بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
خاض حزب العدالة والتنمية بالمغرب تجربة المشاركة الانتخابية لمدة تزيد عن العقدين من الزمن، منها عشر سنوات في قيادة التشكيلة الحكومية، الشيء الذي بوأها مكانة بارزة كقوة انتخابية، وعقب إعلان نتائج انتخابات 8 شتنبر 2021م، اتضح للجميع التقهقر الكبير والملفت للأنظار للحزب على كل الأصعدة والمستويات المحلية والجهوية والتشريعية، وهو الشيء الذي أثار نقاشات واسعة وأسال مدادا كثيرا لتحليل الحدث وتفسيره وتأويله والتعليق عليه، وقد تعددت وتنوعت المواقع والحيثيات حتى النوايا والأغراض التي صدرت منها ولها تلكم التأويلات، وأغلبهم مارسوا هوايتهم المحببة فتعسفوا على الأحداث والوقائع، وتحلَّلوا من الضوابط العلمية والعقلية والأخلاقية وحتى السياسية المرعية في تأسيس حقائق تصمد أمام تقلبات الواقع واختلاف الأزمان، وتلبي تطلعات الأذهان لمعرفة ما كان ولماذا وكيف كان، فسقط معظمها في فخ الاستعجال والارتجال والابتذال والتحامل والتشميت، فكانت الحصيلة في الغالب إنتاج خرافات وأنصاف حقائق وتقديم تبريرات وكيل اتهامات، فغابت النظرة العلمية الموضوعية، لذلك سأحاول استعراض تفاصيل مفاصل التجربة والنظر إليها وَفْق معايير تعصم من السقوط في مهاوي الانطباعات النفسية والخلاصات الجاهزة والأحكام الجائرة المتفلتة من قيود الأمان من الخطأ والزلل، وهي الحياد القيمي والعلم والعدل، قاصدا معالجة السؤال أو التساؤل التالي: مع تساوي حال المغاربة السيء المرفوض قبل حكومة العدالة والتنمية مع حالهم الأسوأ بعدها نتساءل: لماذا لم يتمكن الحزب من تحقيق الأثر الإصلاحي المنشود؟ وما هي مواطن ومكامن القصور والتقصير؟ وهل يمكن أن تكون الانتخابات سبيلا للتخلص من أنظمة الحكم الاستبدادي والظفر بمطلب الحرية في الوطن العربي والإسلامي؟
المحور الأول: أهمية التجربة وفرضيتها
تكتسي تجربة العدالة والتنمية في خوض غمار الانتخابات أهمية كبرى لاعتبارات عدة، أذكر منها:
أول تجربة في المغرب حيث يسود النظام الملكي في المغرب الإسلامي متميزا بثقل أصوليته المتمثلة في إمارة المؤمنين.
أنها جاءت عقب نقاش مستفيض ومفيد حادّ أحيانا بين فصائل الحركة الإسلامية المغربية بين مؤيد مستعد للدفع بالتجربة ومحذّر محجم عنها، وكنا في حاجة إلى الحسم، وهو الأمر الذي لم يتأت نظريا، فتُرك لعامل الزمن عبر التجربة –إن سلمت القلوب- أن تكشف عن الرأي الأنسب والأصوب والأصلح.
امتدادها زمنيا لما يقرب من الربع قرن، منها عشر سنوات في قيادة التشكيلة الحكومية التي تلت الربيع العربي، وهو ما اعتبره أحد أعضاء الحزب ثالث الابتلاءات ورأسها، وقبله ابتلاء الوجود و إثبات الذات، ثم ابتلاء المشاركة في التدبير ولو بالمساندة النقدية أو المعارضة الناصحة.
والمعلوم المعهود من أي تجربة أن تجيب عن السِؤال الذي سِيقت من أجله فقط –كما يمكن الظفر بملاحظات ولكن لا تعتبر خلاصات وحقائق قطعية- فبعض الناس حاولوا أن يحملوا هذه التجربة ما لم تحتمل، فزعموا أنها دليل قاطع على عدم قدرة الإسلاميين على تدبير دولة، وأن الإسلام والسياسة لا يجتمعان، ومنهم من ظن أن الحركة الإسلامية إلى أفول والإسلام قد انسحب من حياة المغاربة إلى غير رجعة فبشر بدولة ليبرالية، وغير ذلك من المزاعم التي التجربة منها براء.
