الحوار الحضاري والعيش المشترك(أحمد الفراك)_2_
من الهوية الأحادية القاتلة إلى الهوية الحضارية الـمُحيِية
إذا كانت الثقافة المحلية منغلقة على ذاتها تقرأ الوجود قراءة تخصها، تتداول فقط مقولاتها وتمثلاتها بين أفرادها دون أن تنفتح على ثقافات غيرها، تحكم بتاريخها على التاريخ كله، وبتدينها على التدين كله، وبتجربتها على التجارب كلها، فهي تصنع هوية واحدية، متحيزة وإقصائية، فالهوية ولئن كانت هي “المسألة الأساسية للفلسفة منذ قال سقراط اعرف نفسك بنفسك”[1]، فقد تتحول عند الاحتكاك بهويات مخالفة إلى هوية قاتلة؛ تقتل باسم الدين أو العرق أو القومية والطائفة.
ويرجع السبب الأساس في نظري إلى طبيعة التنشئة الثقافية التي تتلقاها وتفكر بها جماعة ما، وخاصة على المستوى الذهني (الواعي واللاواعي) لما تتأثث عقول أفرادها بمقولات عقلية، وتمثلات ذهنية، ومعارف متوارثة، وأفكار مسبقة، أو قل باختصار: قوالب جاهزة، وطرق للتفكير لا يُسمح بالاستغناء عنها في التفكير والتقويم والحكم، فـ”باستيعاب عناصر الثقافة تنمو القدرات العقلية وتتمكن من خلق عناصر ثقافية جديدة. والنتيجة الطبيعية …للتنشئة الاجتماعية هي إنتاج تطابق كاف في “طرائق العمل والتفكير والإحساس”لدى كل عضو من الجماعة، وذلك ليتكيَّف كل شخص ويندمج مع تلك الجماعة من جهة،ولتتمكن الجماعة من البقاء والدوام من جهة أخرى .[2]“
من خلال موقف غي روهر(أو جي روشيه كما يكتبها البعض) أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة مونتريال (ولد سنة 1924)، يتأكد أن الفرد محتاج بشكل كبير إلى ثقافة المجتمع لاكتساب صفاتٍ لا يمكنه بدونها أن يحيا حياته بوصفه كائنا اجتماعيا، وبسبب هذا الاحتياج فإن الفرد يخضع لما يُسمى بحتمية التنشئة الثقافية، بوصفها عملية تطورية بواسطتها يقوم الشخص طوال حياته بتعلُّم واستبطان طرائق تلقي المعرفة وطرائق التصرف والسلوك، واكتساب المعطيات الاجتماعية والثقافية لمحيطه لكي يدمجها في بنية شخصيته حتى يتكيف مع الوسط الذي يعيش فيه.
وبناء على ما سبق تأتي الهوية على صورة الثقافة التي تصنعها، فإذا كانت الثقافة أحدية مغلقة ومصمتة تشكلت الهوية الفردية والجماعية على غرارها منقطعة ومحتضرة. وإذا كنت الثقافة منفتحة ومتسعة لتبادل خبرات وتجارب ثقافات أخرى، إمدادا واستمدادا فستكون الهوية أيضا منفتحة وممتدة، تلقح عناصرها الأصيلة بما انتهت إليه تجارب الثقافات الأخرى. آنذاك تكون هوية مـُحيِية، تحيي ذاتها من خلال تفاعلها وتلاقحها مع ذوات أخرى قريبة وبعيدة، تراجع ذاتها وتنتقد غيرها باستمرار حتى تستوي هوية متجددة ومتزامنة مع مستجدات عصرها. وبهذا المنهج النقدي الذي لا يطري الذات ولا يمتنع من قبول النقد من الغير يمكن للهوية أن تعالج أمراضها وتستدمج أفرادها وتحقق أغراضها، وهذا “التحليل النقدي هو وحده القادر على التمييز بين الزبد الذي يذهب جفاء، وبين ما ينفع الناس في كل موقف”[3] كما يؤكد محمد عابد الجابري.
