيم التسلطية، ليتم له تزييف الوعي الجمعي، لتلقى تلك المفاهيم قبولًا لدى فئة واسعة من أبناء مجتمعاتهم.
إنّ قوى الرجعية المتحكّمة تستند لتقوية صفوفها على البراغماتيين من السياسيين، وفي ظلّ هذا الزواج النكد بين أطراف لا يبنون مشروعهم السياسي على استراتيجية ديمقراطية؛ ستُفاجئنا ممارسات سياسية تستحوذ على الفضاء العام، إمّا عن طريق إخراج المؤسّسة العسكرية لممارسة القمع والقتل والاعتقال للمواطنين أو بإخراج المؤسّسات الحزبية والهيئات المؤثّرة من إعلام وقوى مدنية ودينية لتعلب دور الأنبياء الكذبة من أجل إخضاع المجتمع لخطاباتهم المزيّفة، وخصوصًا بسطاء التفكير من أبنائه، وهذه الممارسات من الأنظمة الاستبدادية هي مسالك ذهنية للتسلّط كما يسميها المفكّر الأنتروبولوجي المغربي عبد الله حمودي، تثبّتها تدريجيًا في نسقنا الثقافي والسلوكي والاجتماعي لتكون لها القابلية، وآليات التقعيد له تمرّ عبر مؤسّسات مؤثرة يتم إخضاعها كذلك بالقوّة أو بالريع، ونلاحظ أنّ أغلب المؤسّسات الحزبية مثلا في البلدان التي ظهر فيها الحراك أو الثورة الشعبية خلال هذه السنة 2019، على سبيل المثال الجزائر والسودان..، تمّ إفراغ أحزابها السياسية والمنظمات المدنية من المعنى أو القدرة على التأطير والتوجيه والقيادة، فلم يكن لها أيّ دورٍ أساسي أو مؤثّر بل تمرّ في أسوأ حال شعبيًا لكونها ساهمت إلى جانب الأنظمة الاستبدادية المُصاحبة لها في القمع ونشر الفوضى والزيف والتلاعب بعقول المواطنين.
إنّ العقلاء من المفكرين يعرفون أنّ ذهنية الاستبداد لا تتعلّق استثناءً بحالةٍ مرضية طبيعية ملازمة لنسقنا الحضاري الإسلامي والعربي، بل هي ممارسات نزقة إنسانية عامة في ممارسة السلطة، تستند إلى إرثٍ ثقافي واجتماعي وسياسي مشوّه، يستطيبه بعض الحكام ومن يدور في فلكهم، وهؤلاء فقدوا بوصلة التنوير وفضيلة السياسة القائمة على العدل والحق والإنصاف والكرامة، فارتموا في دهاليز الاستبداد.
إنّ مؤسّسة الجيش لا تملك آليات التدبير السياسي للأوضاع في البلدان التي تستولي فيها على الحكم، ومرّت المنطقة بتجربةٍ مأساوية من حكم العسكر منذ الاستقلال، فهذه المؤسّسة تختار في غالب الأحيان أقصر الطرق لتدبير الاختلاف، إمّا بالقتل أو الاعتقال أو النفي أو السجن لتمارسَ الحكم بالغلبة والتغوّل، ولا تمتلك أيّ شرعية أو سلطة تعاقدية طبيعية لممارسة الحكم إلا دعم من تتقوّى بهم من سلطة بطريركية وخطاباتٍ شعبوية لتدافع بها عن اختياراتها المتناقضة والمأزومة أساسًا، ثم تفرضها على الشعوب المغلوب على أمرها، ولا تملك غير ذلك مُكرهة.
إنّ المؤسّسة العسكرية الحاكمة في البلدان العربية من سورية والسودان وليبيا وغيرها، تمارس تغوّلها على جميع المؤسّسات المدنية والشرعية، وتحاول أن تصادر الحق الشعبي في الاختيار، وتقيّد إرادة الشعب في هذه البلدان فتمنع صناعة وبناء نظام طموح يتأسّس على تصوّر ديمقراطي يستند إلى مفاهيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
إنّ ما يقع من مجازر في السودان في حقِّ المدنيين من طرف مليشيات الجيش ومن تجاوزات حقوقية في اليمن وليبيا وسورية..، وما يحصل من اضطهاد وقمع للحريات هو شيء مأساوي لشعوب المنطقة العربية، وممّا يزيد من سوء الوضع تلك البيانات التي تصدر على سبيل المثال عن المؤسّسة العسكرية السودانية، والتي تؤكّد أنّ الممارسة القمعية هي صورة حقيقية وواقعية للأنظمة الانتقالية بالمنطقة والتي تحاول أن تتجذّر وتقوّي نفوذها. وما تلك المناورات التي يخوضها سدنة القلاع العسكرية بالسودان ضدّ قوى الحرية والتغيير إلا صورة من صور رجوع الاستبداد بقوّة ليغتال بقايا الثورة السودانية والتجربة السياسية الحديثة التي نهض بها السودان بعد الاستقلال.