إذن فرضية التجربة هل بإمكان الإسلاميين إحداث تغيير من الداخل والدفع بعجلة الإصلاح نحو إحلال الديمقراطية وتنفس الحرية وتحقيق التنمية، في هذا الظرف ووفق هذه المعطيات؟
والجواب اليوم لا يختلف حوله اثنان ولا يتناطع عليه عنزان أنهم لم يتمكنوا من ذلك، ولنا أن نتساءل عن الأسباب، ومحاولة اكتشاف الجواب فيما يأتي من السطور.
المحور الثاني: الإسلاميون والسلطة في الوطن العربي الإسلامي
نظر الإسلاميون المعاصرون – وقبلهم مفكرو الإسلام ورواد النهضة في العصر الحديث- إلى السلطة من زوايا مختلفة، واعتنوا بها أشد عناية، وبشيء من التجاوز يمكنني القول إن آراءهم اتفقت على أمور واختلفت في أخرى، وبيانها كالتالي:
اتفقوا على أهمية السلطة السياسية كمحتوى وكمنهج، يعني كوسيلة لإنفاذ التغيير، وكموضوع يطاله فعل التغيير، أي إصلاح السلطة والإصلاح بالسلطة، ولا يعوزهم إيجاد الشواهد من القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي .
واختلفوا في كيفية التعامل مع السلطة القائمة والنظام الحاكم، إن كان مستبدا أو فاسدا، يعني حين افترق السلطان والقرآن مصدر الهداية والتغيير العميق، فبرزت ثلاثة أقوال أساسية:
الدعوة إلى امتلاك السلطة.
كثيرا ما يُحرج مناضلو التيار الإسلامي حين يُجابهون بسؤال: هل تريدون السلطة؟ فتراهم يجيبون بما ينم على درجة الغموض تحتل عقولهم ومستوى الحرج الذي يسكن نفوسهم، ولعل ذلك راجع إلى ما اقترن -في الغالب- بممارسة السلطة تاريخيا من انتهازية ومكر وخداع ومحسوبية وعصبية، والسلطان يغري بالطغيان، وبعد أن كنتَ مقدسا تصبح مدنسا…أضف إلى ذلك الانقلابات والاغتيالات كوسيلة، والحروب الأهلية والمآسي الاجتماعية والتردي الحضاري كنتيجة. أسأل الله تعالى أن يجنبنا كل ذلك.
لكن لنتساءل بهدوء: هل يأبى الإسلام أن تمتلك الحركة الإسلامية السلطة؟ وهل ترفض الديمقراطية ذلك؟
وحتى ندفع ما يمكن أن يلقي به سياق هذا النقاش من سوء فهْم نميز بين امتلاك السلطة وبناء دولة بالوسائل السلمية المشروعة، وبين القفز على السلطة واحتلال الدولة، ونؤكد أن التغيير الإسلامي لا يأتي بين عشية وضحاها، ولا هو تبديل أشخاص بأشخاص ولا طائفة بطائفة، وإنما هو عمل أجيال يبدأ بالإنسان فثقافة ثم مجتمع فدولة وأمة . يعني أن السلطة الحقيقية إفراز لتحول مجتمعي شامل وعميق على مستوى القيم والمبادئ والاختيارات والمواقف والسلوكات وحتى الأذواق.
الاكتفاء بالاستنصار بالسلطة.