عمليات التنشئة الاجتماعية المنفتحة قادرة على إدماج الأفراد إدماجا سلسا وتلقائيا لا تكلف فيه في مؤسسات المجتمع التربوية والثقافية والتعليمية والإعلامية والاستهلاكية، لتتشكل هويتهم النفسية والاجتماعية والمزاجية السوية والمنفتحة،عبر آليات: الاندماج والتكيُّف والتقمص والاكتساب والتوافق، حتى يصير “الأنا الواحد” “أنا منفتح”، والذات المعزولة ركنا لا يُستغنى عنه في بناء المجموع وحفظه من السقوط. آنذاك فقط يملك الأفراد والشعوب من القدرات والإمكانات والفرص ما ييسر لهم التعامل الإيجابي داخل المجموع، فيعبرون بشكل طبيعي عن النمط الثقافي العام والمشترك من جهة، ويحيون نمطهم الثقافي الخاص فتتسع هويتهم وتتجد من جهة أخرى.
لا تفيد عملية التنشئة الاجتماعية والثقافية والحضارية دوما الانتقال من ضيق الهويات المنعزلة والجامدة إلى العيش في كنف الغير المختلف حضاريا عبر القبول بكل أشكال التطبيع السلوكي السلبي الذي يذيب الذات المستقبلة ويلغيها في الذوات الأخرى وكـأنها ناسخة للغير منتحلة لثقافته مغلوبة على أمرها ومنهزمة في عقر دارها، وإنما تتجاوزه إلى مشاركة واعية منها وبمقوماتها وبنموذجها مع الأغيار الذين يتقاسمون معها نعمة الوجود وروح الدين وثورة المعرفة وثروة البيئة، الماضي والحاضر والمستقبل، يقول هانس كوكلر: “يجب على الأنا الهوية الثقافية أو الحضارية الخاصة ألا تعتبر الآخر خطرا على هويته الخاصة، لكن يجب اعتباره حظا من أجل فهم العالم فهما جيدا، وضمنيا أيضا معرفة الذات في مرآة الحضارة الأخرى، يعني وعي الذات والآخر بطريقة نقدية”[4].
بالانفتاح
الحضاري على الآخر انفتاحا واعيا ومستوعبا تتمكن الذات من إحياء ذاتها مستثمرة
العناصر المشتركة مع غيرها، ومعززة لعناصرها الموروثة بعناصر وافدة تزيدها قوة
واتساعا وقابلية للتجدد والقبول بالتعدد والتمدد. إن الهوية عبارة عن صيرورة
متغيرة وليست كينونة اصطفائية متوقفة عن النمو، مكتملة وجاهزة، حيث “لا تعطى
الهوية مرة وإلى الأبد، فهي تتحول وتتشكل على طول الوجود”[5]، وبناء عليه فتجديد الهوية
يتطلب مما يتطلبه إحداث تغيير ذهني في الرؤية الحضارية وما يستتبعه من تغيير في
منهجية التفكير والتحليل والتركيب. يقول
عبد الرزاق الدواي: “للحوار بين الثقافات أخلاقيات يتوجب توفرها،
ومراعاتها، في جميع المبادرات الرامية إلى إنعاشه وتفعيله وجعله مثمرا. فلكي يرسى
على أسس سليمة، ينبغي أن يقوم على مبادئ أساسية لعل أهمها: التسامح، والاعتراف بحق
الاختلاف الثقافي، وممارسة النقد والنقد الذاتي. فمن شأن ذلك أن يساهم فعلا في
تهيئة أجواء معنوية وفكرية ملائمة تشجع على قبول مراجعة الآراء والمواقف القبلية
المتخذة إزاء الغير وثقافته، وتفهم مرجعياتها ومراكز اهتماماتها”[6].
[1]– معلوف، أمين.الهويات القاتلة، قراءات في الانتماء والعولمة، ترجمة نبيل محسن، مطبعة ورد، دمشق،ط1، 1999، ص13
[2]– Guy, Rocher. Introduction à la sociologie générale, Ibid. p: 132
[3]– الجابري، محمد عابد. مسألة الهوية، مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت، ط1 ، 1995، ص28
[4]– هانس،كوكلر. المسلمون والغرب؛ من الصراع إلى الحوار، ترجمة حميد لشهب، الدار العالمية للكتاب، الدار البيضاء، ط1، 1430ﻫ/2009م، ص146
[5]– معلوف، أمين.الهويات القاتلة، قراءات في الانتماء والعولمة، ترجمة نبيل محسن، مطبعة ورد، دمشق،ط1، 1999، ص 25
[6]– الدواي، عبد الرزاق. في الثقافة والخطاب، عن حرب الثقافات، المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، بتصرفص(95 و 181)