إنّ هذا التشويه الذي تمارسه المؤسسة العسكرية بالمنطقة عموما يعكس جانبا آخر بئيسًا تواجهه القوى الديمقراطية والمنظمات المدنية والمؤسّسات الشرعية، ولعلّ صورة الثورة المضادة في تونس، وفشل المؤسّسة التشريعية في كبح جماح الرئيس، تبيّن مدى عمق وهشاشة الفكر السياسي المدني في منطقتنا، وهي صورة بانورامية لأزمة المراحل الانتقالية للسلطة ببلدان الربيع الديمقراطي، لتمارس الأنظمة الجديدة والمستنبتة في واقع مشبع بالاستبداد آلية الإخضاع مجدّدا كالتي مارستها الأنظمة السلطوية القديمة، فهي تمارس إعادة إنتاج أنظمة متوحشة وقادرة على التكيّف والامتداد، وقد اشتغل خليفة حفتر
وميلشياته بنفس الاستراتيجية في قتال قوى الحرية، وما بقي من فعاليات وشباب حراك 18 فبراير بليبيا وَوَأَدَ الثورة بأساليب مختلفة.
تحاول المؤسّسة العسكرية التي تخرج بسلاحها وبزتها إلى الفضاء العمومي في منطقة الحراك الديمقراطي، ممارسة الشطط في استعمال السلطة والعنف ضدّ المتظاهرين والمواطنين، ولتعيدَ إنتاج أطراف الصراع لتتمكن من استيعاب التناقضات الجديدة التي ظهرت بالمنطقة، وتستفيد من التناقضات التي تشهدها السياسة الدولية والمصالح المتناقضة للدول، هذه اللعبة الخبيثة ستُمكن قوى الاستبداد من تسييج الإرادة الشعبية وتأسيس توافقات بيوقراطية مبنية على المصالح، سواء مع القوى الداخلية أو الخارجية، وقد توظّف آليات الاستبداد الناعم باستقطاب بعض الوجهاء والساسة، ومن له عصبية قبيلة أو انتماء لمليشيات ليكونوا بوصلة الحراك وليلعبوا دور رجل الإطفاء مقابل مكاسب ريعية مؤقتة.
إنّ الإرادة الشعبية في السودان وليبيا وسورية واليمن.. أبانت عن قوّة في التنظيم والتمسّك بالآمال في تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي وفق شروط المرحلة الجديدة، وبناء دولة وطنية بمؤسّسات قوية يعتمد عليها الشعب في تحقيق مبادئ، كانت ولا تزال شعارات كلّ المواطنين والمشاركين في الحراك، ومهما احتالت المؤسّسة العسكرية في هذه البلدان على الحراك الديمقراطي أو مارست التسويف وسياسة العصا والجزرة، وحتى الاعتقال والقتل والتعذيب، وقامت بتمطيط مدّة الفوضى في المنطقة، فستخسر في الأخير شرعيتها وقدرتها على المناورة والتفاوض وهي مهدّدة دائمًا بالانهيار، لأنّ أولوية الشعوب اليوم الإعلاء من شأن المفاهيم الديمقراطية كالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية ومؤسّساتها الفاعلة، ولا شيء سيحول دون تحقيق هذه الأهداف لأنّ مبعثها ذاتي والحاجة إليها اجتماعية وثقافية وأنطولوجية إنسانية محضة مرتبطة بالحقِّ في الوجود.
وقد بدأ نسقنا الثقافي في جغرافيتنا في التحوّل والتفكّك؛ لأنّ التراكم والإرث السياسي والثقافي السابق، فَقَدا كلّ إمكانيّة البعث والحياة والاستمرار، ونحن بحاجة لممارسة تفكيكية دقيقة للقضاء على الداء وإعادة فضائنا السياسي وتشكيل وعينا ومفاهيمنا حول الدولة والمجتمع والتعاقدات الاجتماعية والسياسية. ليبقى بناء الأنساق السياسية الجديدة وفق الشروط والمتغيّرات العالمية الجديدة، ووفق نَفَس الحراك الديمقراطي وروح الإرادة الشعبية وحاجاتها، متوقفًا على تعاقدات جديدة تتأسّس على احترام الذات الإنسانية وآمالها غير المحدودة نحو التحرّر، وأيّ مشروع لا يتضمّن هذه المطالب أو لا يستجيب لتلك الشروط سيعدو مجرّد عثرة طريق في أفق بناء المستقبل، وتأجيلًا غير مبرّر للطموحات المشروعة لكلِّ شعوب المنطقة، وأيّ تأجيل للمشروع الديمقراطي إنما هو نفخ في النار وتأجيج لمزيد من الصراع ودفع لانْوِلاَدِ حراكات اجتماعية ترتبط بالمرجعيات الجهادية أو تجتمع حول الخطابات الشعبوية العرقية أو الطائفية أو القبلية.