الاستنصار بالسلطة نوعان إيجابي وسلبي، فالأول هو العمل على جعل السلطة تتبنى المشروع أو بعض جوانبه وتنفيذه، نسميه استنصار تنفيذ، والثاني هو العمل على دفع السلطة إلى عدم الوقوف في وجه المشروع بالمنع أو العرقلة، يعني تحسين العلاقة مع أهل السلطان وتحاشي المصادمة معهم والحرص على عدم توتير العلاقة بهم ضمانا لغض الطرف لإجراء بعض الإصلاح ونسميه استنصار تحييد ، ويكون ذلك إما بممارسة ضروب من الضغوط، وإما بالعرض والإقناع، كما يمكن أن يتحقق بتوظيف اللوبي الداخلي أو الخارجي، ولا يخفى ما ينطوي عليه ذلك من خداع ونفاق وتملق في أحايين كثيرة، إضافة إلى أن قيامه على تصور خطأ مفاده أن السلطة تمتلك قوة تنفيذية ولا تمتلك مشروعا.
العمل والسعي لإصلاحها وترشيد سلوكها.
ولعله طرحٌ وسط بين امتلاكها والاستنصار بها، يعني العمل على إحداث التغيير المطلوب عبر التأثير في المؤثرين، من خلال الدعوة والدعاء والنصيحة والموعظة والمذكرة، وما إلى ذلك، ولا يخلو التاريخ الإسلامي القديم والحديث من أمثلة شاهدة.
وقد أفرز هذا الاختلاف أسئلة كثيرة، من قبيل: ما هو المطلب السياسي للحركة الإسلامية في المدى القريب والبعيد؟ وما هو النظام الذي يحوز الشرعية؟ ومن أي المواقع يجمل بالحركة الإسلامية تصريف قناعاتها ومشاريعها وبرامجها؟ هل يليق بها أن تتصرف كقوة اقتراحية وجماعة ضاغطة، أم كسلطة بديلة ونظام حكم؟
لعل الجواب التفصيلي عن تلكم الأسئلة يتطلب مساحة أكبر مما هو متاح في هذا المقال، ولكن باختصار يمكن أن أقول بلا تردد إن كل نظام يهدف إلى مصلحة الجماعة وخدمة الفرد، ويوفق بين مصالح الناس فهو شرعي بِغَض النظر عن شكله وأسلوبه، لأنه حيث وجدت المصلحة فثم شرع الله ، فالمطلب السياسي الغائي للإسلاميين هو أسلمة الحقل السياسي والاجتماعي، أي تطبيق أحكام الشريعة، ومقدمته مطلب آني وهو تحقيق الحرية وبناء الديمقراطية الحقة، وذاك من أي موقع يتيح التحرك ويفي بالغرض، لأن الحركة الإسلامية ليست طائفة عرقية أو مذهبية أو جغرافية، وإنما هي -أو ينبغي أن تكون- أمة تحمل رسالة وتتبنى مبدأ وتخدم مشروعا، وهذا هو مبرر وجودها وضامن استمراريتها.
إن هذا الطموح السياسي للحركة الإسلامية قبل بمقاومات، كان أشدها مقاومة الأنظمة الحاكمة حيث رأت فيها منافسة في الشرعية، ومنازعة في السلطة والنفوذ، فتبنَّت أربع استراتيجيات تختلف تبعا لنوع وقوة التحدي الذي يشكله كل مكون من مكونات الإسلام السياسي، وهي:
1- استراتيجية الإدماج والاحتواء والتحالف والإيهام بتقاسم المشروع والنفوذ وذاك إن تعلق الأمر بالقوى الراضية بقواعد اللعبة.
2- استراتيجية التضييق والمحاصرة والترقب والحذر وانعدام الثقة لمواجهة القوى الرافضة لقواعد اللعبة.
3- استراتيجية التجاهل واللامبالاة وغض الطرف إن كانت المكون الإسلامي ضعيف الامتداد الجماهيري، قليل التأثير.
4- استراتيجية الردع والزجر لمحاربة القوى المتهمة بالإرهاب أو التي تتبنى العنف.
إذن لم تكن ولن تكون محاولة التيار الإسلامي ترجمة امتداده الجماهيري وشرعيته الدينية إلى التأثير والمشاركة في القرار السياسي بالمهمة السهلة، ويبقى السؤال التالي مفتوحا بدون جواب عملي تطبيقي ميداني مقنع إلى حد كتابة هذه السطور، كيف يمكن للحركة الإسلامية المعاصرة أن تنتقل من التعبئة الدينية إلى الحل الإسلامي؟ لماذا لم تثمر الجهود المبذولة دعويا مردودا سياسيا مناسبا؟
المحور الثالث: معايير محاكمة تجربة وتقييم مشروع إسلامي
لا نريد أن نقيّم النيات لعدم ارتباط النتائج بمقدماتها وبوعثها، فليس صحيحا القول: (إنه عن الخير لا ينتج إلا الخير، وعن الشر لا ينتج إلا الشر)، ولا يستقيم أن نحاكم تجربة إنسانية بأخرى ولا فترة زمنية بفترة سبقتها أو تلتها، وذلك للمغايرة اللازمة، ولذلك نقترح أن نَعرض التجربة على أمور ثلاثة أعتبرها مجتمعة لا مستقلة معايير للمحاكمة والتقويم، وهي:
المعيار الأول: يراعي المبادئ العامة مجردة، يعني أن المجتمع له قيم أخلاقية وسياسية… -بِغَض النظر عن برنامج أو خطة أو مشروع أو الظروف- على أساسها يرفع ويخفض، ويقبل ويرد، ويزين ويشين، ويساند ويعارض، وأهمها: الاستقامة والعدالة والنزاهة وإنكار الذات والصدق والجرأة والشجاعة والوضوح، لا في السلوك الفردي ولا في السلوك الجماعي، وبهذا يكتسب السياسي السمعة الحسنة وهي رأس ماله، لذلك قيل: “رأسمال السياسي السمعة، ولا أضر بالسمعة من الفضيحة”، مع العلم أن الحركة الإسلامية أول حركة عالمية بلا أسرار، وحكومتها أول حكومة بلا خبايا مستورة على الأقل من حيث المبادئ.
المعيار الثاني: يستحضر ظروف الاشتغال والامكانات المتاحة، ويقوم على افتراض أن السياسة بما هي ممارسة السلطة هي فن قيادة الناس وتدبير شؤونهم، وهو ليس أمرا مسطريا حسابيا تنبئيا، ولكن تحكمه دوما استعجالات وعوائق وعواقب ومفاجآت لم تكن في الحسبان، يعني أن نجاعة الأداء مرتبطة ارتباطا وثيقا بالظروف والامكانات، وقد نقول بالمؤامرات، وهذا يجعلنا نتساءل هل النجاح مجهود ذاتي، أم تتداخل فيه عوامل ذاتية وأخرى موضوعية؟ وبالتالي المسؤولية السياسية تكون مشتركة، فلا يمكن مثلا أن ننكر أنه كان لوباء “كوفيد19” تأثير بالغ على العمل الحكومي، وكذا الجفاف والفيضانات، والأوضاع الدولية عموما…، وإلا تركنا للصدفة والحظ الحُكم الفَيصل، يعني يتعين التمييز بين الأقدار والمصائب وبين النقائص والمعايب، وفي مثالنا هذا لو أعملنا قانون التغيير والتبديل، فافترضنا أي مكون سياسي آخر مكان العدالة والتنمية، سيكون أداؤه مخيبا لا محالة، لسبب بسيط هو أن البيئة السياسية لا توفر المناخ المناسب للعمل.
المعيار الثالث: النتائج التي انتهت إليها التجربة في الواقع، ويقوم هذا المعيار على اعتبار أن البرنامج تعاقد بين الحزب والشعب، وبالتالي لكشف الحساب ينبغي الوقوف على النتائج والمنجزات وَفق مؤشرات محددة وعلى ضوئها يقيَّم الأداء ويحكم على التجربة بالنجاح وهو درجات، أو الفشل وهو دركات.
وهكذا يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية اشتغل في ظروف صعبة وبإمكانات محدودة على المستوى الدستوري والسياسي، وعلى المستوى السوسيوثقافي، وعلى المستوى الجيوستراتيجي، وواجه مقاومات حادة ووافق أحداث كبيرة تحتاج رجالا كبارا، فضعفت النفوس واختلطت الأوراق وفسدت المفاهيم والتصورات، فضاعت الوجهة، واضطربت الرؤية فكان أن تخَفَّف من المبادئ وتخلى عن البرنامج وتنازل عن مطلب الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد.
المحور الرابع: مكامن القصور ووجوه التقصير.
سأحاول الوقوف عند بعض جوانب القصور والتقصير في الأداء الحكومي لحزب العدالة والتنمية المغربي، كيف نقرأ الحصيلة غير المتكافئة مع الطموح الآمال والجهود والتضحيات؟
أكيد أنه لا يخرج أمر المشاركة الانتخابية لدى الحركة الإسلامية ولا المقاطعة عن كونها سبيل لإحداث تغيير بدرجة ما في البنى الفوقية والتحتية التي يستند عليها المجتمع، وبالتالي فهي مشروع إصلاحي يقرأ الحاضر ويتصور المستقبل ويرسم معالم وصوى الطريق السالكة بينهما، فهي إذن مستويات ثلاثة: تقدير الواقع أو فقه الواقع، وبناء المضمون ثم تخطيط المنهج، وتبعا لذلك يُفرض علينا في هذا التقييم الفحص والتدقيق في مدى صوابية الاختيارات المتعلقة بتلكم المستويات (أترك للقارئ الكريم الرجوع إلى المصادر والوثائق المعتمدة، واكتفي بإبداء تعليقات وملاحظات، تفاديا للإطالة) .
1- على مستوى تقدير الواقع
الواقع نسق، لذلك فهمه يعني بناء تصور تركيبي نظري شمولي للوقائع السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والأمنية…ومن غير هذا الجهد يبقى الفهم مشوبا بالسطحية والتجزيئية، ولعل هذا ما طغى على تقدير الإسلاميين وقراءتهم للواقع، إذ نسجل غلبة الوصف الأخلاقي الضيق، والاقتصار على إدراك الوقائع منفصلة بعضها عن بعض.
نعم يمكن الاتفاق على أن مجتمعنا فاسد في الجملة، ولكن ما هي درجة هذا الفساد؟ وأين توجد بؤرته؟ وهل يمكن علاجه بأدوية أم بعملية جراحية؟ ومن جهة أخرى يمكن القول إن المجتمع الإسلامي يعرف تفاوتا طبقيا، ولكن طبقاته لا تتمايز بالغنى والفقر فقط كما ظن قوم، وإنما تتمايز أيضا بالتحضر والتخلف، وبالمعرفة والجهل، وبالتعلم والأمية، وبالتدين والفسوق، وبالمحافظة والانحلال، وبالأصالة والتغريب..
إن الإصابة في فهم الواقع يتوقف على فعالية أجهزة الرؤية وأدوات التحليل ، وهو من الصعوبة بمكان خاصة في هذا الزمن حيث تداخل الواقع المخلَّق المصنوع المدعوم بما يسميه البعض “بلاغة الصورة” و”البلاغة الإلكترونية” مع الواقع الفعلي المحسوس، إضافة للتلاعب الإعلامي المتحيز المشوِّه للحقائق.
بالعودة إلى موضوعنا، وإذا رجعنا إلى أدبيات الحزب وخطابه وممارسته يتضح جليا أنه لم يقدر صلابة الحاجز العدائي للمشروع الإسلامي، والذي يساهم فيه كل مكوِّن من مكونات المشهد السياسي والفاعلين فيه بنصيب معتبر رغم تناقضاتهم المبدئية والمصلحية، فالسلطة السياسية الحاكمة تريد إسلاما بدون إسلاميين لأنها تحتكر التمثيلية الدينية بوصف الملك أمير المؤمنين وهذا مرتكز سياسي، يُضاف إلى آخر قانوني متمثل في النص على عدم السماح بتأسيس أحزاب على أساس ديني ، كما تحدد دو الحزب باعتباره وسيطا بين الحاكم والشعب يُسهم في أحسن الأحوال في تأطير المواطنين، لا تمثيلهم والنيابة عنهم، وبالمقابل تريد الأحزاب السياسية إسلاميين بدون إسلام، لغرض علمنة الممارسة السياسية، وهذا الأمر لم يترك للفصيل الإسلامي قرارا ولا موقع أمان داخل المشهد السياسي الرسمي، بل ظلت أمواجه العاتية ترميه ذات الاحتواء أو تقذفه تلقاء الذوبان والتمييع.
أضف إلى ذلك أن فساد المجتمع العام يشكل مقاومة داخلية كبيرة وعنيفة لأي مبادرة إصلاحية، وهذا الذي لم يُفطن إليه، نعم المجتمع مسلم ويريد الإسلام، ولكن أي إسلام؟ إسلام زيد أم عمرو؟ والحقيقة المرة أن للمجتمع مطالب كثيرة مشروعة في الغالب، ولكن ليس له الاستعداد الكافي لتحمل تبعات اختياراته، وكأني به يريد أسلمة الفساد.
وما يقوي هذا الحاجز العدائي ويزيده متانة وصلابة موقف المنتظم الدولي من مشاريع الإصلاح ذات الصبغة الإسلامية، وتدخله بقوة وعنف -متجاهلا كل الأعراف والشرائع، ضاربا عرض الحائط مبدأ السيادة والحرية واحترام القانون- في وجه أي تعبير تحرري وفعل مستقل، لنطرح السؤال هل بإمكان كل بلد أن يعيش كما يريد في زمن العولمة والأمركة؟ ولا يخفى أن مواقف المفكرين المسلمين من الغرب عموما ترددت بين: 1- الاستسلام والتبعية الحضرية. 2- الاستعداء فالانتحار الحضاري. 3- الاستلهام المفضي إلى الحوار الحضاري.
وتجدر الإشارة أمام السواد المحيط بالعمل الإسلامي في هذه المرحلة بفعل الكتلة العدائية الخارجية المتعددة الأطياف والمشارب، تبدو بوارق أمل نأخذها بعين الاعتبار وينبغي أن نصرف اهتمامنا بها وجهودنا لتحقيقها، منها:
إن كتلة أعدائنا اليوم وغدا لها مصالح متنافرة، ومن ثم فالالتفاف والائتلاف سيصبح تنافسا واختلافا.
الاستقرار في العالم وهو مطلب الكل، ومصلحة الكل وضرورة الكل لا يمكن ضمانه إلا بتسيير شؤون العالم في قنوات قانونية دولية.
النفط عصب الاقتصاد العالمي يجب أن تستقر الأمور عند المسلمين لتستقر أسعاره.
من وراء الديمقراطية المصلحة، ولا شيء غير المصلحة، ومصلحة العالم أن يجد وسيلة للحوار مع مليار مسلم.
القرار السياسي عندهم ليس إملاء من جهة واحدة، بل يشارك فيه مديرو الأبناك والشركات الكبرى وهؤلاء صديقهم الربح، والمسلمون مليار زبون لما يعرفوا ذاتهم بعد .
ومن الاختلالات التي طبعت تقدير الواقع لدى العدالة التنمية عدم الالتفات للدراسات العلمية والأطروحات النقدية للواقع الساسي عموما وللمشاركة الانتخابية خصوصا ، وأيضا الانتقائية في تناول التجارب السابقة في دول العالم العربي والإسلامي، والقياس بها مع وجود الفارق، منها تجربة حزب العدالة والتنمية التركي، واكتفي بهذا القدر ولا أزعم الإحاطة، وأنى لمثلي ذلك.
2- على مستوى المضمون
بالرجوع إلى الورقة المذهبية للحزب والبرامج الانتخابية وخطاباته السياسية يمكننا أن نسجل أنه كان طَموحا إلى حد كبير، وأنه حرص على أن تكون المرجعية الإسلامية حاكمة ، إذ أطر مجالات عمله بخمسة اختيارات أو مبادئ كبرى ، وهي:
تعزيز أصالة المغرب وانتمائه التاريخي.
تعزيز سيادة المغرب واسترجاع إشعاعه الحضاري.
تعزيز البناء الديمقراطي وإنجاز الإصلاح السياسي.
الإسهام في تحقيق تنمية شاملة مستديمة.
إقرار عدالة اجتماعية.
ولا أظن أن صياغة البرنامج حَكمتها الرغبة في استمالة الناخبين وتعبئتهم لحملة انتخابية بالنفاذ إلى المخزون النفسي للمغاربة الديني والتاريخي والحضاري، ولكن وبدلالة السياق نؤكد أنها قناعات يمكن أن يكون طغى عليها الحماس والاستعجال وسوء التقدير فأسقطها في المثالية، وليس من أراد الحق فأخطأه كمن أراد الباطل فأصابه .
كما لاحظ البعض أن المشروع والبرنامج يفتقد إلى خطط تنزيل محكمة إجرائية بمؤشرات دقيقة، وأرى أن لهم ما يبرر ذلك، لأن المعطيات المتداولة -حتى رسميا- تنطوي على الكثير من الأخطاء والمغالطات، الشيء الذي لا يسمح بوضع خطة عمل مضبوطة قبل الامساك بزمام الأمور، أو على الأقل تحقيق قدر من الحرية العدالة يجعل المعلومة متداولة في متناول الجميع.
3- على مستوى المنهج
إزاء الوضع الفاسد الذي عرجنا عليه، ولهذا المشروع الذي أشرنا إلى مبادئه، وأمام انسداد مسالك التغيير والإصلاح أمام جمهور عريض من الناس، لم يسلك حزب العدالة والتنمية منهج العنف ولا الانقلابات ولا الاستعانة ب”منقذين أجانب” أو لوبيات ضغط، وهو شيء يحسب له، ويسجل في حسناته، بيد أن اعتماده على الانتخابات كوسيلة للتغيير في ظل حكم مطلق يُحسب عليهم، لأن هؤلاء الحكام لا يسمحون بإجراء انتخابات تؤدي إلى تقليص نفوذهم وسيطرتهم والحد من صلاحياتهم، ولكن تحت الضغوطات الداخلية والخارجية أو مسايرة للجو العام العالمي يُسمح بإجراء انتخابات متحكم فيها بشكل يجعلها لا تفضي إلى تغييرات سياسية هامة.
ولسائل أن يسأل ما العمل إذن؟ وهل إلى خروج من معضلة الاستبداد من سبيل؟ والجواب المؤيد بمنطق العقل وشواهد التاريخ هو ما يسمى “تحدي الشعوب” أو “التحدي السياسي العارم” أو “النضال الاعنفي” وإن شئت فسميه “التجويع السياسي للنظام الدكتاتوري” ويقوم على فكرة مفادها أن: درجة التحرر أو الاضطهاد التي تمنحها أي حكومة تتوقف على الإصرار النسبي للمحكومين على الحرية، ورغبتهم وقدرتهم على مقاومة الجهود المبذولة لاستعبادهم .
وقد حكم هذا الاختيار أسلوب التعامل والتفاعل مع مكونات المشهد، بدءا بالعلاقة مع الذات حيث كان بارزا تلبس الدعوي بالسياسي، وتغليب الظرفية على المبدئية خطابا وممارسة، وفي علاقة الحزب مع السلطة الحاكمة طغى نهج التملق والطمأنة والحرص على تقديم شهادة حسن السلوك والنوايا بمباركة كل خطوة وتأييد كل مبادرة، وفي علاقته مع باقي الأحزاب غلب منهج الندية والمقارنة والمغالبة والتعبئة المضادة، ولا يفوتني هنا أن أنوّه بسعة أفق الحزب عندما فكر في التحالف مع أحزاب أخرى ، وإن حاد التطبيق عن مسار النجاح، وفي العلاقة مع الشعب تم الحرص على اعتماد خطاب متعدد ومتناقض السمات، يعتمد سياسة التبشير بمستقبل سعيد يأتي، والترضية بواقع معيش شح بتقديم دوافع العيش لأفراده، والعمل على خفض سقف المطالب تهيبا من مطلب الحرية، حتى لا يقع الحزب الوسيط في الحرج ويُتهم بعدم القيام بدوره، بإزعاج الدولة ودفعها للمواجهة المباشرة مع الشعب (يمكن أن نمثل لذلك بحراك الحسيمة)، إضافة إلى قطعهم لشعرة معاوية مع غير المشاركين في الانتخابات ولو كانوا إخوة أو بني عمومة.. وغياب أي تفكير جماعي أو حوار مفتوح جدي ومسؤول في مستقبل البلاد، وهذا ما أسميه الوباء الخطير والخطر الكبير، وإليكم صرخة لصاحب كتيب “المؤذنون في مالطا”: طبيعي أن تعرف البلدان أزمات سياسية أو اقتصادية فإنها لا بد أن تكون عابرة وعارضة، أما الشيء الخطير وغير الطبيعي أن تعيش هذه الشعوب أزمات نفسية وفكرية وروحية حقيقية، وأن تكون هذه الأزمات بلون المرض أو حجم الوباء، وأن تكون عامة وشاملة ومتنقلة ومتحركة ومتنامية ومعدية. وتجليات هذا المرض أن نكفر بالماضي الذي كان وبالمستقبل الذي سيأتي، وأن ننسى كيف نفكر وكيف نسأل وكيف نجيب، وكيف نطرق الأبواب الموصدة بإصرار وعناد، وكيف نمارس الغضب المشروع ونحيا بالتحدي. خلاصات واستنتاجات
بعد هذا العرض وهذه المحاولة لتوسيع زاوية النظر طلبا للإحاطة بالتجربة وملابساتها، أشير إلى هذه الخلاصات الموجزة :
تتوسط بين البرامج والمشاريع والوسائل ثم النتائج أمور مفصلية هامة، منها: الاختيار الصائب، والكفاءة والمسؤولية.
تقدير الأحداث والوقائع عبر مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ينبغي أن يُبنى على معرفة علمية، والتي أهم شروطها الموضوعية المؤسسة على حياد قيمي.
لقد صرفت الحركات الإسلامية جهودا كبيرة وطويلة المدى في المواجهات الآنية والأعمال الاستعجالية الإطفائية وقصرت أو تأخرت في الأعمال البنائية والمشاريع المتأنية البعيدة المدى، بما فيها تجديد الذات وتقوية مناعتها وفعاليتها، فكان من نتائج ذلك طغيان هاجس الحفاظ على ما هو موجود على بناء ما هو منشود.
لا ينبغي التنازل عن مطالب الشعوب بدعوى الاكراهات والظروف.
إعداد خطط بديلة عن المشاركة الانتخابية، لأنها ليست أصلا، والحفاظ على مقومات استقلال الإرادة الذاتية والسيادة على القرار الخاص، حتى يتمكن من تصحيح المسار وتغيير الوجهة في اللحظة المناسبة.
الحذر من أن يتسرب مشروع الهداية والتغيير العميق في رمال السياسة المتغيرة.
التغيير لا يأتي بكلمات عنيفة في برنامج سياسي وحملة انتخابية، وإنما بخطة عملية مضبوطة.
التغيير المنشود لا يمكن أن ينبت في بيئة معادية للرأي تفكيرا وتعبيرا وأداء.
فالتغيير ينطلق من عالم النفوس ويمتد إلى المجتمع ثم ينتشر في عالم الثقافة وبعدها يدخل عالم التاريخ.
لا وجود لفعل سياسي منته، فإن السياسة تظل منوطة على وجه الدوام بالنتائج ونتائج النتائج، فما من فعل سياسي إلا وهو رد فعل وتفاعل، واللافعل نفسه غير آمن من أن تكون له عواقب.
إن الشأن في السياسة أن تُعمَل الوسائل إعمالا ذكيا لا عاديا، ولا يمكن إعمال كل الوسائل الممكنة أو المحتملة، وإنما المتاحة ماديا.